في أواخر القرن السادس ميلادي، خطى العرب أول خطوة عملية من أجل وضع واحد من أسس الدولة المدنية الحديثة، وذلك عندما تم الإعلان عن قيام "حلف الفضول" بين القبائل العربية والذي تم بموجبه نبذ العنف والظلم وتحقيق المساواة.
إن هذا الحلف كان له وقع كبير وأثر جميل في قلوب الناس والقبائل وأصبح حدثا تاريخيا مهما في تاريخ العرب، حتى أن الرسول الأکرم"ص" قال عن هذا الحلف الذي تم عقده قبل البعثة النبوية بسنوات: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت"، إن هذا الحدث التاريخي الذي له مغزى واعتبار ومعنى بليغ، يٶکد عمق وتجذر روح الحضارة والتمدن لدى العرب وأنهم ليسوا أبدا کتلك التنظيمات والمجموعات الإرهابية المتطرفة الضالة التي تتبرؤ الحضارة العربية والإسلامية منهم براءة الذئب من دم يوسف.
اليوم إذ نشهد ولادة(ميثاق ﺣﻠﻒ اﻟﻔﻀﻮل اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺑﻴﻦ اﻷدﻳﺎن الإبراهيمية)، وليس بين الدول أو المنظمات التابعة لها، فإن لذلك معنى وأهمية خاصة وعميقة، ذلك أن الدين إضافة إلى الجانب المقدس منه، فإنه يعبر عن العمق الروحي للشعوب وإن عقد ميثاق بناءً على الأساس والبعد الروحي للشعوب والذي يمنح هذا الميثاق قوة وبعدا اعتباريا، لايمکن أن تمنحه لا البنود السياسية ولاحتى القانونية، وإن استلهام هذا الميثاق من حلف إنساني في التاريخ العربي، سيلفت الأنظار إلى أن العرب رسل حضارة وتمدن وتواصل وتعايش سلمي مع الآخرين.
لا ريب أن النجاح الباهر الذي حققه "ﻣﻨﺘــﺪى ﺗﻌﺰﻳــﺰ اﻟﺴــﻠﻢ " في ﻣﻠﺘﻘــﺎه اﻟﺴــﻨﻮي اﻟﺨﺎﻣــﺲ اﻟﻌــﺎم اﻟﻤﺎﺿــﻲ، تحت عنوان "ﺣﻠــﻒ اﻟﻔﻀــﻮل: ﻓﺮﺻــﺔ ﻟﻠﺴــﻠﻢ اﻟﻌﺎﻟﻤــﻲ"، عزز الأمل والتفاٶل کثيرا بالاستمرار في المضي قدما للأمام بين أديان العائلة الابراهيمية من أجل العمل الجدي لاستتباب سلم عالمي حقيقي تکون لبنته الأساسية الأديان التي طالما کان هناك مساع مشبوهة ومنحرفة وضالة لاستغلالها وتوظيفها لأهداف وغايات لاعلاقة ولا ارتباط لها بالأديان، وإن عقد ميثاق حلف الفضول بين الأديان يعني قطع الطريق على المندسين أو الذين يستغلون الأديان في غير سياقها الصحيح وهو کفيل بلفت أنظار أتباع الأديان وتوعيتهم من کذب وزيف کل المزاعم التي تطلق من أجل غايات عدوانية بالاعتماد على الأديان التي جاءت لصالح الإنسان، لرفع الظلم عنه ونشر العدل ولتثري الأرواح محبة وعطفا وتسامحا وألفة وتنزع عنها أغلال الکراهية والحقد والبغضاء التي يدعو ويحث عليها أهل الشر والعدوان.
من خلال طريق عمل العائلة الإبراهيمية وجهدها الحثيث الذي تقوم به من خلال منتدى تعزيز السلم في ملتقياته السابقة والحالية، فإنها لاشك تقدم أسوة حسنة لعالم اليوم المشحون بالصراع والاختلاف والفرقة، حيث تسعى المنظمات والمجموعات والفرق الإرهابية المتطرفة والضالة أن تتصيد من کل هذا التوتر والاختلاف، لذلك فإن العلماء والفقهاء من رجال الدين المسيحيين واليهود والمسلمين، عندما يطلون على العالم جنبا إلى جنب من أجل صنع أساس معنوي وحيوي لسلام حقيقي يصنعه الإنسان بإرادته وإيمانه، فإنهم بذلك يٶکدون على حقيقة إمکانية الأديان في أن تلعب دورا إيجابيا مثمرا وبناءً تخدم به الإنسانية وتدرأ عنه دمار الحروب ومآسيه.
هذا الميثاق لن يعمل فقط على جعل الحرية الدينية وعلاقات التعاون وقيم التسامح وحماية دور العبادة حقائق ملموسة، بل سيجعل من التعايش السلمي بين أتباع أديان العائلة الابراهيمية وفهم وتقبل الآخر بصورة لن نجد لها نظيرا في التاريخ، خصوصا عندما يعلم الجميع بأن الغاية والهدف النهائي للأديان الثلاثة"مرضاة الله ووجوب طاعته" وإن الله تعالى لن يرضى أبدا بإثارة الحروب وإراقة الدماء وبث الکراهية والحقد.
إن حلف الفضول الجديد والحديث عنه سيمهد ولأول مرة أرضية روحيةـ أخلاقية بين أکثر من 4 مليارات ونيف من أتباع الديانات الإبراهيمية لو جمعناهم معا، وهو مايمثل أکبر کتلة بشرية على وجه الأرض وبإمکانها من خلال التأسيس لهکذا ميثاق سماوي ـ إنساني، أن تٶثر إيجابيا على الشعوب والأمم الأخرى من مختلف الأديان، ولاريب من أننا لو نظرنا إلى الآثار الإيجابية التي أحدثها "حلف الفضول" على الساکنين في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام من حيث التحالف ﻋﻠــﻰ ﻧﺼــﺮة اﻟﻤﻈﻠــﻮم وإرﺟــﺎع اﻟﺤــﻖ ﻷﺻﺤﺎﺑــﻪ واﻟﻌﻨﺎﻳــﺔ ﺑﺎﻟﻀﻴــﻒ وﻋﺎﺑــﺮ اﻟﺴــﺒﻴﻞ؛ والذي کان أساسه أخلاقيا، فإن الحلف الجديد، سيجمع بين البعد الديني والبعد الأخلاقي معا مع الأخذ بعين الاعتبار القدرة الإعلامية الفائقة في نشر بنود هذا الميثاق وإمکانية إيصاله إلى الجميع بسهولة وإنسيابية.
ميثاق حلف الفضول الجديد بين الأديان، والذي يعود الفضل في اقتراحه واستنباطه إلى الإمام المجدد الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، وهو مايعتبر سنة حسنة له أجر الإنسانية عليها، کما أنه لابد من تقديم الشکر لراعي هذا المنتدى ونشاطاته المميزة، سمو الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة والذي لم يأل جهدا في سبيل توفير کل أسباب الرعاية من مختلف الجوانب وعلى کل الأصعدة من أجل إنجاحه وتحقيق أهدافه وغاياته.
ونسال الله عزوجل السداد ونجاح المنتدى والتوفيق لما فيه خير وينفع فيه الإنسانية.
السيد محمد علي الحسيني
التعليقات (0)