الشاعر الذي غنت له أم كلثوم
أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي
بقلم : حسن توفيق
قليلون هم الذين يعرفون متى ولد هذا الشاعر ومتى رحل عن عالمنا، وكيف عاش على امتداد سنوات حياته، لكني أتصور أن كثيرين من عشاق القطبين الكبيرين محمد عبدالوهاب وأم كلثوم يعرفون على الأقل اسمه، فقد غنى له عبدالوهاب قصيدة «الكرنك» كما غنت له أم كلثوم قصيدة جميلة ما يزال العشاق يستمتعون بأن يستمعوا إليها حتى الآن
أنا لن أعود إليك مهما استرحمتْ دقاتُ قلبي
أنت الذي بدأ الملالةَ والصدودَ وخان حبي
فإذا دعوت اليوم قلبي للتصافي لن يلبي
وفي هذه القصيدة صور رائعة للعاشق الذي يسهر وحده معذبا، وهو يتذكر ما كان من حب، ويتحسر على أيامه ولياليه الفائتات
يسهر المصباحُ والأقداح والذكرى معي
وعيونُ الليل يجري نورها في أدمعي
قصة الأمس أناجيها وأحلامُ غدىِ
وأمانيُّ حسانٌ رقصتْ في معبدي
وجراح مشعلات نارها في مرقدي
وسحاباتُ خيال هائم كالأبدِ
وإذا كانت هذه القصيدة مشهورة على نطاق واسع، فإن لمبدعها قصيدة أخرى غنتها مطربة رائعة هي أسمهان، لكنها ليست معروفة، وربما كان السبب « أن الشاعر أهداها إلى أسمهان في مارس سنة 1938 فغنتها لحساب الإذاعة البريطانية، على ان تذاع من إذاعة لندن وحدها » ولهذا لم يتحقق لها ما تحقق لقصيدة «الكرنك» وقصيدة «قصة الأمس» من انتشار جماهيري واسع، ومما ورد في هذه القصيدة العذبة والرقيقة
يالعينيك ويالي من تسابيح خيالي
فيهما ذكرى من الحب ومن سهد الليالي
عبرات الأمل المسحور في دنيا الجمال
وشحوب من ضنى اللوعة والسقم بدَالي
وسؤال يعبر الأفق إلى رد السؤال
وحديث طال في صحبة أيامٍ طوال
وذهول الشاعر الهارب من حلم الوصالِ
وشقاء الروح يسمو نحوها طيفُ ملالِ
وصراع في هدوء، وعتاب في دلالِ
وعذاب كعذابي يا لعينيك ويَالي
قد يتصور الذين استمعوا إلى ما غنته الأصوات الرائعة من شعر هذا الشاعر إنه رومانسي رقيق وأن عالمه الذي عاش فيه عالم يفيض بتنهدات الحب، لكن الحقيقة الغريبة هي أن هذا الشاعر قد شارك في الحرب، أعني الحرب العالمية الثانية، وهو هنا يذكرنا بشاعر وكاتب مهجري كبير هو ميخائيل نعيمة الذي شارك في الحرب العالمية الأولى باعتباره جنديا «أمريكيا» ضمن القوات الأمريكية التي قاتلت في فرنسا خلال تلك الحرب، وبعد عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كتب قصيدة مؤثرة عن مآسي الحروب بصورة عامة، أشار فيها إلى ما يتعرض له العرب من هوان وإذلال
أخي إن ضج بعد الحرب غربيُّ بأعماله
وقدسَ ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمتْ بمن دانا
بل اركع صامتاً مثلي بقلب خاشعٍ دامٍ
لنبكي حظ موتانا
أخي إن عاد بعد الحرب جنديُّ لأوطانه
وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلاَّنه
فلا تطلبْ إذا ما عدتَ للأوطان خِلاَّنا
لأن الجوع لم يترك لنا صحباً نناجيهم
سوى أشباح موتانا
هذا ما كان من أمر ميخائيل نعيمة، أما صاحب «الكرنك» و«قصة الأمس» و«يالعينيك ويالي» فإنه كرر تجربة الشاعر والكاتب المهجري الكبير دون قصد بطبيعة الحال، حين التحق بالقوات البريطانية التي كان يقودها الماريشال «مونتجمري» في الصحراء الغربية لمصر، وكان في مواجهته وقتها «ثعلب الصحراء» روميل، لكن شاعرنا الذي لم أذكر اسمه حتى الآن لم يلبث أن ترك حياة «الجندية» وانطلق إلى لندن، ليعمل هناك في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية منذ أواخر فبراير سنة 1944ثم استقال في يونيو سنة 1946، ومن لندن كتب هذا الشاعر رسائل عديدة لأحد أصدقائه في القاهرة، وفي هذه الرسائل يرسم له انطباعاته عن الحياة في مجتمع غربي، ويقارن بين مثل هذا المجتمع والمجتمع الشرقي، قائلا «الفارق الملحوظ هو تقديس الحرية الفردية إلى أبعد حد »
في لندن، تزوج الشاعر شابة إنجليزية جميلة، وأنجب منها طفلة، وكان يمكن أن يعيش هناك هانىء البال، لكن هذا لم يتحقق لماذا؟ وكيف؟ ومن هو هذا الشاعر الذي يردد العشاق ما أبدعه «أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي»؟
أحمد فتحي
الشاعر الذي تحالف مع الشيطان
