يا للاستعارة. جهابذة السياسة والتحليل السياسي, و"الاستراتجيون" ,المحليون منهم والمعارون من الدول الشقيقة للإدلاء بدولهم, المتعاقبون على الفضائيات, الموالون للسلطة وليس للحقيقة, ولا يعنيهم في شيء الانتماء لشعبهم, يحللون بانفعال ملتهب, أو ببرود وجه ودم, الاحتجاجات والمطالب الشعبية, يقدمون أنفسهم, أو يُقدمون على أنهم أساتذة جامعات (أكاديميون !!!), أو كتاب صحفيون أو باحثون ..لا يحللون سياسة ولا وقائع, ولا حقوق, وإنما يحللون سفك دماء الشهداء ويبررونه (بعد ترحمهم على الشهداء, وذرف دموع التماسيح), ينسبون القتل لمجرم مجهول الهوية والانتماء, "طرف ثالث" يقع بين المقتول والسلطة. أي يقيدون الجريمة ضد "مجهول" . يستفيضون في شرح أوصافه ولا يستطيعون تقديم اسمه او صورته (الإنسانية إن كان من الإنس) فهو إما إرهابي, سلفي, أو مندس من الخارج, أو عميل, أو مرتبط ,أو حامل مشروع, عضو عصابة, أو متآمر للنيل من صمود الدولة وهيبتها, (أي شعب يمكنه أن ينتج كل هؤلاء في دولة أمنية صرف عمرها الأمني عقود وعقود !!) إذن لا ضرورة لمعرفة الوجه فالوجوه هنا متشابهة. تكفي النعوت والصفات.
ومع ان لا اسم للقاتل ولا لقب ولا هوية ولا جنسية ولا مكان إقامة, ولا موقع وظيفي يبين درجته على السلم الإداري, حتى يمكن المناداة عليه أو استدعاؤه للمثول أمام العدالة, ومع أن الوصول إليه خارج قدرة الأمن وكل الأجهزة مجتمعة أو متفرقة. ومع ذلك كله فتعقبه ومطاردته دون كلل جار على قدم وساق. سيؤتى به ولو كان ابعد من العراق. سيؤتى به للمحاكمة حيا, ـ بعد الانتهاء من إعداد صفقة تمثيلية أو مسرحية ذات مصداقية , يستقيم فيها الدليل والبرهان مع الادعاء غير القابل للتشكيك والبطلان!! وتلبيسه الجريمة تلبيسا, انه "الطرف الثالث", وينادى عليه مجرما مع الخزي والعارــ. وهذا من فن الممكن في السياسة !!. اطمئنوا. ولتهدأ أرواح الشهداء.
هذا العهر من السياسة, وفي السياسة, والتحليلات المنهجية المستعيرة من السياسة مصطلح فن الممكن هو ما نراه ونسمعه من السلطة, منفوخا به بأفواه ومن أفواه الجهابذة, عبر الفضائيات للعالم اجمع في كل الاتجاهات. أنهم حقا جهابذة السياسة, أكاديميين, استراتجيين, وإعلاميين, ومحللين ومركبين ومعلقين لا يشق لهم غبار. آلا يدخل هذا في فن الممكن؟. الممكن قوله والمسموح به, والمُراقب قبل النطق به؟. يا للمقدرة على التخلي عن الكرامة والحياء, يا للنفاق !!.
هل يعتبر هؤلاء ان من الممكن وفنه في السياسة , وان لا ممكن غيره:
ـ الاستيلاء على الدولة لصالح السلطة, والاستمرار في ذلك للأبد؟.
ـ وضع الدولة نصف قرن في حالة طوارئ وأحكام عرفية والاستمرار في ذلك للأبد؟.
ـ وضع الدولة تحت السلطة المطلقة لرجال الأمن للتدخل في كل الشؤون والاستمرار بذلك للأبد؟.
ـ اعتبار الشعب رعية الحاكم والاستمرار بإذلاله للأبد؟
ـ تمكين الفساد ونشره من قمة الدولة إلى وسطها وقاعدتها حتى يصبح سياسة دولة, والتعرض له تعرض لأسرار وأمن الدولة. هل من الممكن الاستمرار بذلك للأبد؟.
