أكثر ما يُحزن المرء في هذا الوقت هو انحدار الخطاب الثقافي العربي الذي كنا نأمل ارتقائه على أيدي من وعدوا شعوبهم ومريديهم بالحداثة، فإذ بهم يهبطون بأنفسهم و مريديهم إلى وحول وأشواك الفرز والتصنيف.."باختصار رياح الجاهلية تهب على عالمنا الإسلامي من كل جانب ، والمحزن في الأمر أن الشعوبية والباطنية والقُرمطية والإقليمية بكل صورها لها أبواق ووسائل إعلام وأجهزة كاملة لتزوير التاريخ وتغيير الحقائق،والإسلام وحده لا صوت له في ديار الإسلام"..أضواء على أوضاعنا السياسية للشيخ عبدالرحمن عبدالخالق صـ174..فالرؤية السياسية إن لم تصطبغ بمكنون بشري عام لا تصنيف فيه ولا فرز ويكن معياره الكفاءه فهو قائمٌ وحُجة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبصعود التيار الإسلامي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين واعتلائه سدة الحكم في عددٍ من الدول العربية، أصبح المطلوب الآن هو الخروج من حيز الفكرة إلى حيز التطبيق "الموعود" ،ولكن تظل إشكالية الدين والدولة حاجز أمام التواصل الإخواني مع الآخر، خاصة في ظل انغماس الكادر الإسلامي-بالعموم- في وهم حب الشعب، رغم أنه في حقيقته قد يكون حباً مظهريا يرتبط باللحية والدعوة والشعارات، نحن أمام شعب ينظر لدولة الإسلام بمنظور مثالي لا يشوبه الأخطاء فضلاً عن قلة الأفهام وما يتبعها من نتائج كارثية، شعب بهذه الرؤية لن يصمد أمام أي إخفاق وسينقلب بسرعة الصاروخ، وسيكون أول المتضررين هم من عملوا على استغلاله في السابق لمكاسب سياسية.
أضيف أن رؤية التيار الإسلامي للشريعة كلها تصب في خانة قيام الدولة وأسلوب الحكم وأدوات السيطرة هذا ما استنتجته-شخصياً- من حمى الكُتب التي طُبعت بُعيد بدء عصر الإنفتاح وكانت تروّج لفكرة الحُكم الإسلامي الشامل والرشيد وسوف نطرح أدلة على ذلك بعد قليل.... وهنا نلاحظ إهمال بناء الإنسان الواعي والمثقف، الإنسان الذي لا يبحث عن الفتاوى..الإنسان المتواصل لا المُنعزل..الإنسان المسالم لا المُحارب..الإنسان الإنسان لا الإنسان الهوية..للأسف فالمسلم غلبت عليه الهوية الدينية والمذهبية أكثر من إشباع وجدانه بالدين العالمي الذي يسع ما لم تسعه ثقافات وأعراف البشرية..
أبرز هذه الكُتب التي شكلت الوعي للكادر الإسلامي هو كتاب"سيادة الشريعة الإسلامية في مصر"للدكتور توفيق الشاوي، وقد جمع فيه آراء متعددة لنُصرة فكرة تطبيق الشريعة، تعددت هذه الرؤى ما بين إخوانية وصوفية وسلفية وعلمانية كفؤاد زكريا والسيد ياسين ويوسف إدريس والقطب الصوفي أبو الوفا التفتازاني والدكتور محمد محجوب وغيرهم..، ورغم ذلك فالكتاب ورغم نزعته الحماسية إلا أنه لم يقف على مفهوم موحد للدولة، شأنه كشأن باقي الكتابات التي انتصرت للفكرة ولم تناقش أبعادياتها وأركان قيامها، حتى منهج السؤال لم يتُبع لا لاستقراء ولا حتى لقياس أصول أو فروع تُبنى عليها الفكرة "المجردة"...ولم يأتي نقل هذه الآراء المخالفة"المؤيدة" إلا لنُصرة الفكرة بغض النظر عن تحريرها كما ناقشت ذلك في كتابي"الإخوان بين الجمود وتحديات المرحلة"- باب الخلط بين هوية الخطاب ومحتواه.
في تلك المرحلة كانت المرجعية الإسلامية هي المسيطرة على كُتّاب هذه الحُقبة، حتى المصطلح نفسه مأخوذ بالمقارنة مع مرجعيات أخرى ذات خصومة، فالمُصطلح حديث ولاإبداع فيه، لأن المرجعية الإسلامية حاضرة عند الأحزاب "كقيم ومبادئ" لا كأحكام وشرائع كما يفهمها الإسلاميون، ولكن نزعة التصنيف هي التي خلقت لدينا الإسلامي والليبرالي..العلماني والإخواني..السلفي والصوفي...وهكذا..رغم كون الجميع-غالبا-ما يفكرون بطريقة واحدة بدلالة استشهاد الدكتور الشاوي بمفكرين من ذوي الإتجاهات الغير إخوانية كالدكتور السيد ياسين المعروف بتوجهه العلماني القِح ونقده الشديد للإسلاميين..هو أقر بأن الشريعة الإسلامية في حقيقتها هي دعوة للاجتهاد وللإبداع الفكري وذلك لتنقية التراث الإسلامي حتى لا يُترك مصيرنا لمجموعة منغلقة ومنعزلة.
