السوداني المظلوم في محيطه العربيً
بعد نجاح الثورة الشعبية التونسية ثم المصرية في خلع أنظمتها الشمولية الحاكمة ولو بشكل جزئي ؛ حيث لا تزال أذناب تلك الأنظمة السياسية البائدة في كل من تونس ومصر تهيمن على مقاليد السلطة والإدارة العليا بوجوهها القديمة العبوسة القمطريرة حتى تاريخه .... أقول أنه وعلى ضوء ذلك ، إنبرت الأقلام لتمجيد ما جرى وتحقق على أيدي هذه الشعوب العربية . وعلى نحو أحمعت في كل الآراء أن الثورة التونسية كانت أول ثورة شعبية عربية تنجح في إسقاط نظام حكم شمولي ديكتاتوري قائم.
(لقطة من ثورة 21 أكتوبر الشعبية في السودان)
للأسف (والحديث هنا موجه للإخوة العرب) لا يعرف العرب .... كل العرب أن أول ثورة عربية شعبية تفلح في إسقاط نظام حكم ديكتاتوري قائم إنما كانت ثورة 21 أكتوبر 1964م ، التي إنطلقت شرارتها من داخل جامعة الخرطوم العريقة . وكان الطالب أحمد القرشي أول شهداء صفوفها الأمامية .... وقد إمتد لهيب هذه الثورة لتشمل كافة المدن السودانية حتى توجت بإستقالة الرئيس الفريق إبراهيم عبود وحل المجلس العسكري الحاكم الذي حكم البلاد عقب إنقلاب عسكري بتاريخ 17/11/1958م . ثم وعلى أثر ذلك تم تشكيل حكومة مدنية إنتقالية برئاسة سر الختم الخليفة ؛ مهدت لإجراء إنتخابات نيابية عامة جاءت بنظام حكم ديمقراطي حزبي ليبرالي.
(جانب من مسيرات إنتفاضة أبريل 1985م في الخرطوم)
وعلى ذات النسق تفجرت ثاني ثورة شعبية عربية في السودان أيضا. وهي إنتفاضة الخامس من ابريل 1985م ، التي أفلحت في خلع نظام حكم ديكتاتوري شمولي هو نظام مايو الذي كان بقيادة المشير جعفر نميري ؛ والذي إقتضى التدخل الصريح للقوات المسلحة السودانية التي وقفت إلى جانب الشعب ، وعلى رأسها المشير عبد الرحمن سوار الدهب الذي تولى قيادة البلاد خلال فترة إنتقالية إنتهت بعودة الحياة السياسية الديمقراطية كسابق عهدها قبل إنقلاب 25 مايو 1969م ..
وكان جملة ما جرى خلال إنتفاضة ابريل 1985م من تصعيد حتى ساعة نجاحها بوقوف الجيش السوداني العظيم إلى جانب شعبه الأعظم ..... كان جملة ما جرى هو النسخة الأصلية التي نُسِخَت على شاكلتها ثورة 25 يناير الشبابية المصرية . حيث إنتقلت السلطة الدستورية العليا إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر مع تطعيمه بحكومة تصريف أعمال مدنية.
ولكن لماذا قلت أن السوداني مظلوم؟
من الواضح أن البعض يغمط السوداني حقه أحيانا عن قصد وسوء نية .... وتقدير ذلك أنه وإذا كانت ثورة 21 أكتوبر 1964م لم تجد حقها من الشهرة والتأثير القومي لأسباب أهمها التخلف العربي السائد في ذلك الزمان في مجال التعليم وأجهزة الإلتقاط الإذاعي والخمول الإعلامي بوجه عام من صحف وإذاعة وتلفزيون وأجهزة إتصال وتواصل أخرى كانت مقصورة على مصر وحدها تقريبا ؛ لاسيما في مجال البث الإذاعي. وحيث شاءت مصر في ذلك الوقت التعتيم على مجريات هذه الثورة السودانية ، خوفا من إنتشار لهيبها وتغلغل أفكارها إلى شمال وادي النيل ؛ وما يعني ذلك من تأثيرات لا يحمد عقباها بالنسبة للنظام الناصري الشمولي القائم آنذاك.
وإذا كنا نقدر كل تلك الظروف التي كانت سائدة ومحيطة ؛ فإن الذي يثير التساؤل من جهة أخرى هو ذلك الفتور والترحيب الباهت الذي قوبلت به ؛ وطرحت بمقتضاه معطيات وثمار إنتفاضة أبريل عام 1985م في الإعلام العربي بوجه عام ، في وقت كانت فيه الطفرة البترولية عام 1973م وتأثيراتها الإقتصادية والتنموية وتوافر ومواكبة المخترعات الحديثة في مجال التواصل والإتصال لتلك الفترة قد فعلت فعل السحر في كافة المجتمعات العربية من الخليج إلى المحيط.
لماذا إذن يغمط الناس السوداني حقه؟
ربما كانت ولا تزال هناك فجوة مـّا ما بين السودان وغيره من بلدان ومجتمعات عربية أخرى . فجوة تتلخص في مدى قدرة الأطروحات والمبادرات السودانية على إختراق العاطفة والعقلية والقناعات العربية ؛ وتحول بينها وبين الإعتراف بحق السودان في القدح المعلى والحصول على قصب السبق .... وهي سلبية ربما لا ننكر أن للجانب السوداني دور كبير في تكريسها خلال الفترة الزمنية الماضية . والديل على ذلك أن هناك إجتهادات فردية وجهوية قد أفلحت عقب ثورة الإنقاذ عام 1989م في إختراق المجال العربي سلبا كان ذلك أو إيجابيا ؛ على الرغم من أنها إعتمدت كليا على مجهودات فردية سعت بذكاء لإستغلال نوافذ إعلامية عربية حديثة النشأة والمفاهيم. ومنها على سبيل المثال قناة الجزيرة التي شهدت حراكا سودانيا منقطع النظير أسهم في خلق كاريزمية قومية للشيخ البروفيسور حسن الترابي كمبشر بنظام سياسي وإجتماعي إسلامي جديد يخلط ما بين فقه الوسطية وفقه الضرورة .... وأسهم كذلك في الترويج لمزاعم الإنفصالي المتمرد جون قرنق الرئيس السابق للحركة الشعبية ، الذي إجتهد ونجح في كسب التعاطف والدعم العربي من خلال إدعائه تلويحه التكتيكي الكاذب بالتمسك بوحدة السودان ... ولم يأل جهدا حتى في تجنيد بعض الوجوه العربية الشمالية السودانية التائهة المجهجهة المتمزقة الولاء لترويج مزاعمه وسط أحياء ومضارب العرب... وهو ما جنى ثماره لاحقا من خلال إضعاف زخم التأييد العربي للصمود الشمالي في مباحثات نيفاشا . فكان ما كان من إهمال وتراخي وقـفـز على عـدة بنود حساسة أهمها مصير أبيي المسيرية ؛ كان وفد الخرطوم إلى هناك أقـدر على حسمها سلمياً في حينه.
التعليقات (0)