السياسة الخارجية التركية .. من المثالية إلى الواقعية
بلال الشوبكي
إن فهم السياسة الخارجية التركية وكما هو الحال مع السياسة الخارجية لأي دولة يتطلب بشكل أساسي إدراك الأسس النظرية والفلسفة التي ترتكز عليها تلك السياسة خصوصاً أو العلاقات الدولية إجمالاً. علماء السياسة ناقشوا العديد من النظريات الفلسفية التي يمكن الإهتداء بها في رسم السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، أو حتى دراستها، وقد أصبح من السطحية تجاهل هذا النتاج الفكري في تحليل السياسة الخارجية لأي دولة في عالمنا المعاصر، إذ أنه دون الإستناد على هذه الأسس سيبقى النقاش والتحليل في إطار تشخيص الأفعال الآنية والردود عليها، وهو ما قد يفسر لنا حالة الدهشة التي تظهر على وسائل الإعلام في تغطيتها للكثير من التطورات، وانسياق المحللين خلف التغطية الإعلامية المثيرة ونقاشهم للمتغيرات السياسية كأحداث استثنائية خارج دائرة التوقعات.
هناك مدارس فلسفية كثيرة تدرس السياسة الخارجية، لكن أبرزها المدرسة المثالية والمدرسة الواقعية. الأولى تلك التي تؤمن بإمكانية التعاون بين الدول بما يحقق المنفعة للجميع، وقد كان من نتاج هذه المدرسة ظهور عصبة الأمم في بدايات القرن الماضي تأسيساً على إمكانية تحقيق التنسيق الدولي من أجل تحقيق القاسم المشترك من المصالح المتباينة. أما المدرسة الواقعية فنظرت إلى السياسة الخارجية من منظور المصلحة الذاتية للدولة أولاً، وبالتالي فإن تحقيق المصلحة الوطنية لأي دولة يجب أن يكون أولوية تُسَخَّر لها جميع مقدرات الدولة بما فيها القوة العسكرية، كما لا يجب الإلتفات إلى مصالح الدول الأخرى إن لم تكن هناك مصلحة مشتركة.
تأسيساً على ما سلف، فإن تحليل السياسة الخارجية التركية مؤخراً، يجب أن ينطلق من فهم الأساس الفلسفي الذي تبنته تركيا لتحقيق مصالحها. قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم كانت تركيا علمانية وليبرالية حتى النخاع، وإن لم تزل عنها صفة العلمانية في هذه الأيام، فإن حالها قبل وصول العدالة والتنمية كان يؤهلها للعب دور في السياسة الدولية وفق المنهج الليبرالي المثالي، حيث ارتضت تركيا لنفسها دوراً مشاركاً في الكثير من المؤسسات الدولية لتنسيق وحماية واقتسام المصالح، ووفق هذه الفلسفة فإن الجميع يستفيد بقدر ما يقدم إلى المجموع.
إذا ما ما اعتبرنا الفلسفلة الليبرالية المثالية أساساً لفهم نظرية اللعبة في السياسة الدولية، فإن كل لاعب (دولة) لا بد أن يجني ثمرة ما خلال هذا اللعب. وقد نجحت هذه الفلسفة جزئياً في ترتيب اللعب بين اللاعبين من نفس الجنس السياسي، فنجد أن اللاعبين الغربيين خصوصاً ومعهم إسرائيل وتركيا قبل العدالة والتنمية قد حققوا مصالحهم في كل لعبة على الصعيد الدولي ليخرج كل لاعب شاعراً بأنه حقق ربحاً ما، وهذا ما جنّب هذه الدول النزاع منذ منتصف القرن الماضي. لكن كما أشرت فإن هذه الفلسفة لم تثمر إلا جزئياً لأن بعض الدول في المنظومة الدولية لم تكن من نفس الجنس السياسي لليبراليين، وهنا تحولت نظرية اللعبة، من لعبة الربح للجميع إلى لعبة الصفر.
