خمارا الى درجة الثمالة المستديمة لا تفارق قنينة الكحول جيبه , كان يقف في مكانه الدائم تحت ظل حائط مائل , مر بالصدفة أحد المتسولين من هؤلاء الذين يعيشون في أكبر منزل صيفي في العراق وهو حديقة الامة التي تقع في قلب بغداد , تجمع بحنانها عشرات المتسولين كعائلة واحدة , كان هذا المتسول يمشي حافيا ويبدو انه فارق الحذاء منذ فترة طويلة الى درجة ان قدماه تلونتا بلون ارضية الشارع , وقف المتسول قريبا من الخمار ليرتاح من عناء الطريق الذي لا ينتهي الا بتوقف قلبه , أنتبه الخمار لحال المتسول وكأنه ينظر للوحة سريالية رسمت بأنامل فنان شديد القسوة , وضع الخمار يده على كتف المتسول ومده بدفعات من الحنان وأنتزع نعليه والبسهما في قدمي المتسول وذهب الى بيته حافيا .
مررت بأحد الاصدقاء مرة ووقفنا في باب داره انا وهو واحد أقاربه , مرت سيدة يبدو عليها الفقر وكان صديقي على معرفة مسبقة بحالها فقدم لها يد المساعدة , أنتفض قريبه بشكل مفاجيء قائلا : هل تعلم عنها شيء ؟ هل تعرف أن كانت تصلي أم لا ؟ هل تأكدت من كونها فقيرة فعلا ؟ هل تعرف مستوى أيمانها والتزامها ؟ وغيرها من الأسئلة التي أثارت أشمئزاز صديقي الذي أنتفض بوجه قريبه بشكل أثار أعجابي وأراحني بشكل كبير .
قدر الفقير أن يكون الالم صديقه الدائم الذي يزوره دون سابق أنذار , شعار الخمار في قصتنا الأولى هو ( الشعور بمعاناة الاخر) وشعار المتدين في قصتنا الثانية هو ( أستغلال معاناة الاخر للحصول على متعة أبدية لا تنتهي في الجنة )
هناك نوع من المتدينين علاقته مع الله مبنية على أساس تجاري تحدده معادلات رياضية, فهو يفكر كثيرا في ما سيحصل عليه مقابل فعل الخير ويفكر في تحقق المعادلة الرياضية التي توصله للمكسب المستهدف من الحسنات لذلك يهتم كثيرا في علاقة من يريد مساعدته مع الله ومدى قوة هذه العلاقة ولا يفكر بمدى معاناة هذا الشخص ومقدار الألم الذي يشعر به , وهكذا نموذج لو فرضنا أن عمل الخير ليس فيه حسنات لم ولن ينفق دينار واحد لأجل رفع المعاناة عن أنسان , الهدف الرئيسي من فعل الخير لدى هذه الشريحة هو تقوية علاقته بالله والحصول على متعة أبدية لا تنتهي , أما الخمار الذي نزع نعليه دون تفكير ليرفع المعاناة عن المتسول وليذهب الى بيته حافيا دون حرج فهذا نموذج من نوع اخر , وصل الى أعلى درجات الرقي وأعلى درجات الأحساس بالاخر ,لم يفكر في معتقد الاخر ولا مقدار التزامه ولم يعرف أن كان يصلي أم لا كل ما كان يفكر به هو مقدار الألم الذي يشعر به المتسول وطريقة تخفيف هذا الألم .
ليس هناك علاقة مباشرة للتدين و للخمر بالموضوع , هناك متدينين يحملون نفوس طيبة ومقدار عالي من الحنان وهناك خمارين يحملون مقدار عالي من القسوة , وتبقى نظرتي للخمر أنه شيء غير مفيد ومضر بالصحة , ما أتحدث عنه هنا هو الحنو على الاخر بدافع الحب وليس بدافع المصلحة .
شاهدت مرة كلب أعطاه أحدهم طعام فأخذه بفمه ووضعه خلف اطار أحدى السيارات الواقفة في الشارع ورجع بعد خمس دقائق معه أربع كلاب واقتسموا الطعام جميعا, أن ما فعله هذا الكلب يعجز الكثير من البشر عن فعله , لم أعد أعتقد أن المشاعر الطيبة يجب أن تسمى مشاعر أنسانية , فالواقع يفرض غير ذلك , هي مشاعر توجد في البشر وغيرهم من الكائنات الحية , تستخدم مفردة الأيمان عرفا كصفة للمتدين وتستخدم مفردة الكافر كصفة لللاديني أو الغير متدين احيانا .
حين نتأمل قصتي الخمار والمؤمن نجد أن صديقنا الخمار يؤمن بعقيدة الحنو والشفقة على الضعيف دون تردد وصديقنا المتدين يؤمن بعقيدة التزلف لله لنيل الجنة والتخلص من عذاب النار أما مساعدة الضعيف ورفع المعاناة عنه فهي وسيلة وليست غاية .
يتحدث بعض رجال الدين عن الله وكانهم يتحدثون عن هتلر, لا يهتمون بمدى قناعة الاخر ومدى شعور الاخر بجوهر الأيمان بالله فالنتائج الشكلية هي في المستوى الأول فيكفي أن تصلي وتقصر ثيابك وتستعمل السواك وتتختم باليمين وتطلق اللحية خوفا من جهنم أو طمعا في حور العين ومن غير المهم أن تصل الى عمق الأيمان بفلسفة الله وفلسفة الموت والحياة .
المفارقة أن الخمار ليس في وعيه الكامل لكنه وصل الى درجة تعتبر وفق المنظار البشري أعلى درجات فهم الاخر والشعور به. والمتدين في كامل وعيه لكنه فشل في التفاعل مع الاخر وقرر الانتظار في البرج العاجي الى أن يمكن الاخر المنهك في هموم الحياة من الوصول اليه , الأمثلة السابقة ليست معيار ممكن أن يقرن بالتدين أو شرب الخمر , في هذه الحياة كل صفة ممكن أن تتوقع وجودها في أي أنسان مهما كان سلوكه الحياتي والتزامه الديني , يتصور المتدين أحيانا أنه من خاصة الله وباقي الناس الذين لا يشبهونه في السلوك هم العامة لذلك يكتسب صفة الغرور فهو يهدد الناس بجهنم ويستثني نفسه ويغريهم بالجنة لأنه متأكد من أنه سيدخلها , أقصى درجات السمو الانساني هو الشعور بمعاناة الاخر ورفعها عنه جهد الأمكان دون التفكير بالمكاسب المعنوية والمادية , بعض فاعلي الخير يفعل الخير من باب الانانية وليس من باب رفع الألم عن الاخر , فلو لم يكن هناك مكافأة مقابل الخير أنا على يقين أنه لم ولن يفعله. والبعض الاخر يفعل الخير لأنه يريد رفع المعاناة عن الاخرين بشكل مجرد وليس له صلة بتقوية علاقته مع الله .
التعليقات (0)