السنون العجاف
عبد العباس عبد الجاسم
عرض/كرم الله شغيت
أطربني هذا الاسترسال في حديثه وشممت منه رائحة المناجاة وقدسية حضرة من يتحدث عنه وشعرت أن ما يقوله لم يف بغرضه في أن يطفئ الجذوة المشتعلة في دواخله وكلما استرسل في الحديث ظهر لديه ما يريد أن يقوله وإن قال ما يريد بقي لديه ما لم يقله حتى وصلت إلى يقين انه لم يزل في نفسه شيء من سنينه العجاف . يتحدث عن وطنه بلسان العاشق ويخاطبه بروح العارف : وطني.... مجالسه مدارس وآثاره لوحات وبقاياه ومضات علم وحلم وإبداع ، حتى اللحن الشجي عبرة وعبارة، درس للتاريخ المدون لأيامه المغناة على وتر السطور ، أنين منشديه مرهم لجراح الزمن ألأممي لا العراقي ولا العربي، ما لبثت تشهد له شعوب الأرض كلها بحبه للحرية والديمقراطية ، يأبى الضيم ولا يرضخ تحت ظلم أبدا يدافع بكل ثبات عن طموحه في السجون والمعتقلات وساحات الإعدام.
انه الكاتب عبد العباس عبد الجاسم، أديب يمتلك أدوات الرواية أو لنقل أن عمله كان يقترب مترددا من حدودها، وينكص عائدا إلى السيرة الذاتية ثم يتغلب عليه التنظير، وتأخذه العاطفة الجياشة بعيدا في مناجاة الماضي القريب، أما الكتاب فهو (السنون العجاف) الصادر عن دار الفجر/أبو ظبي؛ كتاب فكر أو يتحدث عن فكر هو الفكر التقدمي خاصة، طغت عليه المعرفة اللغوية والأدبية فصار في كثير من فقراته نثرا مركزا.
والفكر عنده إرادة وتصميم وتحد، وفرسان النضال لا يعيدون حساباتهم، وزرع الكفاح يغرس في القلوب رغم مرارته، فالعراق لا تستوي عمته على رأسه، وقد رن بمرور السنين جرس الدرس التقدمي للفكر العراقي ثم تكدر صفو الحياة ولبس الكوادر القلوب فوق الدروع متهافتين على التضحية، فأصيبت السجون بالتخمة وشحذ المنافقون سكاكينهم لقطع الرقاب، وغدا كل جسد قصيدة وأسطورة وتعلموا أن الحرية مفطومة بمضغة دم الأحرار عندما يشعلون فتيل الثورة بوجه الطمع وحب الذات والعصبية القبلية. لقد خطا بتطلعاته من فوق كثيب الترقب ونزل ساحة الميدان في حينها من غير وجل، لكنه تعثر وسط الموروث التربوي والتواء الطرق والمنعطفات ، فما كان منه بعد قرار العمر إلا أن يستوقف من عبر بهم الزمن من الضفة الأخرى حيث تحط الركاب رواحلها ، فأمسك في تلابيب مسافر يحتفظ بكل ما لديه من وجع الوطن والعراق ، إنه (سيروان ) الكوردي الذي كان عبارة عن مزيج لكل العراقيين ، تربى في حضن عائلة ميسورة وعاش مخالطا للفقراء مفضلا حياتهم. لقد كان سيروان المحاور الأول الذي بث من خلاله الكاتب كل همومه وألبسه قناعا ناقش من ورائه لإثبات تنظيراته وبث عذاباته، فمن أي شيء جاءت تلك العذابات؟ لا شك إنها من التاريخ كما يقول ابتداءً من تسويد هيرودتس لأرض العراق، وكون التاريخ معظمه ظن وبقيته من إملاء الهوى. ثم يبث ما في خاطره من عذاب تجاه أحداثه مقررا أن أرض العراق معذبة، سبخة رغم غزارة مياهها لسوء تنظيم مجريات الأمور، كلما جاءت أمة لعنت اختها وكفرتها، وفسر المحكم والمتشابه حسب الهوى، وبقي اهل العراق يقشعـون الغـمام عن صفحات الفكر في دأب يميزون الخبيث من الطيب لامتلاكهم طبعا إنسانيا بكل معنى الكلمة وبذلوا من أجله التضحيات لأن حقيقة فكرهم التقدمي لا يخشى أحدا، ولم يغلق نافذة التلاقح المعرفي، ذو عفة لا يرى الدين إلا لله والوطن للجميع، وكان الكاتب يدس هذا كله بين حواراته مع سيروان والتي كانت مشحونة بالطروحات والتنظير لأبجديات الفكر التقدمي وقوانين نشوءه واشتراطاته، وفيها تساؤلات وإنكار بينهما لمبادئ الأخر. مقرراً في حواراته ان النفس التواقة إلى التقدم لاتعرف للباطل والمنكر والقتل ونكران المعروف طريقا ابدا.