لماذا أسميت لعبة الصفر؟ لأن حالة التباين بين اللاعبين قد أصبحت أكثر وضوحاً، وتحول بعض اللاعبين من نفس الفلسفة إلى أعداء للاعبين آخرين، وفي هذه الحالة فإن أي نتيجة يحققها اللاعب س تعتبر خسارة لـ ص، حينها يصبح من الحكمة أن يتحول كل منهما إلى المدرسة الواقعية في رسم السياسة الخارجية، لأن انتقال اللاعب س مثلاً إلى المدرسة الواقعية وتحوله إلى عدو لللاعب ص، فيما اللاعب ص يبقى في المدرسة المثالية يعني خسارة مؤكدة للأخير وربحاً متكرراً للاعب س، ليس هذا فحسب بل إن ص قد يصبح بمثابة السجين وفقاً لنظرية اللعبة لأنه يعزل نفسه عن دائرة التأثير.
تركيا وإسرائيل لعبتا طويلاً على أرض المدرسة الليبرالية المثالية، وقد جنت إسرائيل كثيراً من هذه المدرسة فيما أرباح تركيا لم تزد عن علاقات مميزة مع الغرب وخصوصاً أوروبا ووعودٍ بالإنضمام للإتحاد الأوروبي، ومع وصول العدالة والتنمية للحكم كانت مكاسب تركيا تتراجع من هذا اللعب الذي تتعاظم فيه أرباح دول على حساب دول أخرى. بمعنى أن صفة التراضي انتفت عن هذه اللعبة. إسرائيل كانت بمثابة اللاعب س في شرحنا السابق، وقد بدأت باللعب مع تركيا وفق الربح من طرف واحد، فتركيا لم تنضم للاتحاد الأوروبي وعلاقتها المميزة مع الغرب لم تغنها عن سماع مقولة إن الاتحاد الاوروبي ليس إلا نادياً مسيحيّاً.
وفقاً لهذه المدخلات في اللعبة كان على تركيا أن تتخلى عن المدرسة المثالية في صياغة سياستها الخارجية وعلى أقل تقدير ان تتخلى عنها فيما يخص العلاقة مع إسرائيل. لكن الأمر كان مستحيلاً قبل وصول العدالة والتنمية، لأن الحكم السابق لم يرتكز على الواقعية السياسية من حيث الداخل، وبذلك لن يطبقها في الخارج، وحتى لا تختلط المفاهيم، فالواقعية السياسية ليست كما يفهمها العديد من الناس على أنها التكيف مع الواقع وبتالي الإستكانة، وإنما العقلانية في تسخير المقدرات لمواجهة الواقع. لذلك، فإن تغيير الأساس الفلسفي للسياسة الخارجية التركية اقتضى تغييراً داخلياً في النظام السياسي، وهو ما حدث حين وصل العدالة والتنمية للحكم.
تاريخ قيادة حزب العدالة والتنمية في تركيا يشير إلى واقعية واضحة، فأردوغان ورفاقه أظهروا واقعيتهم حين فهموا الحزب كجسر للوصول إلى الحكم، وقد عدّلوا في هذا الجسر مراراً حتى أصبح آمناً لوصولهم إلى السلطة. هذه الفلسفة هي ما ميزتهم عن معلمهم الراحل أربكان، فالرجل كان أيدولوجياً لا يمكنه تعديل أهداف ووسائل الحزب على مقاس السلطة كما هو الحال مع كل الأحزاب الأيدولوجية، التي ما زالت تتعامل مع الحزب كجهة أهم من النظام السياسي، وهو ما يخالف المنطق، فالدولة الحديثة والأنظمة السياسة المعاصرة حسب ديفيد إيستون تعتبر الحزب أحد مدخلات النظام السياسي وفي حالات قوته قد يكون هو المحرك في هذا النظام، لكنه لا يمكن أن يتحول إلى النظام بأكمله إلا في الأنظمة الشمولية، وبالتالي لا معنى لوجود الحزب، لأن الحزب يُعرف بنظيره.
