مواضيع اليوم

السياسة إذ تعالج أزمة وجود!

ممدوح الشيخ

2009-12-10 16:34:53

0



بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com


حتى كتابة هذه السطور تتصاعد أزمة الملف النووي الإيراني، وسواء انفرجت هذه الأزمة أو انفجرت فإن قيمة دروسها تظل كبيرة، ومن الدروس المهمة لهذه الأزمة التي استطالت زمانيا بأكثر مما ينبغي، وامتدت فصولها من واشنطن إلى بكين مرورا بعواصم عالمية عديدة، أن السياسة التي استقر الأمر على أنها مفاوضة ومواءمة، وأنها تعالج في المقام الأول قضايا "المصالح"، تعود أحيانا لمعالجة "أزمات وجودية"!
وقد واكب تطور العلاقات الدولية تبلور تقاليد تنظم "التدافع" الدولي لمنع ظهور الأزمات الوجودية التي لا تقبل الحلول الوسط ولا آليات السياسة التقليدية، ففي ظل الصعود الغربي الكبير كان "حق الفتح" يحكم العلاقات الدولية وكانت الدول الأوروبية يهنئ بعضها بعضا باحتلال هذه الدولة أو تلك من دول الجنوب بشكل رسمي. لكن القانون الدولي المعاصر وضع حدا لمشروعية ضم أراضي الغير باسم (حق الفتح) منذ أواسط القرن التاسع عشر تقريبا وبدءا من عام 1874 أصبح هناك أدبيات دولية تجرم ضم الأراضي بالقوة كان أولها "مشروع بروكسل" وتلاه "تصريح أوكسفورد" لعام 1880 و"اتفاقيات لاهاي" لعامي 1899 و1907 اتفاقيات جنيف بدءا من عام 1929.
وهناك ما يشبه الإجماع الآن على أن من أسباب الحرب العالمية الثانية إصرار النظام النازي على إعادة "حق الفتح" ليحكم العلاقات الدولية لتحصل ألمانيا على فرصتها في تكوين إمبراطورية، لكن داخل أوروبا. ولأن هتلر قرر ضم دول أوروبية وإزالتها من الخريطة نهائيا، فإنه بذلك ساهم في نقل خصومه إلى حالة من الإصرار الشديد على إزالة نظامه نهائيا. بل إن الاحتفال بذكرى الحرب العالمية الثانية – حتى الآن – لا يخلو من تذكير بـ "خطيئة" التراخي الأوروبي مع النظام النازي وهو يلتهم الدول الأوروبية أمام أعين حكوماتها.
وكان من الطبيعي بعد هذا الطريق الطويل من الدمار والدماء داخل أوروبا أن ترسي نهاية الحرب العالمية الثانية مبدأ "تجريم" تغيير الحدود السياسية بالقوة، وهكذا أصبحت قضايا مثل شلزفيج وهولشتاين أو الإلزاس واللورين وغيرها صفحة من الماضي.
وخلال الحرب الباردة وصل حجم الترسانة النووية للعملاقين إلى ما يكفي لتدمير كوكب الأرض أكثر من 10 مرات، وبالتالي تحول الصراع النووي إلى "تهديد وجودي"، فساهم حجم الترسانتين النوويتين في دفع العملاقين النوويين إلى "سياسة الوفاق"، وتلك وإن بدت مفارقة إلا أنها في الحقيقة تعبير صادق عن الكيفية التي تؤثر بها قضايا "الوجود" في العقل السياسي الغربي.
ومؤخرا كشفت مصادر أميركية عن زيارة مسؤولين كبيرين في الإدارة الأميركية العاصمة الصينية بكين في "مهمة خاصة" محاولة لإقناع المسؤولين هناك بالضغط على طهران للتخلي عن برنامجها النووي لأن إسرائيل تجده "مسألة وجودية". وحسب المعلومات المنشورة عن المهمة السرية فإن المسؤولين – وهما عضوان بمجلس الأمن القومي الأميركي – أبلغا المسئولين الصينيين رسالة مفادها أن إسرائيل تنظر إلى البرنامج النووي الإيراني باعتباره "مسألة وجودية، وأن الدول التي لديها مسألة وجودية لا تستمع إلى الدول الأخرى"!!!.
وقد كان انتهاء الحرب الباردة في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي لحظة توقع فيها كثيرون أن العالم سيطوي – ربما نهائيا – الأزمات الوجودية، لكن الأزمات الوجودية تعود مرة أخرى لتلقي ظلالا شديدة القتامة على العلاقات الدولية. وإذا كان النزوع الشعبوي عند المحافظين الذين يحكمون إيران قد دفعهم لتحويل موضوع الملف النووي إلى قضية كرامة، بحيث أصبح بقاء شعبيتهم في الشارع الإيراني مرهونة بصلابتهم في مواجهة الضغوط الغربية بشأنه، فإن إسرائيل تكون قد حولت الموقف الإيراني المتصلب من شأن داخلي تحركه رغبة النظام في الحفاظ على مشروعيته الجماهيرية، إلى مشكلة وجودية في العلاقات الدولية، فهل نجح الإسرائيليون في جر المحافظين إلى فخ؟
ربما!
لكن المؤكد أن أزمة الملف النووي الإيراني لا يعالجها تأكيد حقها المشروع في امتلاك الطاقة النووية للاستخدام السلمي، ولا التصلب والتصعيد السياسي، ولا استعراض ازدواجية المعايير أو الانتقاد العنيف لغياب الديموقراطية والندية في العلاقات الدولية.
وهذا في الحقيقة الدرس الثاني المهم، فالعلاقات الدولية تحكمها التفاهمات الضمنية بأكثر من المواثيق الدولية، ومن التفاهمات الضمنية الدولية المهمة – كما أشرنا – أن "الدول التي لديها مسألة وجودية لا تستمع إلى الدول الأخرى"، ومن هذه التفاهمات أيضا أن امتلاك السلاح النووي لا يحكمه مبدأ المساواة بين من يملكون ومن يسعون لأن ينضموا لنادي من يملكون، بل يحكمه طبيعة النظام الذي يحكم الدول الساعية لامتلاك الخيار النووي. فالنظم السياسية غير الرشيدة وغير العقلانية ليس من حقها – بناء على التفاهمات الضمنية التي تصنع العلاقات الدولية – امتلاك الخيار النووي.
ولأن التكنولوجيا أزالت إلى حد كبير الحد الفاصل بين ما هو مدني وما هو عسكري فإن إيران تصبح في مواجهة ميراث غربي ثقيل من الممارسات والمخاوف والتجارب المريرة ليس من اليسير تجاوزها، وهي أيضا تحت وطأة قيود رمادية تتمثل في التفاهمات الضمنية الحاكمة للعلاقات الدولية. وهذا الميراث الثقيل كله ليس خارج المشهد السياسي الدولي، بل في قلبه.
فهل من المفيد أن تعود السياسة إلى معالجة أزمات وجودية؟




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !