بدر شاكر السياب
بين شوق العاشق وانطلاق الثائر
بقلم : حسن توفيق
ظل بدر شاكر السياب الطالب العاشق يتقلب على جمر النار خلال سنوات دراسته الجامعية في الأربعينيات من القرن العشرين الغارب بينما كان ديوان شعره المخطوط والمحظوظ يتنقل بين الطالبات الحسناوات الساحرات في القسم الداخلي بدار المعلمين العليا في بغداد، وكان لا بد أن يحسد الطالب العاشق ديوانه هذا الذي تضمه إحداهن إلى صدرها أو تقبل صفحاته طالبة أخرى وهي تتنهد، وبالطبع فإن هذا الجمهور الأنثوي لم يكن الجمهور الوحيد، فقد كان الطلبة الفقراء، وفيهم كثيرون من اليساريين والشيوعيين، يقرأون كذلك ما يكتبه صديقهم الطالب العاشق، ومن الطبيعي أن تختلف النظرة للشعر ما بين جمهور وآخر، فحين قرأ الشاعر علي جليل الوردي قصيدة «ديوان شعر» في حضور بدر شاكر السياب، قال له وهو يرتجل بيتاً من الشعر كان الأجدر بك أن تقول :
ديوان شعر ملؤه شعلُ
بين الطليعة بات ينتقل
بدلاً من أن تقول
ديوان شعر ملؤه غزلُ
بين العذارى بات ينتقلُ
ولم يكن الطالب العاشق يجهل ما يقوله له صديقه الشاعر اليساري، فهو يعرف أن جمهوره ليس واحداً موحداً، فالطالبات يعشقن شعر الحب لأنه يرضي جمالهن ويتجاوب مع أرواحهن، أما الطلبة الفقراء فهم يحبون الشعر السياسي العنيف الذي يزيد من اشتعال جمرات الثورة ضد الأوضاع الجائرة في قلوبهم، وهذا ما فعله في القصائد التي كان يلقيها خلال المظاهرات الطلابية، لدرجة أنه قَلَبَ معنى بيت لأحمد شوقي، هو البيت الشهير
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاءُ
وهكذا تحول هذا البيت من حديث الحب إلى دنيا السياسة بعد أن قلب بدر شاكر السياب معناه قائلاً :
همسةٌ فانتباهة فهتاف
فانتفاض فثورة وانتصارُ
وكأن الطالب العاشق كان يريد أن ينتفض ضد روحه العاشقة قبل سواها، حيث صرخ في إحدى قصائده الثورية، مطالباً بأن يبتعد الشعر عن الحب وآهاته وتنهداته، لكي ينتفض ضد الظلم وصُنَّاعه وأدواته ، فها هويوجه خطابه الهادر إلى المطرب الزنجي الأمريكي بول روبسن سنة 1946
غَنِّ باللحن المدمَّى واللظى
يحرق الأجسادَ لا ريح الخزامى
واشتكِ الجور الذي يُرمى به
قومك الأحرار لا تَشْكُ الغراما
أين صاحٍ عادَ لا يلقى هوى
من سقيم عاد لا يلقى طعاما؟
فاروِ لا عن مخدع ظل الشذى
حائراً يرعى ملاكاً فيه ناما
واحكِ لا عن غانياتِ نزقٍ
يتطارحن اعتناقاً والتثاما
لا فما أبقى صليل القيد في
مسمع المأسور للسلوى مقاما
هنا يحاول الطالب العاشق أن يكون شاعراً ثورياً في نظر أفراد الجمهور الرجالي وهم زملاؤه الطلبة الذين يحملونه على أكتافهم في المظاهرات، يهدر صوته عالياً ومدويا بضرورة تغيير الأوضاع الظالمة، ولكن ما حاوله الطالب العاشق لم ينجح إلا بعد أن تخرج في دار المعلمين العليا، وفقدَ الجمهور النسائي الذي كان يتوجه إليه بقصائد الحب، أما خلال المرحلة الجامعية، فإنه ظل يحاول أن يرضي أفراد كل جمهورمن الجمهورين الرجالي، والنسائي، وها هو يكتب قصيدة حب يوم 15 أبريل سنة 1946بعنوان «حب يموت» وفيها يقول
اليومَ بين مصارع الزهرِ
والصبح يطفىء جانبَ القمرِ
حبي يموت وأنت لاهيةٌ
لم يدرِ سمعُكِ ضجة الخبرِ
وعلينا ألا نندهش أو أن نتعجب حين نعرف أن الطالب العاشق قد كتب في اليوم التالي مباشرة قصيدة أخرى، يتبرأ فيها مما كان قد قاله، فبعد أن كتب قصيدة «حب يموت» ها هو يكتب يوم16 أبريل سنة 1946قصيدة بعنوان «ما مات حبي»
لا النأي أطفأ سالفَ الحُرَقِ
في جانبيَّ ولا يدُ الأرقِ
أهواكِ ما خمدتْ على شفتي
أو مات حبي فاعذري نزقي
أهواكِ ملء جوانحي ودمي
صوت يظل وينتهي رمقي
أنتِ الفضاء فما سعتْ قدمٌ
بي حيث كنت فغاب عن طرقي
قالوا تَنقلَ كالنسيم، فما
يصفو هواه، وطاف كالألقِ
هل للنسيم على تنقله
حُرَّ الوثاقِ تجاوزُ الأفق؟
أنتِ الوجود فحيثما انطلقتْ
بي مقلتان ملكتِ منطلقي
سيانِ عندي متُّ من ظمأ
ما دمتُ عبدَ هواكِ أو غرقِ
هكذا ظل هذا الشاعر الكبير يحاول أن يجد فتاة ترضى عنه أوحتى تتظاهربأنها تكن له ولو قدرا من المحبة ، لكن محاولاته كلها تلاشت مع الرياح ، مخلفة في قلبه جراحا ما بعدها من جراح .
التعليقات (0)