واقعية العدالة والتنمية التي أبداها في اللعب على المستوى السياسي الداخلي كان لا بد لها أن تنعكس على السياسة الخارجية، وهو ما قد تحقق فعلاً، فقد بدأت تركيا تتحول إلى المدرسة الواقعية بشكل تدريجي، حيث أظهرت العديد من المؤشرات ومنها:
- "التمنّع" في ملف الانضمام للإتحاد الأوروبي، فلم تتخل عن الإنضمام لكنها لم تعد تطلبه.
- الانتشار الدبلوماسي في إفريقيا وآسيا، وأذكر هنا ما قاله مهندس السياسة الخارجية أوغلو: أريد من ساركوزي أن يرى سفارة تركية أينما أدار وجهه.
- الانفتاح على الشرق مجدداً، من الناحية السياسية هناك اهتمام ودور متزايد لتركيا في القضايا الشرق أوسطية. اجتماعياً واقتصادياً هناك مشاريع عديدة بين الدول العربية وتركيا وتطوير لحركة الأفراد والبضائع وصل حد إلغاء تأشيرات الدخول بينها.
- لم تعد تخطب ودّ إسرائيل، وتحولت إلى ندّ سياسي لها.
حتى تلك اللحظات كان صعباً على تركيا رغم واقعيتها أن تحدث تحوّلاً حرجاً في سياستها تجاه إسرائيل، فكان لا بد من تطبيق الوجه الثاني للواقعية وهو العقلانية. عقلانية تركيا تطلبت منها إنتظار تطور الأحداث وربما خلقها كي تقوم بتسخيرها خدمة لفلسفتها ورؤيتها الجديدة. تركيا أدركت جيداً أن إسرائيل تتعامل معها بمنطق الرابح الوحيد، فكان لا بد من إستغلال أي موقف إسرائيلي كي تقوم تركيا بإظهار تحولها من لاعب مثالي إلى لاعب واقعي، وبدأت المواجهة علناً في دافوس ووصلت أوجها على ظهر مرمرة لتكون النتيجة أول تسديدة تركية في المرمى الإسرائيلي وفق قواعد جديدة للعبة، أصبح فيها الهدف التركي خسارة إسرائيلية.
استنتاجاً مما سبق فإن الفلسفة السياسية الواقعية كانت تدفع تركيا تدريجياً لتغيير قواعد اللعبة مع كافة الدول، وإن مقدار هذا التغيير تحدده الظروف والإمكانيات التركية. يعتبر إبداء تركيا اهتماماً متزايداً بشؤون الشرق الأوسط أهم هذه التغييرات، فحين تضاءلت فرصة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أخرجت بديلاً واقعياً يمكن اعتباره سيفاً ذا حدين، الحد الأول يضمن لتركيا دوراً ريادياً في مجال إقليمي من صنعها ويعزز إمكانية نجاحها في ذلك غياب المنافس العربي بشكل كامل، فيما إسرائيل وإيران رغم امتلاكهما القوة إلا أن كلا الدولتين لا تتمتعان بالمقبولية في المحيط العربي، وتركيا تدرك ذلك وبدأت مؤخراً تخطب ودّ الجماهير العربية بأشكال شتّى، فأضحى أردوغان بطلاً للثوار ومراد علمدار بطلاً للمقهورين، فيما غدا مهنّد بطلاً للرومانسيين والحالمين. أما الحد الثاني فيظهر في كون التوجه التركي نحو الشرق الأوسط فيه تهديد لنفوذ أميركا والاتحاد الاوروبي الذي رفض انضمام تركيا حتى اللحظة، ووفق منطق نظرية اللعبة في الفلسفة الواقعية فإن خسارة الاتحاد الأوروبي يعني ربحاً تركياً.
مجلة القدس المصرية عدد أيلول
التعليقات (0)