ويتحول في فصل جديد إلى الحديث بصورة أوسع عن الفكر والأنسان مشيرا إلى إن الجسم قابل للقيد بينما يصعب تقييد الفكر، فالأجساد في نظرهِ خطوط مواجهة و الطموح مكنون في الرأس والأذى لا يتعدى حدود البدن، أما ما نقش في الفكر فلا يمكن أن تمسه عوامل التعرية، وهكذا يمكننا أن نستشف الفكر العراقي من خلال إبداع ابنائه: فنانين وأدباء وكتـّاب بمختلف أنواعهم وبضمنهم الذين كتبوا بدمائهم على جدران السجون.
ثم يمر على سطحية الاهتمامات التي سادت العقول العربية في الوقت الذي طاولت صروح العلم أعنان السماء، وامتدت هذه السطحية إلى الدعوة إلى الديمقراطية حتى اصبحت ديمقراطية صالونات تهتم باكتمال المظهر وأمسينا لا نملك من حطام الدنيا سوى القصيدة، وإن ثقافتنا هي ثقافة رمح غير مثقف وثقافة ثأر لا تسامح وترفع عن تصحيح الخطأ بخطأ أفدح ويربط بين ما حدث في الحروب العربية عبر التاريخ مع ما حدث في (القادسية الجديدة)، مؤكدا غياب فعل الثقافة الأسلامية التي تأمر بالدفع بالتي هي أحسن. ويقرّ استيعاب الأفكار وفقا لطبيعة المجتمع أي مزج الرؤى في بوتقة العطاء الفكري العالمي بشرط عدم المساس بالمشاعر التي لا تعارض تقدم الأنسانية.ويحتدم النقاش في الكتاب بظهور شخصية عيسى المهندس الذي يتبنى الفكر القومي. ويمر بمناورة فكرية حول الحادث والقديم ومن صاح بأحدهما أو كليهما أو توسط بينهما، وفي الحوار تقييم لمدارس وحركات بدءا من إخوان الصفا والمعتزلة فالحلاج ثم السمري الذي أغلق باب الغـيبة ولم يحلحل مبادئ الدعوة. ويتسآءل عيسى عن كيفية وصول العمل السياسي إلى الجنوب وبنائه لكوادر ناضلت حتى النهاية، ويجيب عليه بقوله إن الأفكار التقدمية مثل الشمس تطلع على القصور والأكواخ. ثم يبرِّئ الكاتب ساحة الفكر العراقي التقدمي من أي مفردة تحث على الألحاد والزندقة والكفر، ويدس على لسان عيسى ان المرجعـيات في حينها كانت تتجاذب أطراف حديث النضال والثورة ضد الضالمين مع البلاشفة. وينتصر الكاتب في حواره لوطنه ضد الأذى الذي لحقه من العرب ويصل في قمته إلى قوله لمحاوره العربي(أنا لا أحتاجك أخا على ما هو أنت عليه). ويقول إن الحركات القومية قدمت ما لها ولم تقدم ما عليها، وبقي العراق يدفع الضرائب القومية حين الطلب. وقد جعل الكاتب محاوريه يستنطقانه بينما هو يستدرجهما لأسئلة واحتجاجات طرح من خلال حواراته المكثفة معهما كل ما يعتلج بداخله من هموم السنين العجاف، خصوصا وإن كل منهما يمثل قومية مختلفة، موظفا ذلك لتبيان طروحاته حول الفكر القومي وهي: ان القومية مشاعر وإحساس لا شعارات ونظريات ومكاتب وأحزاب، وهي تراث تضعه الشعوب موضع دراسة وتمحيص لمعالجة الأخطاء التي وقع فيها الشوفينيون من قبل كي لا تتكرر المذابح من جديد ويوضع هذا التراث في خدمة حركة المعرفة الإنسانية. وقد يساء الظن به من قبل القرآء المتعاطفين مع الفكرة القومية فيجدونه متحاملا عليها كما يصرح هو بذلك على لسان محاوريه(ص169,227)، غير أنك تجده يسرد بوجع شديد ما آلت إليه حال العراق والعراقيين جرآء السياسات التي اتبعها من حكموا باسم الفكر القومي.
