الســودان الجــديد
حلقة (1)
الحمد لله الذي أذهب عن بلادنا الأذى وعافاها
بعض البلهاء والجهلاء بتاريخ السودان من أبناء السودان أنفسهم لا يصدقون أن دولة جنوب السودان أو ما كان يسمى سابقا بجنوب السودان ... لا يصدقون أنها لم تكن في يوم من الأيام (أرضا وشعبا) وحتى عام 1947م جزءا من الشمال. ويجهلون تماما أن الخديوية المصرية هي التي فتحت وأخضعت أراضي الجنوب بحـر أموالها وجيوشها وأعلنته إقليما مستقلا تابعا لها مثلما أعلنت شمال السودان تابعا لها من قبله . وقد ظل كل منهما (الشمال والجنوب) في معظم سنوات التركية السابقة يحكمه حاكم منفصل إداريا عن غيره وتابع مباشرة للقاهرة. وأن دور الشمال في علاقة الخديوية بالجنوب لم يكن سوى كونه معبرا وقنطرة طبيعية لموظفيها وجنودها ولتجارة وقوافل الرقيق الأسود. وإمتد ذلك حتى زمان الحكم الثنائي ..... ثم أنه في عام 1947م أقدم الإستعمار البريطاني على تجاهل إرادة الجنوبيين معتبرا أنهم غير قادرين وحدهم وقتها على حكم وإدارة بلادهم. فضموهم قسرا لشمال السودان وكانت تلك هي الطامة الكبرى ..
إبتلع الشمال الطعم لكنه لم يستطع هضمه . فأصبح الجنوب منذ عام 1955م إمساكا معويا مزمنا في بيت الداء لم تستطع البلاد التخلص منه على مسار طبيعي سلس ؛ إلى أن قيض له الله الخروج على النحو الذي صار في خلاء نيفاشا ... فالحمـد لله الـذي أذهـب عن بلادنـا الأذى وعافـاهـا.
فوجئنا أول أمس بأدبيات المتحسرين ومحترفي الردح من بعض الشماليين الذين جاءوا يتجزعون متجرسين مولولين ومنتحبين كالخصيان والجواري والأرامل والمطلقات دون خشاء .... يتباكون على الحب الضائع والحبيب المفقود واللبن المسكوب . وكأنّ الجنوبي كان حبيب القلب ولا يزال ملكا لهم بالوراثة على طريقة الزبير باشا .. لم نكن نتوقع أن تمتليء المنتديات والمواقع بمثل هذا التهريج والنهــج الخـِــرع الذي تأنف من نهجه العذارى وربات الخدور وصويحبات يوسف في العصور السالفة ؛ ناهيك عن الرجال حماة الديار والذمار وجند الشدائد المفترضين......
لقد كان إنفصال الجنوب أرضا وشعبا عن الشمال النهاية المنطقية لواقع مرير من العنصرية الإجتماعية التي لا يد لنا فيها كبشر . وقد خلقنا الله تعالى شعوبا وقبائل لنتعارف ونتعايش بالحسنى ونتبادل المصالح الدنيوية . ولكنه لم يطلب منا أن نصادق ونحب ونتمازج ونتزاوج وتختلط دماءنا ببعضنا غصبا عنا ودون رضانا أو أن يعاتبنا جل وعلا على هذه الفطرة التي فطرها فينا.
ومن يعلق الأمر على شماعة التنمية وحدها فهو منافق لأن السودان من حلفا إلى نمولي كان ولا يزال بفتقر كل متر مربع فيه للتنمية.
ثم كان للعبث الإداري وأسلوب الرشوة / وشراء السكوت والولاءات والرضا والذمم الذي إتبعته حكومات الشمال المتعاقبة في علاقتها مع معظم الساسة الجنوبيين والصفوة المتعلمة والمثقفة القلائل ، كان هو الآخر يفاقم من المشكلة حتى أصبحت أكبر مننا جميعا شمالا وجنوبا وعربا وأفارقة . واقتضى الأمر التدخل الخارجي لحلها.
كانت أحلام وتطلعات الجنوبيين كبيرة وغير واقعية في علاقتهم الإنسانية بإنسان الشمال . فاصطدم الجنوبي بأنه مرفوض إجتماعيا من جانب الشمالي عامة والعربي خاصة جملة وتفصيلا ..
من كان منكم لا يمارس العنصرية عمليا تجاه الجنوبي في الأنفة والترفع من تزويج أخته وإبنته له أو صداقته وإستقباله ضيفا كريما في بيته والأكل والشرب معه في إناء واحد ، والسكن معه في غرفة واحدة ومشاركته الملابس مثلما يفعل مع زملائه وأصدقائه وأقرانه من أبناء الشمال فليرمي الجميع بحجر. بل هو منافق وكذاب من يدعي غير ذلك في الشمال من العرب وغير العرب.
