السياسة ولعبة شدّ الحبل.
اللعبة في قواعدها سهلة وبسيطة وغير معقّدة،وهي لا تحتاج من الوسائل إلا إلى حبل يُمسك بطرفه الأوّل لاعب وبطرفه الثاني آخر،وحكمة اللعبة أو طرافتها أن يتمسّك كلا المتبارين بشدّ الحبل وجرّ الخصم إليه...والنتيجة هي أن ينقاد الأضعف إلى الأقوى بفعل الجذب أو أن ينفصل الحبل فيُشطر تحت وقع صلابة الفريقين المتباريين...
وما يعنينا في هذه اللعبة التي قد تكون استُهلكت تدليلا على القواعد التي تحكم أيّ صراع ، هو عمق إيحاءاتها في منطق الصّراع السياسي الذي يشغلنا والذي،ولئن جمّلتْه الحداثة بأصباغها وبهرجها وديكورها فإنّه بقي في الجوهر "لعبة شدّ حبل" ببساطة أدواتها ووضوح القواعد التي تقوم عليها وبدائيتها...
لعبة شدّ الحبل تتنافس فيها قوّتان متقابلتان،والغلبة في النهاية للقوّة الأعظم أو للقوّة التي تعرف كيف تُنفق قوّتها دون هدر...والقوّة مادّية وفكريّة وروحيّة،وقيمتها تُقاس بفنّ استخدامها...والغلبة هي انجذاب الأضعف إلى الأقوى بواسطة هذا الحبل الذي نعني به تجاوزا "السياسة"...
السياسة هي التي تُتيح هذا المدّ والجزر،والكرّ والفرّ،والمراوغة والمناورة...من أجل الإيقاع بالخصم أو إرهابه أو الإبقاء على هدنة معه لوقت يُقدّر أنّه الأنسب أو لمناسبة تُعدّ هي الأفضل.وكما لعبة شدّ الحبل يُمكن أن يُمارسها كلّ من يُريد لما تُغري به من بساطة وسهولة فكذلك السياسة يركبها كلّ مُولع بها دون شروط ولا قيود إلا العزم على ركوبها مهما كان الثّمن...
لكنّ العبرة ليست بالسياسة بل براكبيها الذين قد يكونون من نوع "هتلر" و"موسيليني" أو "غورباتشوف"و"بوش الأب والابن"،أو من فصيلة الزعماء المقاومين أمثال "صلاح الدين الأيوبي" و"طارق ابن زياد"و "تشي غيفارى" و"جان دارك" (عذراء أوريليان)...فضلا عن حملة الرسالات المقدّسة من الأنبياء والرّسل...
في"علْبة"عقل السياسي القائد تتحدّد القرارات المصيرية للشعوب،وعقله نتاج ثقافته ومزاجه وبيئته وعوامل خارجية أخرى مؤثّرة فيه،محدّدة لفعله السياسي...وكلما جنح هذا الفعل إلى الحكمة والرصانة وبُعد النّظر وتجنّب النزعة السلوكية المتهورة الحمقاء،كلّما كان الحظ في تفادي الكارثة ممكن...
ولعلّ أكثر الدروس بلاغة في عبرها،في عصرنا الحديث،تشهد بها ما سُمّي ب"الحرب الباردة" بين أميركا وحلفائها من جهة وبين الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى،هي دروس العقل القيادي الراجح الذي جنّب الإنسانية كارثة كونية،إذ لو افتتن الخصمان بما امتلكاه من قوّة مادّيّة متمثّلة بالخصوص في ترسانتيهما النّوويّة وجنحا إلى استعمالها لكان حاضر العالم أكثر بشاعة مما هو عليه...بدل التعويل بالأساس على القوّة المادية المدمّرة في "لعبة شدّ الحبل" بين العدوّين استُبعدتْ هذه القوّة استعمالا،واستُحضرتْ تلميحا وتلويحا،واستُبدلت بقوّة "المكر السياسي" مستنجدة،تقريبا،بكلّ فنون المهارات القيادية والدّهاء من الطرفين...لقد كانت حكمة القيادتين السياسية مُدركة لطبيعة اللعبة وهي أنّ شدّ كلّ منهما بطرف من طرفي الحبل يجب ألا يؤول إلى قطعه...
والنتيجة هي كما لا تزال تداعياتها قائمة أفرزت اليوم عالما ب"لاعب واحد" في حين أنّ اللعبة تستوجب لاعبيْن...
ولأنّ اللاّعب الأمريكي يُدرك جيّدا أنّه لا يُمكن أن يلعب وحده دون منافس،إذ هو في هذه الحالة لا يعدو أن يكون مهرّجا وبهلوانا،وهو أيضا،في حالة إقراره باحتكار اللعب لوحده،مدعوّ-لا إلى تحمّل مسؤوليّة ابتكار لعبته السياسية المنفردة،فحسب،بل بالتّنبّه إلى أهمّية متفرّجين حاضرين للفرجة وإلى خطورة إقصاء لاعبين محتملين ...ولأنّ دهاءه السياسي يُجنّبه التّمادي في الظّهور بمظهر "الثور الهائج" ويدفعه إلى تجميل صورته والإغراء بها والتّنصّل من أخطائه...فلقد انبرى يُفتّش عن غريم وهمي له،يشدُّ الحبل من طرفه الثاني ويتبارى معه...