اكتفت أم كلثوم بأن تغني له قصيدة واحدة، هي التي يستهلها قائلا أنا لن أعود إليك مهما استرحمتْ دقات قلبي وغنت له أسمهان قصيدة واحدة كذلك، مطلعها يالعينيكِ ويالي من تسابيح خيالي وكان محمد عبدالوهاب قد سبق هاتين المطربتين الرائعتين فغنى له قصيدة الكرنك التي يقول فيها
حلم لاح لعين الساهرِ
وتهادى في خيالٍ عابرِ
وهفا ملء سكون الخاطرِ
يصل الماضي بحلم الحاضرِ
طاف بالدنيا شعاع من خيالي
حائر يسأل عن سر الليالي
ياله من سرها الباقي ويالي
لوعة الشادي وَوَهْمُ الشاعرِ
حين ألقى الليل للنور وشاحه
وشكا الطلُّ إلى الرمل جراحه
يا تُرى هل سمع الفجر نواحه
بين أنداء النسيم العاطرِ
أحمد فتحي هو الشاعر الذي كتب هذه القصائد التي تسببت بعد غنائها في ذيوع اسمه بين الناس، وإن كان كثيرون لا يتذكرونه الآن، خاصة من أبناء الجيل العربي الجديد، وهؤلاء معذورون بطبيعة الحال، لأن ساحة الغناء العربي قد أقفرت ولم تعد تتردد فيها إلا أصوات النهيق والنقيق والخوار
لم يهتم النقاد بالشاعر أحمد فتحي، لكن صديقه الشاعر صالح جودت تكفل بأن يصدر عنه كتاباً كاملاً بعنوان «أحمد فتحي شاعر الكرنك» وقد صدر الكتاب في ديسمبر سنة سنة 1973، ومنه نستطيع التعرف على حياة الشاعر وشعره بصورة دقيقة، فهو لم يعش سوى سبع وأربعين سنة، فقد ولد يوم 2 أغسطس سنة 1913، وكان إذا تعرض لمحنة أو واجهته أزمة، يرجع السبب إلى أنه من مواليد رقم مشؤوم هو 13 ورحل الشاعر عن عالمنا يوم4 يوليو سنة 1960بعد أن خاض تجارب حياتية، بعضها صعب، وبعضها غريب، ويتحدث صالح جودت عن فرحة صديقه عندما غنت له أم كلثوم قصة الأمس في أيامه الأخيرة، قائلا «أما نصيبه المادي من هذه الأغنية، فلا يزيد على خمسين جنيهاً، ينفقها في غمضة عين، ويعود إلى حانته ليغرق همه في الكأس، ويستسلم لموجة قاتلة من اليأس، ويصعد ذات ليلة، هي ليلة 4 يوليو إلى غرفته رقم 14 بفندق كارلتون شارع26 يوليو بالقاهرة ويحس أنه متعب مكدود، ويحاول أن يظفر بأحد من أصدقائه الأطباء، فلا يجد منهم أحداً، ويصبح صباح حزين، وفي الساعة العاشرة من الصباح يصل الطبيب، فيجد أن رحمة اللَّه بالشاعر قد سبقته في ساعة مجهولة من الليل »
لأحمد فتحي كتاب وحيد، أقرب إلى الرواية، ولكنه على ما يبدو سيرة ذاتية مستترة ومتخفية، وهو كتاب «اللَّه والشيطان» ويروي الشاعر في كتابه هذا على لسان البطل ما يلي لم أكن في صدر صباي طفلاً حسن السلوك على أي حال، وهذا هو ما كان يحدو بأمي إلى تخويفي بالشيطان كلما ثارت النزعات الخبيثة في نفسي، تلك النزعات التي كانت تزين لي الحماقات دائماً، وفي كل مكان ويواصل أحمد فتحي حديثه على لسان البطل فيقول « حين دلفت إلى سن الشباب، وأخذت أتناول الحياة من كل جانب، وأروي من شبابي ظمأه إلى المتعة واللذاذات، وجدت أني أغدو على مر الأيام، صديقا حميما للشيطان، وتابعاً من أتباعه المطيعين، وكم كان يحز في نفسي أنني لا أستطيع أن أراه »
وأما القصة المؤثرة الحقيقية التي تجعلنا نتعاطف مع أحمد فتحي رغم إدراكنا أنه وحده المسؤول عنها، فهي قصة زواجه من الشابة الإنجليزية الجميلة عندما أقام في لندن وعمل في إذاعة العربية هناك، ذلك أنه لم يستطع مواجهة تكاليف الحياة الزوجية، فقرر أن يهرب من لندن، عائداً إلى القاهرة، دون أن يصطحب معه زوجته كارول ولا ابنته الطفلة الصغيرة التي كان يتذكرها باستمرار، كلما أفرط في الشراب، وأحس بأنه ارتكب أمراً صعباً تجاه طفلة رقيقة أنجبها، ثم تركها تواجه مصيرها مع أمها التي حكمت لها المحكمة غيابياً بالطلاق
لم يبق من أحمد فتحي سوى كتاب «اللَّه والشيطان» وديوان شعر صغير بعنوان «قال الشاعر» ولم يبق ممن يتذكرونه إلا الذين يستمعون إلى قصة الأمس وها هو يصور حياته ومعاناته عندما ابتعدت عنه الحبيبة
إن يومي ضنى وليلي سهاد
وجراحي تشكو جنون النصالِ
وحنيني إليك هَمٌّ مقيم
ملء قلب من حبه غير سال
ودموعي منهلة غام فيها
أفق لاح كالضباب حيالي
وظنوني لئيمة الهمس تترى
مرجفات بكل قيل وقال
يا تُرى مَنْ عرفتِ بعدي ومن
يلقاك في يوم موعد لوصال
ومَن الشاعر الذي يتغنى
لك بالحب في أسى وابتهال؟
التعليقات (0)