وقد جعل نموذج إبن الزايرة(يعقوب) وهو أبو يوسف (المناضل في المستقبل) نموذجا للفرد العراقي المسحوق في زمن ازدهار دول حكومات الانتداب. ثم يصل في نهاية الفصل الذي سماه (احتدام الصراع) إلى ثورة الرابع عشر من تموز وكيف نفذ برنامجها من قبل الضباط والشعب والمنجزات التي تحققت بفضلها ، حتى وقوع أول الأحداث التي عكرت صفوها حين طلع الغراب( ليأكل الحمامة) متحدثا عن محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.
ويتوسع الحوار في الفصل الذي يليه بظهور شخصية جديدة أطلق عليها اسم (المندوب القومي) متطرقا إلى المفترقات التي مرت بها الثورة والزعيم واصفا حيرته بأمره فحدث ما حدث، وقد نال هذا المحاور نصيبه من التقريع الذي صبه عليه وعلى الفكر القومي منذ فجر الدولة العربية معيدا ماذكره سابقا عن ما يجب أن تكون عليه القومية. ثم يتحول إلى الحديث عن تأثير الفكرالتقدمي على الساحة الثقافية ، مصرحا لأول مرة باسم ذلك الفكر، موثقا في الفصل الذي يليه الكثير من أسماء حملة ذلك الفكر ممن التحقوا بركب التضحيات. ثم يعود إلى الحديث عن التركيبة الداخلية المحيطة بالزعيم وخاصة المرافق الأقدم والذي كان ناصريا بيد إن الزعيم كان يثق به ثقة عمياء حتى كان الذي كان. ويشخص الكاتب الطريقة المستعجلة في عمل الفكر التقدمي لصناعة كوادره وتحميلهم الأفكار قبل أن يغادروا مبدئهم السابقة فيقول أنا قررنا البدء بالحصاد قبل الزراعة، ويلطف الحديث بمحاورة بين أحد الرفاق وفلاح في قرية جنوبية تبرز فيها مفاهيم الناس البسطاء ومعتقداتهم وتعزز تشخيصه السابق. كما اهتم الكاتب بعرض وثيقة تاريخية تسجل ما حدث بعد سقوط عبد الكريم قاسم من تنكيل بالقوى التقدمية وهي الشكوى التي قدمها والد الشهيد(صاحب المرزا) الطالب في الصفوف المنتهية بكلية الطب الى السكرتير العام للأمم المتحدة، وهي تحتوي على الكثير من الوقائع والأسماء.
يقول بعد تلك المرحلة صمد الأحرار من أبناء العراق بوجه الريح الصفراء في شباط دموي بارد ولم يكترثوا للفعل الاجرامي الذي احترق فيه الاخضر واليابس. ثم فتح الفكر التقدمي صفحة للنضال والكفاح ليجد في فوهة البندقية أفضل حوار مع الذين لا يفهمون إلا لغة القتل.
وفي الفصل الذي يحمل عنوان (الاستبسال) تظهر شخصية محاور آخر يدعوه (المأموني) نسبة إلى منطقة المأمون في بغداد والتي انطلقت منها الدبابات في شباط شارحا كيف حصلت تلك العملية بسرد روائي تضمن المغامرات التي حصلت معه في منطقة الكريمات والاعتقال وما جرى داخل المعتقل والترحيل إلى سجن الحلة.