وعلى العكس مما يظن البعض ويزعم ويدعي من خلال تعليقاته ومقالاته. لم يكن هناك تنظيم شمالي عنصري وراء فصل الجنوب بقدر ما كان الأمر مجرد إجتهادات شخصية وقناعات فردية تعكس الواقع . إنحدرت من كل حدب وصوب فصارت روافد تصب في مجرى واحد. فساهمت في ترسيخ وعي عام لدى أهل الشمال عن طبيعة مشكلة الجنوب . وجعلت الرأي العام الشمالي مؤهلا نفسيا لقبول فكرة الإنفصال "المحتوم" الذي أراده العالم الغربي والقطب الواحد وحركة جون قرنق الشعبية سلفا.
ثم أن هذه الأفكار والآراء لم يكن لها القول الفصل في فصل الجنوب عن الشمال ؛ لأن القرار إنما كان بإختيار الجنوبيون أنفسهم عبر إستفتاء تقرير المصير وفق ما يعرف الجميع.... ولكن البعض دائما ما يحاول البحث عن شماعة يعلق عليها إحباطاته.
مشكلة الجنوب بدأت منذ عام 1947م . وجميع الأحزاب وطائفتي الأنصار والختمية ، وكافة النظم السياسية العسكرية والديمقراطية والشمولية التي حكمت البلاد منذ عام 1956م تورطت فيها ومُـنِحت الفرصة الكاملة الكافية عسى وعل تجد حلا لما كان يعرف بمشكلة الجنوب . فلم تكن المعالجات بقدر المسئولية بل تميزت بتشابهها ونمطيتها ، سواء لدى الديمقراطيات أو العسكر.... والدفاتر مكشوفة ويعرفها الجميع ولا يستطيع حزب من الأحزاب القائمة أو طائفة إدعاء الطهر والعفاف والبراءة والعذرية في هذا المجال بالذات.
ولكن برغم ذلك ؛ فإن البعض يريد أن يستثمر إنفصال الجنوب وتوظيفه لمصلحة حزبية ضيقة الهدف منها تقويض النظام الحاكم ليس إلا ؛ تمهيدا للقفز مكانه ومواصلة دوران ساقية جحا . فقد كان ولا تزال هذه هي الجزئيات من الكل في الإستراتيجية والتكتيك الحزبي منذ تكوين الأحزاب ولا يزال.... ومهما تكن المعاذير وأدبيات التجمـّل والتحلـّي ونفض الأيادي والإنكار. فإن الذي يهمنا نحن الأغلبية الصامتة ؛ أن لا يظن قادة وكوادر وسدنة الأحزاب والطائفية وتجار الدين في الحكم والمعارضة أنهم يستطيعون الضحك على عقول القطاع العريض من الشعب، لأن إنسـان وقناعات عام 2011م تختلف حتما عن أناس وقناعات عام 1954م تحديدا قبيل 1956م.
ذهب الجنوب بمشاكله ؛ وسيغيب حتما ويتوارى غصبا عنا وعنه . ولن تكون المرحلة القادمة سهلة على الحكام والساسة كما يظن البعض ويتوقع . فقد إنتفى العذر وزال المرض المزمن الذي كنا نعلق على شماعاته الفشل والتخلف وكل السلبيات . وبالتالي فلن تكون المساءلة الآن كما كانت في السابق ولن يرضى أحد بإجترار نفس الأجوبة النمطية.
وأخيرا نرى بعض المهرجين والأراجوزات أمثال ياسر عرمان ومن لف لفه يحلو لهم أن يناور ويرغب في الضحك على الدقون والأكل والشرب على موائد ومزاعم إعادة ما يسمى بالوحدة واللحمة بين الشمال والجنوب . وكأنّ هؤلاء يتخيلون الناس مغفلين ومتخلفين عقليا . فلا يوجد شعب إستقل بملء إرادته وانفصل عن شعب آخر يعود ويسعى للوحدة من جديد . ثم متى كانت هناك وحدة ولحمة بين الشمال والجنوب حتى تعاد مرة أخرى؟
على الجميع إذن أن يلقي بما مضى وراء ظهره ويتطلع إلى سودان جديد بساهم في خلقه الكافة عبر حوار وطني شامل بدلا من إضاعة الزمن ومساحات الأوراق والمواقع والمنتديات في ما لا يفيد ولا يجدي ولا يحل ولا يربط من نفاق ومديح باهت أو سباب وكيل للإتهامات جزافا.
التعليقات (0)