إبراهيم طوقان يواجه أمير الشعراء
بقلم : حسن توفيق
يمر الكائن الحي بمراحل متعاقبة خلال رحلته مع الحياة، فالشجرة المثمرة التي ننعم بظلالها ونأنس بحفيف أغصانها كانت مجرد بذرة، أما الإنسان إذا عَمَّر طويلاً فإنه ينطلق من الطفولة إلى الشيخوخة مروراً بالمراهقة واكتمال الشباب وحيوية الرجولة ونضجها، وعلى الرغم من أن لكل مرحلة جمالها الخاص الذي تتفرد وتتميز به إلا أن ما يصاحب الشيخوخة من متاعب ومن ضعف للجسد رغم عشق الحياة يدفعنا للشكوى من تلك المرحلة، وهذا ما يؤكده المتنبي العبقري في بيتين رائعين:
وإذا الشيخ قال أفَّ فما
مَلَّ حياةً وإنما الضعفَ مَلاَّ
آلةُ العيش صحةٌ وشبابٌ
فإذا ولَّيا عن المرء وَلَّى
لم يعش إبراهيم طوقان هذه المرحلة - مرحلة الشيخوخة، فقد رحل عن عالمنا وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وخلال تلك السنوات عرف الحب وتعذب، كما تقلبت أمواج الحياة التي ظل يواجهها إلى أن أغرقته دوامة المرض الذي لازمه وأرهقه، فعندما كان طالباً جامعياً ذاق حلاوة الحب ومرارته، وأثمر ما تذوقه قصائد رقيقة ناعمة، تنوعت ما بين فرحة بلقاء الحبيبة وحسرة على موعد لم يتحقق واستعادة لذكريات حلوة، لكن هذا العاشق الذي تعذب لم ينسَ أنه الأخ والمعلم لأخته الشاعرة فدوى طوقان التي كانت تكتب له من نابلس لتستشيره وهو في بيروت في كل ما يتعلق بحياتها واهتماماتها وقصائدها الغضة المبكرة، وكان هو يهتم برسائلها ويجيبها باعتباره أخاً ومعلماً خصوصياً لها ولو من بعيد .
في إحدى رسائله - بتاريخ 26أكتوبر سنة 1930 - يقول إبراهيم طوقان لأخته فدوى : أختي العزيزة المجتهدة النشيطة فدوى دام بقاؤها سلام وتحية وقبلات وأشواق، نهار أمس أخذت تحريرك الجميل فسررت به جداً ولا سيما عندما أكدت لي فيه أنك تكتبين بدون مساعدة أحد، وسررت جداً فوق ذلك بنشاطك واجتهادك ومواظبتك على الدروس والحفظ . من ثلاثة أيام وأنا في شغل مستمر متعب، كنت أصلح دفاتر الإنشاء للتلاميذ وعددها مائة وأربعون دفتراً، فتأملي ما أكبر هذه الكمية ثم تفكري بصعوبة هذا العمل ومشقته عندما يكون التلاميذ ضعافاً
لهذه السطور من رسالة إبراهيم طوقان لأخته بعد أن أصبح معلماً في بيروت دلالة مهمة على ما كان يعانيه، وهذا ما دفعه لأن يعارض ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي الذي تحدث عن رسالة المعلم ووصفه بأنه يكاد يكون رسولاً، وأشار إلى قيمة العلم الذي يجلو الظلمات ويزيحها بعيداً عن العقول، أو كما يقول
قم للمعلم وَفِّهِ التبجيلاَ
كاد المعلم أن يكون رسولاَ
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي
يبني وينشىء أنفساً وعقولاَ
سبحانك اللهم خير معلم
علمتَ بالقلمِ القرونَ الأولى
أخرجتَ هذا العقل من ظلماته
وهديتَه النورَ المبين سبيلاَ
أرسلتَ بالتوراة موسى مرشداً
وابن البتول فعلَّم الإنجيلا
وفَجَرْتَ ينبوعَ البيان محمداً
فسقى الحديث وناول التنزيلا
عَلَّمتَ يوناناً ومصر فزالتا
عن كل شمس ما تريد أفولاَ
واليوم أصبحتا بحال طفولة
في العلم تلتمسانه تطفيلا
بالطبع فإن أحمد شوقي كان يحيا حياة منعمة، ويعيش في قصر فخم، ولديه الخدم والحشم والأتباع والمرافقون، وهكذا كتب ما كتب عن المعلم دون أن يحس بفداحة الأعباء اليومية الملقاة على كتفي كل معلم، خصوصاً إذا كان تلاميذه ضعافاً، كما يقول إبراهيم طوقان لأخته، ومن هذا المنطلق قام بمعارضة ما كتبه أحمد شوقي، قائلاً
شوقي يقول وما درى بمصيبتي
«قم للمعلم وفه التبجيلا»
اقعدْ، فديتك، هل يكون مبجلا
مَنْ كان للنشء الصغير خليلا
ويكاد يفلقني الأمير بقوله
كاد المعلم أن يكون رسولا
لو جرب التعليمَ شوقي ساعةً
لقضى الحياةَ شقاوةً وخمولا
حسبُ المعلم غمةٌ وكآبةٌ
مرأى الدفاتر بكرةً وأصيلا
مائة على مائة إذا هي صُلِّحَتْ
وجد العمى نحو العيون سبيلا
ولو أن في التصليح نفعاً يرتجى
وأبيك، لم أَكُ بالعيون بخيلا
عندما كبر العاشق أصبح الوطن عشقه
