كثيرة هي المسائل التي أضحت تُطرحُ بإلحاح حول خصائص "النّمط المجتمعي الجديد" الذي يسعى الإسلاميون إلى بلورته بعد أن تمكّنوا من الظفر بمواقع متقدّمة في سلطة بعض دول الرّبيع العربيّ..
من بين تلك المسائل المطروحة،وما أكثرها،قطاع السياحة الذي يحتلّ مكانة متميّزة في الاقتصاد الوطني لبلدين مثل تونس ومصر اللذين كان لهما قصب السّبق في اندلاع الثورات العربيّة ثمّ في تأكيد حضور بارز للإسلام السياسي...
كما هو معلوم،الثورات العربية لم تأْتِ على طبقٍ من ذهبٍ بل فَرضت على شعوبها تضحيات مؤلمة على مستوى الأرواح التي أزهِقت فداءً للحرّيّة وعلى مستوى اضطراب السّير العادي لمرافق الحياة العامة وتفشي مظاهر الفوضى والانفلات الأمني فضلا عن الأضرار الجسيمة التي لحقت التّنمية الاقتصادية ومن بين قطاعاتها الحيويّة وأشدّها حساسيّة السياحة.فعلى سبيل المثال تراجع التوافد السياحي على تونس من السوق الأوروبية بنحو 44 بالمائة لكامل سنة 2011 ممّا أثّر سلبا على العائدات حيث كان يغطي حوالي 50% من العملة الصعبة التونسية،وعلى نشاط شركات الطيران ووكالات الأسفار المعنية بالوجهة التونسية،فضلا عن إحالة أعداد كبيرة على البطالة وانكماش المجالات المستفيدة من الأنشطة السياحية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة والتي يطال ضررها فئات عريضة من التونسيين...
بالنسبة لمصر تفيد البيانات الرسمية أنّ أكثر من 9 ملايين سائح،فقط،استقبلتهم مصر عام 2011 بعد أن بلغ عددهم سنة 2010 حوالي 15 مليون سائح.وتنفرد السياحة المصرية بنسبة 11,6% من إجمالي الناتج القومي و12% من سوق العمل المحلي...
اللافت،ليس فحسب الأسباب الظرفية لكساد السوق السياحية في بلدان الربيع العربي نتيجة الأوضاع الأمنية غير الملائمة،إنّما ما يتردّد من "أن السياح الأوروبيين غير مطمئنين جزئياً بسبب فوز الإسلاميين في الانتخابات"...أيْ أنَّ السائح الأوروبي أصبح يخشى من أنّ الحرّيّات الفرديّة لم تعد مؤمّنة-كما كانت- في الدول العربية السياحيّة التي تعوّد على اختيارها وجهة مفضّلة له،أو هكذا يُخيَّل له من خلال ما تبلغه من معلومات حول تغيُّر سلوك المجتمعات المضيّْفة منذ أنْ هبّت عليها رياح التغيير وهيمن عليها الإسلام السياسي...ما من شكّ أنّ مثل هذه الأحكام انطباعيّة أكثر منها ناتجة عن خيارات بديلة أفصحت عنها إرادة سياسية للماسكين بمقاليد السلطة من الإسلاميين،لكنّ ذلك لا ينفي أنّ الجدل أصبح قائما حول أثَر السياحة على السلوك الاجتماعي للشعوب العربية فيما يُعتبَر لدى المتشدّدين الإسلاميين خطرا على الهويّة الإسلامية،وهو ما برّر التساؤل حول مآل استثمارات سياحية ضخمة ركّزت خططها على الاستجابة لحاجيات السائح الغربي وفق منظور لا يجد فيه هذا الأخير أيّ مضايقة لممارسة حرّيّته الشخصيّة في الدّول العربيّة التي يختارها لقضاء عطلته...
ولئن كانت أزمة القطاع السياحي الرّاهنة في تونس ومصر لا تجد تفسيرها في صعود الإسلاميين إلى الحكم بقدر ما هي ناتجة عن حالةٍ من انعدام الأمن والاستقرار نتجت عن تداعيات المزاج الثوري،فإنّ المطروح،عاجلا،هو كيفيّة الاهتداء إلى الحلول العمليّة لاستمرار تأمين العائدات المالية المعتبرة التي كانت تنعش اقتصادا هو اليوم في وضع حرج ينذر بكارثة،وهي عائدات ليس من حلول سحريّة لتوفيرها إلآ بعودة تدفّق السّياح من جديد،كما كان الحال سابقا...ثمّة وعي من مختلف الأطراف المتدخّلة في القطاع بأنّ الاستجابة السريعة لشروط استئناف النشاط السياحي لنسقه المعتاد غير متاحة،مهما بُذِلت من جهود للتطمين والإغراء...
على أنّه قد يكون ثمّة فسحة من الأمل للترويج لمنتوج سياحي يسعى إلى تحويل "إعاقته" الظرفية إلى إثراءٍ له وتنويع تحت مسمّى "سياحة الرّبيع العربي"،خصوصا أنّ الغربيين بادروا على إطلاق تسمية "ثورة الياسمين " على ثورة تونس...ثمّ أنّ اللافت حقا،بل المُدْهش،أنّه رغم حالة عدم الاستقرار ومظاهر الفوضى واضطراب الحياة العامة في دول الثورات العربية فإنّه لم تُسَجَّل إساءات تذكر للسياح والأجانب عموما ولم يأْتِ ما يُفيد أنّ حياتهم تعرّضت للخطر(تونس ومصر على وجه التخصيص)...مع ذلك فإنّ اجتهادات المعنيين بالقطاع السياحي لا يبدو أنّها كانت متفاعلة مع التحدّيات التي فرضتها الثورات ولا قادرة على تجاوز المألوف في التسويق السياحي،إذ لم تظهر بشكل مِهَنيّ وملموس إضافات تذكر لتسويق "منتوج الثورات" بكلّ زخمها السياسي والثقافي والقيَمي...وحتى التّوجُّسُ من الإسلام السياسي كان يُمكنُ التقليص من تداعياته عن طريق التواصل بين الشعوب التي تعتبر السياحة أهمّ أدوات تجسيمها،ذلك أنّ المظاهر غير المألوفة الجديدة كان متاحا الإقناع بأنّها لا تُشَكّل عائقا أمام الاختلاف وممارسة الحرّيات الفردية في كنف التعايش والاحترام المتبادل...كما أنّه يُمكن،مثلا،إبراز ما صرّح به رئيس الحكومة التونسية حمادي الجبالي بخلفيّته "النّهضوية"(إسلام سياسي) بخصوص لا تأكيده،فحسب،على استمرار إعطاء أهمّية للقطاع السياحي،إنّما لإعلانه اقتناعه بأنّ"النشاط السياحي يُعَدّ عاملا هاما لاستقرار الديمقراطيات، نظرا لارتباطه الوثيق بضمان الحريات الشخصية"...فهل من توظيف ذكيّ وناجع للثورات العربيّة أو على الأقلّ التقليص من التّشويه الذي يستهدفها ؟...
وجب الإقرار بأنّ حالة الارتباك التي وقع ضحيّتها الفاعلون في الشأن العام ببلدان الرّبيع العربي طالت كلّ شيء بما في ذلك الضّرر الذي لحق القطاع السياحي ولا ندري متى نبدأ بالفعل بالتوظيف الإيجابي لثوراتنا بما يعود بالفائدة على الشعوب التي ثارت من أجل الحرية والعيش الكريم...
التعليقات (0)