الشجرة الملعونة بقلم د صديق الحكيم
(1)
عاد الدكتور نجيب يوسف أستاذ أمراض القلب والأوعية الدموية بكلية الطب في الواحدة بعد منتصف الليل من عيادته بمحطة الرمل إلى شقته بالدور الرابع بأبراج القطن المطلة على ميدان فيكتور عمانويل الشهير بسموحة وعلى غيرالعادة كانت الأمور هادئة وصوت التليفزيون غير مسموع كماهو الحال في كل ليلة عندما يضع قدمه خارج المصعد ،ضغط على جرس الشقة كعادته رنتين ثم توقف ثم رنتين
(2)
لم يستجب أحد قال فى نفسه لعلها نامت مبكرا ،أخرج مفتاحه من جيب البدلة وفتح باب الشقة رقم 31 ونادى على زوجته
هند !!
هند!!
لم تجب هند!! لعبت الأفكار السيئة برأسه ،ربما حدث لها مكروه
ربنا يستر
بحث عنها فى أرجاء الشقة ،لم يجدها ،خرج من باب الشقة وطرق باب الشقة المجاورة رقم 32 والتى تسكنها السيدة زينب الوكيل وحفيدها لابنتها عمرو الراعي وكانت هند تقصد هذه العجوز دوما لتقضى معها وقت الفراغ الطويل أثناء تواجدالدكتور بالمستشفى بالنهار وتواجده بالعياده بالليل تزجيان الوقت فى حكايات الزمن الجميل للجدة ومشاهدت التلفزيون وخصوصا قنوات الدراما التي تعرض المسلسل التركي نور ومهند
(3)
كانت السيدة العجوز نائمة ،لأن الوقت متأخر، لكن مع إصراره على قرع الباب قامت إلى الباب على مهل مستعينة بعصاها المصنوعة من خشب الزان
سألها عن هند هل جاءت عندك الليلة ؟ ردت العجوز من خلف باب شقتها الموارب لم أرها والنبى يا دكتور النهاردة لا بالنهار ولا بالليل
(4)
رجع إلى شقته ودخل غرفة النوم وكم كبير من الأسئلة يطرق رأسه بشدة أين ذهبت وليس لها أهل ولا أقارب هنا وهى صغيرة لا تعرف أحداً؟ كيف تذهب وحدها إلى أهلها فى بنى مزار؟
أضاء النور وخلع جاكيت البدلة وعلقه على الشماعة المجاورة للسراحة لمح ورقة صغيرة مثبتة على مرآة السراحة التقطها بسرعة وقرأها
إنها رسالة من هند تقول فيها إنها ذهبت مع حبيبها على عمرو
(5)
أمضى الدكتور نجيب ساعات الليل كلها وحتى سماع اذان الفجر من مئذنة مسجد على بن أبى طالب رأى ولأول مرة في حياته الأسكندرية وهي في ثوب نومها الأسود
لم يغمض له جفن يعيد قراءة رسالة زوجته مرة تلو المرة وهو مذهول ولا يكاد يصدق ماكتبت ناهيك أن يصدق ما فعلت
(6)
أظلمت الدنيا فى عينيه بالرغم من شروق الشمس ووصول أشعتها حتي سريره الذي مازال يتقوقع عليه لم يخلع ملابسه ولا حتى حذائه واضعا رأسه بين كفيه ودفن وجهه ما استطاع فى صدره وبين عضديه واجهش بالبكاء ربما فكر أن ينهى رحلة حياته عند هذا الحد أو ربما يؤجل التفكير في ذلك قليلا حتي يجدها ويغسل عاره ويشرب من دمها
(7)
لم تفلح السنوات الطوال التي قضاها في الأسكندرية وفي فرنسا لنيل الدكتوراه ولم تفلح مكانته العلمية والاجتماعية المرموقة أن تنسيه أصله الصعيدي وعادات عائلته التي لا تعرف سوي غسل العار بالدم دون أن يؤثر علي ذلك دين أواعتقاد أومذهب أو غني أوفقر
(8)
لماذا خانته ؟ لماذا تجرأت عليه وهربت مع عشيقها؟
هل قصر فى رعايتها؟
ربما لأنه كان يتركها الساعات الطوال بالنهار أثناء ذهابه للمستشفى من السابعة صباحا وحتى الثالثة عصر ثم يعود ملهوفا على تناول الغداء الذى تعده هند وبعدها يذهب إلى غرفة النوم ليأخذ جسده المتعب استراحة القيلولة وهى إماأن تواصل مشاهدة التليفزيون أو تدخل معه عندما يناديها فتنام بالأمر
(9)
ويستفيق من قيلولته مابين الخامسة والسادسة مساء على صوت جرس التليفون
شوفى مين ياهند على التليفون
ترفع هند سماعة التليفون :الو مين معاى
ترد عليها سنية مساعدة الدكتور نجيب فى العيادة
الو يا دكتور العيادة على (كُمبليت) والناس منتظرين حضرتك من بدري
مين اللى على التليفون يا هند وترد عليه هند
العيادة
سنية قولى لها هى الدنيا طارت أنا جاي كمان ساعة
هذا هو الروتين اليومي لحياة هند والدكتور نجيب
ويذهب الدكتور إلي عيادته المزدحمة بالمرضي الذين تعبت قلوبهم وأعيتهم الحياة
(10)
يُصارع الدكتور نجيب مرض القلب محاولا إعادة القوة والصحة إلي قلوب مرضاه ليعود بعد ذلك إلي هند منهكا في الواحدة صباحا ليجدها إما مستغرقة في النوم أو أمام التليفزيون والعشاء جاهز علي الطاولة وبيجامة النوم علي الشماعة المجاورة للسراحة
(11)
أصبح الآن كل همً الدكتور نجيب الآن أن يعرف ؟
أن يعرف ماذاو كيف جرأت علي فعل تلك الفعلة الشنعاء ؟
لا بل كيف فكرت فيها من الأساس؟
كيف خططت هند لفعلتها مع هذ الحقير؟
بل شط به الفكر إلي سؤال كبيرأكبر من تلك الأسئلة التفصيلية التافهة
لماذا تخون المرأة؟
لماذا تخون الزوجة زوجها؟
ألايوجد لديها مايردعها من دين أو تقاليد وأعراف أو خوف من لعنة المجتمع أوحتي نقمة الأسرة الصعيدية !!
(12)
كيف كسرت هند كل هذه الحواجز دون خوف؟ أي لذة أومتعة تعادل أوتفوق هذا الجحيم الذي ينتظرها ؟!
كيف ستبرر لأهلها هذا المسلك المعيب؟
وهل سينتظر أهلها تبريرتها ؟لقدأقدمت علي فعلة شنعاء عقابها القتل
لعل هذا الوابل من الأسئلة قد أفرغ بعضا من شحنة الغضب التي ملأت صدره فهدأ قليلا وعاد إلي رشده وهو يتمتم:
البيت المبنى على خطأ من الأساس كيف يواجه عواصف الزمان ؟
(13)
من هو عمرو الراعى ؟ سأل دكتور نجيب نفسه أليس هو حفيد جارتنا العجوز ؟كم كنت مغفل؟
هو شاب فى الخامسة والعشرين من عمره أنهى دراسته الجامعية وتخرج فى كلية العلوم متفوقا على أقرانه مما أتاح له الفرصة ليقنص وظيفة مرموقة في شركة خاصة فكانت فرصة ذهبية تفتح له ابواب المستقبل الزاهر والدخل المرتفع والعيشة الهنية .إنه فتي أحلام المراهقات وسيم وشيك
(14)
الخلافات الأسرية المستمرة بين الأب والأم وقيام الوالد باضطهاد هند فى المعاملة لمجرد أنها أنثي والأم مستكينة لاحول لها ولاقوة ،ما جعلها غير مطمئنة للحياة الزوجية التى رأت نموذجها الأول من نعومة أظافرها من خلال والديها و رغم تجربتها المريرة مع الرجل الأول في حياتها –الأب-
إلا أنها حلمت برجل ثان وهو الزوج يشعرها بالأمان والاطمئنان. وعندما يخيب الأمل ويصير الحلم كابوسا و يعجز الزوج هو الأخرعن توفير هذا الإحساس لها تنكسرفيها الرغبة في البحث عن هذا الإحساس وترضي وتخضع للرجل الثاني مثلما كان الحال مع الرجل الأول حتي جاء الرجل الثالث الذي أيقظ بداخلها الحلم القديم وجعله ماثلا بين يديها
(15)