يقفز في الفصول الأخيرة من الكتاب الى مرحلة ما بعد عودة السلطة في عهد صدام حسين ويختار قضية مهمة هي تعامله مع رفاقه والمقربين منه وعشيرته، واجتثاثه بقسوة شديدة كل من يشك بأمره ممثلا لذلك بمحمد عايش ومن معه وآمر شرطة العوجه.ثم يعرج على الحروب المتتالية التي دخل العراق فيها وما جاء بعدها من تمجيد لشخصية القائد والاحتفال ببقائه سالما رغم سوء الاوضاع والدمار الذي حل بالوطن والمواطنين فغدا المضطر (وهو الشعب ) حائرا بين البقاء تحت ظلم القائد أو الموافقة على دخول بغداد على ظهر دبابة (إذا لم تكن إلا الأسنة مركب ....فما حيلة المضطر إلا ركوبها). وبعد أن كان ماكان، دخلت القوات الأجنبية العراق واندحر القائد وشخصيته ، عاد المد العربي ليصدر وجعا جديدا إلى العراق بدعوى المقاومة ، وتحدى العراقيون ذلك وكتبوا دستورهم واصطفوا ليمارسوا حقهم الانتخابي وسط الموت المحقق وتحرر الفكر ولم يعد المسؤول مقدسا.
وفي الحوارات الاخيرة في الكتاب يظهر تعلق المتحاورين برغم اختلاف آرائهم بالوطن وبقاء الحنين إليه دموعا لا يمكن إخفاؤها فالسنون العجاف قد فعلت فعلها لكنها لا تقدر بغربالها أن تحجب الشمس.
السنون العجاف كتاب أدب و تأريخ يمزج بين تنامي (الفكر والحدث) وإن كان الأول يميل إلى ان يمتلك استقرارا أكثر من الثاني ، إلا إنه استطاع أن يعبر إلى ضفتيهما بأسلوب أدبي شيق حمل في ثناياه لوعة وتهكما من شدة المرارة التي تبعثها مفارقة (الفكر والحدث) في نفسه. فيما صنع من خصوصية الحدث منطلقا للأبحار في عوالم الفكر والفكر التقدمي خاصة والذي عنى به حركة معينة مرددا للازمات وتعابير شكلت في مجملها جزءا مهما من تراث الحزب وأدبياته ، ومن ثم جزءا من موروث العراقيين من خلال وقوف أعضائه في طليعة الحركة الأدبية والفنية للبلد، فلم يخلُ الكتاب من مقاطعَ من قصائدَ وأغان ٍ وإشارات لأعمال فنية كانت ولم تزل علامات بارزة في تأريخ الأبداع العراقي.كما تضمن الكتاب الكثير من التحليل والتفسير اللغوي بحكم معرفة كاتبه بها، ولم يفوت فرصة واتته إلا وأدرج نصا من التراث بما فيه القرآن الكريم، منصفا في حديثه الشخصيات التاريخية ذات المواقف المتميزة، ذاكرا مظلومية من ظلموا، فلم يكن لديه فارقا في أن يتمثل الرموز النضالية أيا كان اتجاهها فتارة تراه يذكر الحسين (ع) وأخرى جيفارا .وقد صرح في كثير من حوارت مؤلفه أنه يسعى إلى إعادة كتابة التاريخ باقلام عربية وعراقية شريفة.
ولقد ظهر في أماكن كثيرة من الكتاب تمكنه من لغته وإدارة مفرداته والتلاعب بدلالاتها ووضعها، ومن أجمل ما قرأت له أسلوبه التهكمي بالصيغ والعبارات السائدة (كل في مرحلته) بما فيها التراث الشعبي والفني والأدبي وتحويله لتركيبة المفردات موضوعا يخدم به استرساله، فالمرافق الأقدم للزعيم لم يعد مرافقا بل كاد أن يكون( مفارقا)، وبدلة (سعيد مطر) قد ابتلت بالمطر، أما (حسن سعيد) فقد خط بدمه الشعار الذي يحمل إسم والده من غير أن يكمل ذلك الاسم ، وكذلك فقد كانت الكشرة (انفراج الشفتين باللهجة العراقية) التي أطل بها صاحب البيان في التلفزيون گشرة على العراقيين، ومحطة البث اصبحت هباءً منبثا، وإذا قيل له أيها الصفوي قال أنا الصافي.أما النعمان بن المنذر فهو ليس ابن ماء السماء فقط بل ابن مطرها وعواصفها وغبارها.
التعليقات (1)
1 - بغداد
كرم الله شغيت - 2013-08-18 18:07:35
لماذا تظهر مقالاتي في مدونات اخرى