ـ إطلاق الرصاص على المتظاهرين أحفاد وأبناء من قضوا سنوات عمرهم مقموعة كرامتهم وحرياتهم ومحرمون من ابسط وسائل الحياة الكريمة, والاستمرار بذلك للأبد ؟.
لا شك أن جهابذة مفكري السلطة وسياسيها واستراتجييها وإعلاميها ومحلليها لا يعدمون الإجابة على كل هذا, أية إجابة, لا يهم, المهم أن تكون هناك إجابة مرضي عنها وبالتطابق مع عقلية السلطة وتوجيهاتها.
ولكن آلا يدخل في فن الممكن, لوضع الدولة في موقع الدولة, وفي مكانة لائقة بها بين الدول, العمل مثلا على:
ـ التمييز بين الدولة والسلطة, وبين السلطة ومستغليها باسم الدولة.
ـ الاعتراف بان السيادة للشعب, وبأنه مصدر السلطات دون منازع, وانه هو من يمنح الشرعية وهو من يحجبها , ويحاسب, بالطريقة التي يراها, على تجاوزها.
ـ القيام بفصل السلطات وتوازنها وعدم اعتداء أي منها على الأخرى.
ـ إزالة القدسية عن رئيس السلطة التنفيذية (لا قدسية للرئيس في السلطتين الأخريين ولا حتى استقلالية) وإنزاله إلى مرتبة الإنسان ومحاسبته في حال تجاوز صلاحياته المحددة في الدستور وفي ممارسة مهامه. (هل في الأمم المتحضرة امة واحدة تطوف بصور حكامها بالآلاف بمناسبة وغير مناسبة في الشوارع والساحات والطرقات وتدخلها غرف النوم والاستراحات لتقول هذا هو).
ـ تداول السلطة وعدم "تطويبها" للابد (تمليكها مع الحقوق المطلقة على الملكية) لشخص بعينه وجعله الدولة والسلطة معا, والمحور الذي يدور حوله النظام, وعنه تصدر الأشياء واليه تعود.
ـ احترام الدستور والقوانين والأنظمة من رأس السلطة إلى اصغر عمالها.
ـ احترام الإنسان والمواطن وحقوقه في الحياة الحرة الكريمة.
ـ احترام الحريات العامة والحقوق الأساسية.
ـ التمييز بين المسؤول السياسي وبين رجل الأمن, ورجل الأعمال .بين الكسب المشروع والكسب من الارتشاء.
أليس هذا, في فن السياسة, من الممكنات؟, أيها السادة المتحذلقين على الشاشات .
أليست المطالبة الشعبية بهذا ممكنة, وممكن السماح بالتعبير عنها بكل الوسائل السلمية التي اعترفت بها كل الدساتير والقوانين في الأمم المتحضرة لشعوبها؟ دون زجر وحبس وقتل ومطاردة المطالبين مدى الحياة.
أليس جعل هذا خارج الممكن وتجريمه والعقاب عليه بأشد العقوبات يقود أخيرا إلى الاحتجاجات والثورة الشعبية بعد عقود من الاضطهاد والقضاء على مصير أجيال وأجيال من أبناء شعبنا.
هل الممكن الوحيد في فن السياسة, للرد على المطالب المشروعة, هو إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين وقتل المئات, ومحاصرة القرى والمدن, مدن وقرى دولتكم, بالدبابات والمصفحات؟.
اليس من الممكن , بل من والواجب السياسي والاخلاقي , الإقلاع عن الغباء والاستغباء, والعمل على التغيير الجذري في التفكير, والسير في اتجاه سير التاريخ وحركة الشعوب لتحقيق المطالب الشعبية بنيل الحرية واقامة الدولة الديمقراطية؟
جواب أصحاب غير الممكن من الجهابذة : "ليس بالإمكان أفضل ما كان". وجواب أسيادهم الصيد رصاص حي ينطلق عشوائيا من فوهات البنادق حاصدا الأرواح, كممكن وحيد.
د. هايل نصر
التعليقات (0)