كبر العاشق... أصبحت الحياة أمام ناظريه أكثر اتساعاً ورحابة.. لم يعد يجلس أمام شباك غرفته، ليتابع خطوات حبيبته ذهاباً وإياباً فيتنهد .. لم يعد يذهب إلى قاعة المكتبة في الجامعة الأمريكية ببيروت ليرى حسناء بجمالها متنقبة.. لقد أصبح العاشق معلما، وعليه أن يصحح مئات الدفاتر الخاصة بتلاميذه وعليه أن يراجع ما يقدمه لهم، وعليه أن يرد على رسائل أخته الشاعرة فدوى طوقان، لكي يوجهها في مسيرتها الشعرية... ولأن العاشق قد كبر، فإن وطنه أصبح شغله الشاغل، فهذا الوطن فلسطين يتعرض لمحنة ولا يفيق منها إلا على محنة أخرى أشد وأصعب من سابقتها ... هذا هو إبراهيم طوقان يحس إحساسا عميقاً بما يتعرض له الوطن، ويراقب في نفس الوقت زعماء هذا الوطن، فيدرك أنهم مختلفون فيما بينهم، وأن خلافاتهم ليست حول المصلحة العامة، وإنما حول مصالحهم الشخصية، وماذا يملك العاشق الذي كبر سوى السخرية من هؤلاء الزعماء؟
أنتم المخلصون للوطنية
أنتم الحاملون عبء القضية
أنتم العاملون من غير قول
بارك الله في الزنود القوية
وبيان منكم يعادل جيشاً
بمعدات زحفه الحربية
واجتماع منكم يرد علينا
غابرَ المجدِ من فتوح أميه
وخلاص البلاد صار على الباب
وجاءت أعياده الوردية
ما جحدنا أفضالكم غير أنَّا
لم تزل في نفوسنا أمنيَّه
في يدينا بقية من بلادٍ
فاستريحوا كي لا تطير البقية
هذا الإحساس الفاجع بأن مأساة مروعة توشك أن تحل بالوطن، بينما الزعماء لاهون، وليس لكل منهم همُّ أو غاية إلا أن يحقق مغانم شخصية، هو نفس الإحساس الذي غمر قلب أمير الشعراء أحمد شوقي، حين راقب زعماء مصر الساعين وراء نزواتهم وشهواتهم ومصالحهم دون أن يتذكروا أن الوطن بحاجة ماسة إلى جهودهم الجماعية التي لو تكاتفت فيما بينها لكان لها أعظم الأثر وإذا كان إبراهيم طوقان قد سخر من زعماء فلسطين سنة 1935، فإن أحمد شوقي قد سخر من زعماء الأحزاب المصرية سنة 1924، حيث سألهم وقتها قائلا :
إلام الخلف بينكمو إلا ما
وهذي الضجة الكبرى علاما؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض
وتبدون العداوةَ والخصاما؟
وأين الفوز؟ لا مصر استقرت
على حالٍ ولا السودان داما
شببتم بينكم في القطر ناراً
على محتله كانت سلاما
كأن أحمد شوقي لم يكتب هذا الذي كتبه سنة1924 وإنما كتبه في أيامنا هذه، فنار الخلافات التي تشب وتشتعل بين أبناء الوطن الواحد هي في نفس الوقت برد وسلام على قلوب الغزاة الذين يحتلون أرضنا العربية، وهكذا يمكننا أن نطبق ما كتبه أحمد شوقي على قيادات السلطة الوطنية وقيادات حماس في فلسطين، كما يمكننا أن نطبقه كذلك على الميليشيات المتناحرة في العراق، وسعي قصار النظر من قادتها لأن يفتتوا هذا الوطن العربي الغالي، لكي يفوز كل منهم بقطعة من الفتات يشتهيها !
وحين نعود إلى إبراهيم طوقان، فإننا نـجده مهتماً برصد ما يقوم به الخونة من سماسرة الأرض الذين كانوا يبيعون أرض فلسطين للصهاينة، كما نـجده مهتما بمراقبة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وها هو يصور هؤلاء المهاجرين اليهود سنة 1935، وكيف يهاجر منهم ألف شخص، ويأتي ألف آخر مهرباً ويدخل ألف ثالث بحجة السياحة في فلسطين :
هو الألف لم تعرف فلسطين ضربة
أشد وأنكى منه يوماً لضاربِ
يهاجر ألف ثم ألف مهرَّباً
ويدخل ألف سائحاً غير آيبِ
وألفُ جواز ثم ألفُ وسيلة
لتسهيل ما يلقونه من مصاعبِ
وهنا يصرخ الشاعر الذي كبر العشق في قلبه، فامتد إلى كل ذرة تراب في فلسطين، مطالبا أبناء الوطن بأن يستيقظوا، ومنادياً بأعلى صوته كلاً من الحاج أمين الحسيني وراغب باشا النشاشيبي وهما زعيما الحزبين المتصارعين في فلسطين في ذلك الزمان
بني قومي، هل يقظة بعد رقدةٍ
وهل من شعاعٍ بين تلك الغياهبِ
فوالله ما أدري ولليأس هبةٌ
أنادي أميناً أم أهيب براغبِ
ولأننا لا نريد أن نتعلم، ولا نريد أن نتذكر دروس الماضي، فإن النداء اليائس الموجه من إبراهيم طوقان إلى كل من أمين الحسيني وراغب باشا النشاشيبي يكاد يكون نفس النداء الذي يطلقه كثيرون من الشعراء في أيامنا هذه إلى كل من محمود عباس والسلطة الوطنية، وخالد مشعل وإسماعيل هنية وسواهما من الحماسيين الذين قاموا بانقلاب عسكري، لكي يفوزوا بقطاع غزة ويقيموا على أرضه مملكة حماس الإسلامية !
التعليقات (0)