والذي ربما يكون أول رجل يتقرب منها ويشعرها بأهميتها كحواء ويبرز ويشدد علي ملامح الأنثي المنسية داخل زواياها التي نسيت استعمال أدواتها لا لعلة فيها إنما لتلف في الطرف المقابل ،فيثير فيها هذا المقترب بدهاء احساس الأنثي الذي كادت تنساه فلا تجد أمام إلحاحه المستمر ورغبتها المستيقظة بعد بيات اجباري طويل أن تعتبرهذا المقترب بديلا عن التالف
(16)
ماذا تفعل هند المنحدرة من الصعيد؟ لقد وقعت فريسة صراع بين من يحاول أن ينقذ أنوثتها وبين موروثاتها التي خبرتها عمليا في بيت أبيها في بني مزار وفي بيت زوجها بالحي الراقي بالأسكندرية وترجم هذا الموروث بدقة قول أبيها الذي لم يخرج من بني مزارومن بعده زوجها الذي سافر باريس ومكث فيها سنوات: "جسد المرأة عار وجسد الرجل افتخار، وحتى بعد رحيل شهريار إلى الدار الآخرة فالحور العين والولدان المخلدون هدية خاصة له يتمتع بهن كما يشاء، أما شهرزاد
فإقامتها خالية من الكوليسترول الرجالى وعليها إلتزام الصمت والعفة والطهارة!،
(17)
ويردف شهريار التالف قائلاً
مطالب المرأة الأنثي تطاول وتجاوز وقلة أدب وهياج مسعور، أما طلبات الرجل فهي أوامر وكرامة وعزة وحق طبيعي وواجب مقدس!، وإزدياد الرغبة عند الرجل فحولة أما عند المرأة فهى "سودة"، والسودة تعبير عامي اخترعه المصريون للتعبير عن إزدياد الرغبة عند المرأة، ويظهر من لون الكلمة وجرسها اللغوي أنها نوع من التحقير والتجريس ونسج الأساطير والأوهام حول جسد المرأة الذى يطلب ويتهافت ويتصاعد بلا سقف، ويجوع بلا شبع،يصورونها وكأنها الشجرة الملعونة في القرآن
(18)
وبعد صراعها الطويل استيقظت الأنثي بداخل هند وأبت إلا أن تثور علي الموروث والميثاق الغليظ الذي ربطها برجل يكبرها بربع قرن من الزمان قدم كل مالديه في أول الأمر وظل يحاول بعدها بشتي الطرق أن يسعدها لكن باءت محاولاته بالفشل وتأكد لديه التلف فرضيت أن تعيش في دور الصديقة والخادمة والممرضة وظلت علي ذلك عشر سنوات تكابد رغبتها وتكبت حاجتها ويتقدم بها العمر من العشرين إلي الثلاثين وتنزوي بداخلها الأنثي العاطلة من الثلاثين إلي الأربعين وكاد اليأس أن ينهش جسدها عند منتصف العقد الخامس
(19)
لكن شيطان الإنس الذي زين لها الباطل ووعدها بالأحلام، دعها فاستجابت له وليس له عليها سلطان إلا جماح رغبة الأنثي بداخلها، لفظها بعد أن ذاق عسيلتها الآسنة وتخفف منها عندما نامت تحلم بالمن والسلوي وتركها علي وسادتها الخالية تواجه مصيرها المحتوم بطلق ناري في رأسها التي حلمت وفكرت وخططت ونفذت حتي لاتشتكي الرغبة بعد اليوم
(20)
ثلاثة رجال الأب والزوج وشيطان الإنس، الجميع أجرموا في حقها منذ أن ولدت وحتي فارقت الحياة فالأب دفن القلب في البداية وأزهق الروح في النهاية والزوج كبت رغبتها ومنعها حقوقها كأنثي وأذلها وشيطان الإنس أغواها ثم تنكر لها ودل الزوج علي مكانها فأرسل للأب ليغسل عاره الجميع شياطين الإنس يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غرورا حواء هي من أخرجت آدم من الجنة وحواء هي وحدها من تتحمل جنون الأب وتلف الزوج وغواية الشيطان فهل يفلت شياطين الإنس بخطاياهم وتعاقب حواء وحدها ؟
المسودة الأولي 10/5/2010
المسودة السابعة 20/3/2012
التعليقات (0)