وعليه فالمشهد العالمي اليوم بكلّ توتّراته هو إخراج أمريكي،وحتى الذين يظهرون بمظهر اللاّعبين المُهمّين فيه هم واهمون،لأنّهم انجرّوا إلى لعبة تمويهيّة استعراضيّة حدّد أغراضها اللاعب الأمريكي واختار لعرضها منافسين له وفقا لتقدير مصالحه،فانساقوا لأهوائه غير مُدركين لأبعاد المناورة أو مُدركين لما يعتبره اللاعب الأمريكي غير ضارّ به...
غريمُ أميركا اليوم هو الإرهاب في أفغانستان والعراق والصومال وغيرها،وهو "التّحدّي النّووي" المزعوم في إيران،والصّراع العرقي المفتعل في السّودان وفي بقاع مماثلة أخرى في العالم...ولكنّ اللاعب الأمريكي،وهو يُسيطر على اللعبة أو يسعى إلى ذلك بتوريط أتباعه وأذنابه،منشغل بالاستعداد لجولة جديدة من الصراع العالمي يريد أن يكون فيها،من جديد،لاعبا رئيسيا (كما كان شأنه،سابقا،مع الاتحاد السوفياتي المنهار)...والطّرف الحقيقي المقابل لهذا الصّراع،اليوم، لا يراه،جادّا،فيما يطفو على السّطح من حروب ونزاعات وقلاقل يُشعل فتيلها أو يُؤجّج نارها مُتعمّدا لغاية إرهاب عدوّه الحقيقي المحتمل،كما يراه هو لا كما يُخيّل لمن هم،حاضرا،ضحايا "حرب بالوكالة"...
إنّ اللاعب الأمريكي اليوم وهو يُروّج "للفوضى الخلاّقة" ويُقاوم "الإسلام المتطرّف" ويُلاحق ما يعتبره إرهابا هو يبغي الإلهاء بعدوّ وهميّ،أو هكذا يعتقد،من أجل تعبئة رأي عام عالمي وحشْده وتجنيده لكسب الأنصار واختبار مدى استعدادهم للولاء غير المشروط له...في حين أنّ عينه ترمق بحيرة وتوجّس عدوّه الحقيقي القادم على مهل،الذي يتستّر على مكامن قوّته،ولا يستعجل استعراض عضلاته،ويرفض أن يكون طرفا في لعبة لا يُقرّر توقيت المشاركة فيها بإرادته،ولا يكون قد هيّأ لنفسه أسباب النّصر فيها أو،على الأقلّ،أن يكون الشريك الجدّي في لعبة "شدّ الحبل" السياسية...والنصر في كلّ الحالات ليس حماقة حرب لا تُبقي ولا تذر..
هكذا يفهم الحكماء في السياسة لعبة شدّ الحبل...
أما غريم أميركا،عدوّها القادم على مهل،فهو-كما رأى أو تنبّأ الكثيرون،هو خارج من قمقمه للتوّ،مارد أصفر،وتنّين عمل ولا يزال يعمل في صمت اسمه الصين...
يا للخطب الجلل إن شغلت الهموم العرب والمسلمين على تدبّر الأمر،والحال أنّ اللاعب الثاني المحتمل هو لا يتكلّم العربية،ولا يُدين بالإسلام في أغلبيته،ولا يطرب لصوت "هيفاء وهبي" ولا تعنيه مقابلة في كرة قدم بين مصر والجزائر ولا يستعين شيطان إلهامه بالمعلّقات السبع...تُرى هل من بقايا أمل في معجزة "فوضانا الخانقة" تحجز لنا موقعا تحت الشمس في قادم الأيام؟...
الغريب أنّ لعبة شدّ الحبل السياسية،بدائيّة في وسائلها،بسيطة في قواعدها لكنها عصيّة على مزاجنا...لماذا يا تُرى لا يحذقها السياسيون العرب والمسلمون؟..لماذا نُفاجأ،مثلا،بحرب عبثية أولى وثانية وثالثة في الخليج العربيّ،لمجرّد أنّ قائدا عربيا نوّهنا بما بلغه من أسباب قوّة غضّة،فتوهّم أنّه طرف رئيسي في لعبة كان عليه ألاّ ينجرّ إلى خدعتها...فاللعبة تقتضي أن تُمسك بطرف الحبل أطول وقت ممكن وأن تكظم غيظك ولا تستفزّ خصمك حتى إن تعمّد استفزازك وأن تستجمع كلّ قواك ومواهبك القيادية في المناورة إلى حين أن تتأكّد من أنّ خصمك لن يقدر على إسقاطك وتلطيخ وجهك وكرامتك بالوحل...
التعليقات (0)