عبد الهادي فنجان الساعدي
عندما سئل بلزاك الروائي الفرنسي المشهور ذات مرة عن بطل الرواية قال: "أنه أي شخص تصادفونه في الشارع يستطيع إن يصل الى ابعد نقطة في اعماق ذاته"(1) فهل قدمنا بطلا – أي شخص- استطاع إن يصل الى ابعد نقطة في اعماق ذات الانسانية دون مساعدة أي اداة سواء أكانت البندقية ام المحراث ام اية وسيلة اخرى للعبور الى الضفة الثانية من عالم الحقيقية. ام مازلنا نحاول التعبير عن انفسنا بواسطة "العقال" والسبحة والاسلحة القديمة والكبرياء الفارغ. لقد صورنا كل الانتصارات الكاذبة بشكل يبعث على القيء ولكننا لم نستطع تصوير لحظة صدق واحدة من داخل انفسنا.
لقد وصل بنا الكذب والزيف حد الشلل الذي اصاب كل مفاصل حياتنا لأننا استطعنا إن نحول الهزيمة الى انتصار ساحق على العدو في الافلام والأحلام فقط كما استطعنا إن نجرف العدو ونرميه في البحر في اللوحات الفنية والبوسترات فقط في الحين الذي استطاع العدو إن يرمينا في البحر من جهة الغرب وفي الصحراء القاحلة من جهة الشرق.
إن تاريخ السينما العربية يشبه تارخ العالم العربي المليء بالمآسي حيث ((هناك اسباب خارجية واخرى ذاتية – فمن حيث الشق الاول كان لسياسة التجهيل التي اتبعها العثمانيون في تعاملهم مع العرب، الاثر الكبير في قتل روح الابداع عندهم وانعدام تواصلهم مع الحضارة الانسانية وعطاءاتهم الجديدة يضاف الى ذلك معرفة العثمانيين بالاخطار التي تحملها السينما بحكم علاقتهم مع المانيا التي عرفت السينما في وقت مبكر فعرفوا ما تنطوي عليه من مضامين، لقد كان منع صناعة سينماعربية يعني من وجهة نظر الحكومة العثمانية اغلاق الباب من حيث يمكن إن تهب ريح مضادة وقد استغلت المنطقين الديني والاخلاقي وغيرهما"(2).
كل هذه الاسباب مقبولة الا إن هناك سؤالا يطرح نفسه لماذا لم تستطع هذه الاسباب إن تمنع تكوين الاحزاب والجمعيات التي اطاحت بالامبراطورية العثمانية وكل التكوينات او الكيانات التي خلقتها في باقي مناطق الامبراطورية ولماذا لم تستطع إن تمنع وجود احزاب إلحادية وقومية متعصبة وتنظيمات قومية مشبوهة في الحين الذي نشات السينما الصهيونية في ظل ظروف اقسى مما مر بالسينما العربية.
اسئلة عديدة تختمر في ذهن الكاتب وتمزق وجدانه ولكن البكاء لا ينفع. وقد يقف حائلا بين الانسان واختياره لمصيره.
(( وحين نأتي على بداية الانتاج السينمائي في مصر لا بد إن نشير الى جريدة امون السينمائية التي وثقت العديد من الاحداث الوطنية وبضمنها عودة سعد زغلول من منفاه عام 1932م))(3).
وكان يمكن لهذه البداية إن تكرس توجها فكريا جادا على صعيد السينما المصرية لولا الضغوط الاستعمارية وقيود الرقابة. فالسينما من دون الوان الفنون الاخرى اكثرها قدرة تأثيرية مثلما هي اكثرها عرضة للرقابة.
إن صناعة السينما في مصر كانت تحت تأثير فني وهو التركيز على إن تشبه المسرح بكل طروحاته الفجة وتحت تأثير فكري حيث إن البرجوازية هي التي كانت تمول السينما وعليه فلا بد من إن تعبر تلكم السينما عن طروحات البرجوازية التي كانت في الكثير من الاحيان طروحات خارج الصراع الطبقي الذي كان يدور في المجتمع العربي آنذاك وحتى إن تعرضت لذلك الصراع فهي تنتصر للأفكار البرجوازية التي كانت تمول وتحرك عجلة السينما المصرية العربية.
(( إن الوعي الاجتماعي كان متخلفا في معظم تلك الافلام، فالطبقات الشعبية كانت غائبة دائما. وكان الصراع في كل قصة خرافيا او شاذا... والمشاكل نفسها فردية وبالتالي فحلولها ايضا فردية ومعزولة عن المشكلة الاجتماعية في مصر خلال تلك السنوات ولم تأت هذه الحلول الا من خلال الصدفة او من قبل الطبقات الارستقراطية التي هي صانعة الازمات في الاساس. فهذه الطبقات هي وحدها الممثلة في هذه الافلام وهي دائما طرف في الصراع حتى لو كان الطرف الاخر من الطبقات الشعبية وبمجموعاتها فأنها ترى الحل في يد البرجوازية في النهاية اذ تتطلف وتتنازل عن بعض مطالبها وتمنحها للغلابة))(4).