إذاً نحن أمام رؤية إدارية في المقام الأول لا تخضع للمنهجية أكثر من الأيدلوجية"التراثية"..فالمنهج طريق للاستدلال وللاستنباط قائم على مفرزات العقل في تصور الأشياء والجميع يمتلك هذه القدرات ، لذلك وحسب رؤية الإسلاميين للشريعة لكونها داعية للإبداع وللاجتهاد فلا خطوط إذاً حمراء ، فالدولة العصرية ديناميكة حُرّة مؤثرها الأوحد هو الإعلام، وبطغيان الإعلام فضلاً عن تغوّل دور الدولة –بصورة الإعلام- أصبح لدينا واقعاً شبيهاً بمقررات الحق والباطل، الخير والشر،الملائكة والشياطين.."بينما الإسلام اعتبر الناس أمة واحدة، الإنسانية تجمعها، وإذا فرقت الأهواء فالأصل واحد"..العلاقات الدولة في الإسلام للشيخ أبو زهرة ص21
من السهل قيام دولة على أساس نظام حكم إسلامي –كما يفهمه الإسلاميون-هذه مسألة بسيطة يكفيها الحشد والدعاية-كما يجري الآن-لكن يظل السؤال ماذا بعد؟!..إن لفرحة الإسلامي بسيطرته لهي إيذانٌ ببدء مرحلة جديدة عنوانها الإكتفاء ومن ثم السقوط أو المراجعة وإثارة الخلافات مع أبناء العمومة ، وحتى الآن شواهد المراجعة غير موجودة، فالكادر الإسلامي لا يزال يفكر بحزبيته لا بوطنيته، بمذهبه لا بدينه، بدينه لا ببشريته، بعُرفه لا بثقافة المحيط..هو في المحصلة كادر معزول، وهذه الشخصية ليس أمامها سوى التبرير للقيادات الروحية سياسية كانت أم دينية، لأنه فقير ثقافياً ولا يستوعب رؤية الآخر إلا عبر مضمار أيدلوجيته وطريقة تفكيره.
في أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي جرت في مصر حالة تأسلم سياسي أثرت حتى على اتجاهات رجال الأزهر، وتمخضت هذه الحالة وأنجبت لنا عِدة أوجه اقتصادية كشركات توظيف الأموال، وأوجه سياسية متعددة خاض فيها الإخوان تجربة مجلس الشعب، وخاضت فيها أجنحة أخرى تجربة العنف في التغيير عانى منها الشعب المصري إلى أن انطفأ وهجها أواخر تسعينات القرن العشرين، ولم تكن لتنطفئ لولا مراجعات الجماعة الإسلامية، هؤلاء يتحركون من وازعٍ طوباوي يرون فيه الحاكم المسلم بصورة رسول الله والعُمرين ابن الخطّاب وابن عبدالعزيز ولكن" كان أولئك الحكام يرتكبون ما يرتكبون باسم أنهم خلفاء الإسلام، ومنهم من تطاول في القول وسماهم خلفاء الله تعالى، كما كان يجري على لسان الحجاج ابن يوسف الثقفي وأشباهه، ممن كانوا يضيفون قدسية إلى ملوكهم الذين ولوهم، وأرادوا تثبيت مُلكهم بشتى الوسائل ما حل منها وما حرّم"..المجتمع الإسلامي في ظل الإسلام للشيخ محمد أبو زهرة صـ214.
أخيراً فالعمل الإسلامي المتكامل يلزمه الثقافة ابتداءاً وانتهاءاً ، لا العمل ضمن برنامج حركي تعبوي لا يُفرق بين الإصلاحي والتكفيري، كذلك فالشعب المصري فقير مادياً وما يصلح على غيره من الشعوب الذين منّ الله عليهم بالثروة ليس بالضرورة أن ينطبق عليه، فالمال قد يُقلل من حِدّة الصراع البدني، وبالتالي فلا تصلح أفكار كأفكار الدكتور صلاح الصاوي في كتابه "التعددية السياسية" لمجتمع مصري معاصر يُثبت فيه كل يوم أن الوعي الجمعي للإسلاميين لا يزال بحاجة إلا تجديد وعصرنة، وأنه قد آن الأوان لنفض الغبار الذي تراكم على تراث عمالقة كمالك بن نبي والمسيري ومحمد عبده وعلي عبدالرازق وغيرهم من رواد التنوير في المجتمع الإسلامي، مهما اختلفنا معهم أو مع أحدهم فالإستفادة من أفكارهم أصبحت فرض عين، بل قد يجوز تطوير أفكارهم بما لا يخل بمبادئ الإسلام العليا المُجمع عليها، لا أقول نأخذها كأصل ولكن كأسلوب فهم...والله المستعان
التعليقات (0)