كيف يقرأ "القارئ" الشعر؟، بعيدا عمّن يفسّر الشعر ومن يدرس ويفكّك ويدخل بالنص الشعري إلى مختبر به كشّافات ومشارط وأجواء مطهّرة ومواد تخدير وطاولة جراحة.. هناك حقيقة مُهملة وليست قابلة للتعليب، أن للقرّاء أيضا أقلام لا تعنيها المدارس النقدية والضوابط الأكاديمية وفلسفات التحليل والتفكيك والتوليد.. هي أقلام عندما تعشق نصا، تكتب على هوامشه أو تضع خطوطا تحت كلماته.
هي قراءة عاشقة قد يُعلن الأكاديمي سخطه عليها ويرفضها الناقد، ولكن القارئ "يجب" أن يكون معنيا بالسؤال: كيف يقرأه القارئ؟. "القارئ كاتبا" فكرة راودتني واستغرقتني طويلا ولم تواتيها الفرصة كي تُعلن في دنيا الأبجدية سؤالاتها، وتدعو القرّاء أن "يثوروا" من أجل امتلاك "حقّهم" في نشر قراءاتهم العاشقة.
"إني أرى" مجموعة شعرية للشاعر الجزائري ميلود خيزار، صدرت حديثا عن دار النهضة العربية ببيروت، استوقفتني أبجديتها المُشعّة ومسّني جنّيها، فأوغلتُ قارئا عاشقا، فإذا أنا أمام كشف شعري يموج بالرؤى والتجليات..
لا أرض تُنذر.. بالنّجاة
سأموت بين الأزرقين
سماؤها
ومياهي العطشى..
سأقعد للوساوس
في عماء المسّ
واجنّيتي
متعوّذا بالشعر والهذيان
من ظنّ الرقاة
الإسراف في اللغة أو الاقتصاد فيها، تدبير إبداعي في بيت الشعر ليس مُتاحا لأي شاعر، ولكنه تدبير يعني القارئ المُستعجل المتعجّل في سياحة بؤبؤيه من أول اليمين إلى أقصاه على سطر لا يريد له أن يطول، ولا يُريد للأسطر أن تصير سطورا متهاوية تحت بعضها كبيوتات متدحرجة من أعلى الجبل.. و"إني أرى" فيها لمسة متميزة لهذا التدبير الإبداعي الذي يسيح فيه القارئ متلمّسا للجمال دون أن تباغته تلك اللحظة المملة التي تعيده إلى أول الورقة كي يمسك بخيط الدخان" في القصيدة.
لم يبق من أدوات الزينة
غير مراود الحروف
فابتسموا.. أيها التعساء
لتقتات عائلة المُصوّر
اضحكوا..
وكأنكم تقرؤون أصابع الضوء
تتحسّس
المناطق الممنوعة
"إني أرى" أباحت المعنى ولكنها لم تستبح عذرية الكلمة، فالقارئ أمام روح شعرية تحترم قدسية اللغة وهي ترتسم أمامه في قصائد المجوعة جنيّة تتجمّل وتغيّر ملامحها في كل نص، كي تغويه وتستدرجه ليغرق في النّهر الأبجدي.. اللغة الغاوية التي يفتقدها القارئ في زمن الإجرام بحقّ اللغة، فلم يعد خافيا أن هناك شعراء أساؤوا للغة وكانوا سببا في العلاقة "المتردّية" بين القارئ ولغته..
يا عابر الرؤيا
أراني نلت من قدري
خدعت مراجع التأويل
ما يكفي
لأُنفى مرتين
وأنتهي.. في حضن "زوليخا"
شهيّا..
عاريا..
منّي
ومن وهم الرُواة.
القارئ العاشق يستطعم النص ويستلذّ اللغة ويلامس جوهر المعنى بذوقه وربما من خلال الحالة النفسية والوجدانية التي يقرأ فيها النص الشعري.
هذا القارئ غير معنيّ أن يفهم الشعر ولا يسعى إلى تفسيره، فمنتهى مقاصده أن يمدّه النص الشعري بجناحين كي يرتاد المجاهيل ويوغل في الأعماق ويستبطن ما يتجاوز الفكر والتفكّر والعقل والتفكير إلى نوع من المعرفة مرتبط بالروح ذاتها.. "إني أرى" تحرّض القارئ أن يرى وأن يرسم مجرّة ويعيد تسمية كواكبها، ويمارس الحلم برموش ترتفّ أمام مرآة التأمّل وليس التفسير والتأويل..
.. وطويت دفة الكتاب، كانت قراءة أولى رأيت فيها ما لا تُبيحه لغة الوجد في الكشف الكتابي.. رأيتني يوسف في منتهى الإيمان ورأيتني زنديقا يلتحف لونا من الكفر الأخضر ويبشّر بالسلام، ورأتني تائها بين "هنّ" متعرّيا على ضفّة نهر، أراقص نسيما مثقلا بأكمام الأزهار ودم عابق واستصراخات مكتومة تطلب النجدة..
وقد اصطدت للقارئ بعضا من "وجه نيرين" الذي أهداه الشاعر إلى .. نون
كان يلزمني
هدم القواعد
لأنظر..
نحوك
تراجعت الموجة
وانكسر زجاج المدّ
شهقة.. شهقة..
وأنت تغسلين الماء
بزهرة يدك القدّيسة
الطالعة.. لتوّها
من كذبة الصّيف
أقرب منك إليك..
أكون أبعد.. عنّي
مثل خاتم عاشقة
سيّئة الطالع
تأكله طحالب البحر.. في قاع الظّلام
ورمل الشاطئ يزحف
كجنديّ جريح
إلى شمسيتك التي
يغفو صباح طريّ في ظلّها
حالما... بالسلام
يُهمل الصفصاف ضفائره
على كتفيك
شالا أخضرا
فيما.. عند قدميك
يجري جدال أزرق
بين كلام النار
ونار الكلام
أنظر ضربة حرف
التعليقات (0)