لم يجد تعابير بليغة ومؤثرة يصف فيها حالته التي مر بها، وهو الذي كرس جميع وقته للعمل، حيث كان فخوراً بما يقوم به من أعمال تعود فائدتها لوطنه الذي تكبد من أجله عنا الغربة والبعد، حينما كان يفخر دائماً بتلك الأعمال التي يصفها بالمثالية.
فقد تعرض لضغوط شديدة واتهم خلالها بعمل خطأ دبلوماسي أعفاه من منصبه.. بينما يصفها هو وآخرين أنها مفتعلة ومقصودة نكاية في اخلاصه لوطنه. استخدمت تلك الأقاويل والضغوط لتصفيته ومن على شاكلته ممن يزعمون حب الوطن والعروبة. فأثرت عليه نفسياً وجسدياً. لم يكن يظن بأن يتهم في وطنيته، وأن يتم الإصغاء لمن يصفهم بالأعداء. ترك المنصب والسلك الدبلوماسي كلياً.
دأب متربصاً للضغائن وانصرف عن الجميع وهام على وجهه ، يسير في الطرقات بغير هدى في تلك البلاد التي كانت في يوم من الأيام بيضاء هادئة ووديعة بل حتى ساكنيها غاية في الرقي والنظام. أمست مظلمة خانقة تدعو للعربدة والفسوق. وأمسى ذاك الدبلوماسي صاحب البرستيج والحياة مخملية منهاراً. تأثرت حياته الاجتماعية وانعكست عليه بالسلب، حتى من كان في القلب تخلت عنه .. تخلت عنه خطيبته وحبيبته وانقضى الحب الذي انبنا بينهما. كان يخطر بباله أن ابن عمه السفير في أحدى الدول الأوروبية.. الذي لم يتفق معه منذ الصغر، أنه سيشمت به. واستدرك أنه سيقع مثلما وقع به.
وجد نفسه يوماً من الأيام في مكان يشبه الغرزة ، شديد الظلمة ، إنارة خافته ، رائحة كريهة، سقط سكيراً لوهلته الأولى. أخذت بيده بغي .. أوصلته لشقته دفعته للداخل واستلقى على فراشه، واحتضنته، دوران غريب يشعر به، امرأة غريبة المعالم وكثيرة الصور تتلقفه، جمود أفكار ينتابه.
نهض من فراشه صباحاً لم يجد أحداً بجانبه! كيف وصل إلى هنا؟ أين الفتاة؟ سمع كركبة في المطبخ ، خرج مستفهماً:
- من أنتِ؟
بدون أن تلتفت له ، وهي منهمكة في تحضير الإفطار:
- عمت صباحاً.
- أأنتِ من أهل هذه البلدة؟
- نعم أنا كذلك.
- ماذا حدث البارحة؟
- كل الأمور تسير على ما يرام، لا تهتم، حالة سكر طبيعية.
لم يكن يظن أن يصل لهذه المرحلة الخطيرة، ثم قال:
- ماذا تعملين هنا؟
- أريد أن أساعدك فأنت مريض وحرارتك مرتفعة .. فهل تمانع أن أمكث معك؟
فحدجها بنظرة طويلة غاضبة، اذ يصف نفسه أنه من الأسرة المستنكرة لهذه الأفعال، ولم يألف الحياة الجديدة الشوارعية وبدا له الأمر في غاية الصعوبة، كيف تكون معه في شقة بغي؟ وقال مستنكراً:
- لا ، بل أرفض ذلك بشدة ، اغربي عن وجهي حالاً.
فاقتربت منه مطأطئة الرأس قائلة:
- على أقل تقدير أشكرني.
وأخرج حزمة من النقود وناولها إياها قائلاً:
- شكراً.
فتحت فاها ورفعت حاجبيها وقالت متعجبة:
- كل هذا لي؟!
- قال نعم والآن هيا تفضلي بالخروج.
فاستيقنت أن هذه الرجل ليس إنسان عادي، وحتماً أن ظروفاً قاسية قد حولت مساره، فخرجت ترسم ملامحه ونظراته الطفولية.
بعد الاستحمام، لبس ملابسه، كتب مقالته الاسبوعية في الجريدة الوطنية .. ثم خرج من الشقة التي استأجرها منذ أيام ليتوارى عن الأنظار.. هام في الطرقات، اشترى جميع الصحف الوطنية، عاد لشقته وجد البغي جالسة على العتبة تنتظره في وضعية مخلة، تقول: "اشتاقت لنفسيته التي لم يظهر منها أي خبث كما يحصل من بعض الزبائن".
قال لها:
- أنتِ مرة أخرى؟
- ليس لدي ملابس ولا استطيع الذهاب للسوق بهذا الشكل.
ادخلها للشقة وذهب إلى فراشه ونام.
عندما استيقظ وجد شقته نظيفة مرتبة، وملابسه مغسولة ومصففة .. رمقها بنظرة لا تنم عن شيء وقال:
- سأذهب لأحضر العشاء واشتري لكي بعض الملابس.
ابتسمت وقالت:
- سأنتظرك على أحر من الجمر.
وجد نفسه يخرج لهدف ولكنه استحقر نفسه للوضع الذي هو فيه الآن، وحدث نفسه قائلاً: "بعد العشاء لن ادعها تمكث معي وسأطردها".
دلف من باب الشقة وجد الظلمة حالكة إلا نور صغير بجانب الكنبة الركنية، فأضاء المصابيح والتقفت منه أكياس الملابس والعشاء، تود أن تستلطفه لعله يرحمها ويبقيها هذه الليلة في كنفه بدلاً من العربدة في الكباريهات والحانات.
قال لها:
- لنحضر العشاء وبعدها آمل أن تغادري المكان.
لم تلتفت إليه وهي منكسة الرأس متجهة صوب المطبخ. أخذ يتصفح الصحف ويقلبها "إقالة الدبلوماسي الكبير من منصبه"، "تنصيب دبلوماسي محنك بديلاً عن سابقه المقال"، دخل غرفته بهدوء ولم تصل ليده أي حيلة سوى أنه في النهار التالي وجد مشنوقاً بسلك الهاتف.
التعليقات (0)