إن ما جرى من معالجات في السينما العربية كان امتهانا للانسان العربي ولقضيته ولا يمكن إن يوصف الا بأنه جراحة كبرى بأيدي جهلة وبدون تخدير. حيث إن العملية اصلا تخدير في تخدير واستغفال للانسان العربي لسلبه ماله ووعيه.
لقد ساعدت السينما العربية في صرف الاجيال الشبابية عن بؤر الصراع الحقيقي الذي يؤدي بها الى حلول حقيقية لمشاكلها ووجهتها الى بؤر التفاهة والتخلف العلمي وترسيخ نهج الاباحية والجنس الرخيص بحجة الواقعية والواقعية الحديثة. إن كل ما جرى للسينما العربية كانت تساهم فيه عناصر محلية واجنبية. فالعناصر العربية كانت ذات افكار برجوازية لا تفكر إلا بالربح السريع.
وقد جاءت النتائج كارثية فالانعكاسات التي لم يحسب لها المنتجون حسابا دقيقا جاءت تأثيراتها اخطبوطية على جوانب عديدة من المجتمع سلبا وليس ايجابا. لقد استطاعت إن تحرف مسيرة الاجيال الشابة كما قلنا. بعيدا عن بؤر الصراع – كما انها شوهت صورة الدين والاخلاق ضمن وضع نماذج انسانية شاذة وكأنها تمثل الدين الحقيقي، وكأنها الراعي للأخلاق مما حدا بالشباب إن يكونوا ذوي نزعة نزقة شكاكة في كل ماله صلة بالدين والاخلاق والاعراف الاجتماعية وعلى العكس من ذلك كانت السينما الصهيونية تثبت مفاهيم الشباب اليهودي على تعاليم وطرق خلقتها في سراديب وأقبية الاجتماعات الصهيونية.
إن ما جرى في السينما المصرية هو صورة واضحة وكبيرة تنطق بكل صدق عما في السينما العربية عموما. فالسينما العربية كانت انعكاسا للسينما المصرية التي رسخت اقدامها في الدول العربية ضمن معطيات الايديولوجيا البرجوازية العربية المهلهلة وضمن مفاهيم الصراع المصطنع الذي خلقته تلكم الطبقة التي بقيت مسيطرة ومساندة للطبقات الاخرى الى امد بعيد حتى لقد جعلت من تلك المفاهيم السينمائية البالية، مفاهيم راسخة في ذهن الهيئات والمؤسسات السينمائية على مدى أجيال.
إن القائمين على الحركة السينمائية في مصر وفي البلاد العربية لم يكلفوا انفسهم مؤونة تجشم المصاعب من اجل سينما مناضلة او حتى سينما واقعية. صحيح إن هناك محاولات استطاع اصحابها إن يوصلوا ما يريدون قوله بواسطة الصورة الناطقة الا إن هذه المحاولات ذهبت ادراج رياح التفاهة.
ليس من شك إن الربح هو احد العوامل التي كانت تقف وراء الاتجاه الى الانتاج السينمائي وهو هدف يراود افكار الغربيين مثلما يراود افكار المنتجين الشرقيين ومنهم العرب ولكن ذلك لم يمنع المنتجين والمخرجين الغربيين من إن يقولوا ما يريدون قوله لخدمة الحقيقة او على أقل الفروض لخدمة مصالحهم وقضاياهم المصيرية.
إن من القضايا التي تبعث على الخيبة هي اننا كشعب عربي احسسنا بفلسطين بعد عام النكبة 1948 وكأنها النكبة الوحيدة التي اصابتنا او التي ستصيبنا بعد ذلك، بينما نجد ذلك في اذهان الصهيونية منذ عام 1897 كقرار ومن قبل ذلك كحلم يزور اليهودي كل ليلة ليقض مضجعة وهذا الفارق الكوارثي يمثل الفارق كذلك بين السينما العربية والسينما الصهيونية. وهناك بارقة صغيرة كان لا بد إن نتعرض لها وهي بارقة ((الفلم التسجيلي)) او الفلم الوثائقي الذي استطاعت به الهيئات الاعلامية والمؤسسات السينمائية وحتى الاشخاص المهتمين بالسينما وخصوصا التسجيلية منها إن تنتج افلاما قصيرة تعادل بعضها تأثير اطنان من القنابل بمبالغ لا تكاد تساوي قيمة الشريط التسجيلي.
إن بالامكان الاستغناء عن مصنع من مصانع السلاح لتكوين مصنع لانتاج الافلام التسجيلية لأن ذلك اكثر تأثيرا كسلاح وامضى من تلك الاسلحة التي ثبت بالتجربة انهالا تطرد حتى ذبابة في الحين الذي تصبح في يوم ما مأوى للذباب الكيمياوي واليورانيوم المنضب الذي يغذي الامراض السرطانية المنتشرة في البلاد العربية ويغذيها بانواع جديدة من السرطانات.
الحواشي:
1- جريدة التآخي العدد 4248 في 10 حزيران 2004 صـ1/ ابعاد ثقافية/ حوار.
2- القضية الفلسطينية في السينما العربية، يوسف يوسف صـ7.
3- سمير – فريد – الكفاح ضد الامبريالية في السينما العربية، ص 3.
4- مجلة المسرح والسينما المصرية العدد 49 يناير 1968 ص 153-154.
التعليقات (0)