في إطار الهوية الدينية والقومية للشعوب العربية .. تقوم هوية المواطنة لكل مجتمع عربي على ركنين أو مرتكزين أساسيين هما :
الأول : هو الاسم السياسي الذي يرسم حدود الدولة كإطار لمكوناتها الأساسية .. الحكومة ، الشعب ، الأرض ، والسيادة .
فنجد أن اسم الدولة أما موروث كمصر وفلسطين والعراق واليمن والبحرين ، وأما مكتسب يرجع لمؤسس الدولة كالمملكة العربية السعودية ، وأما فرضه المستعمر كما في بعض الدول العربية
الأخرى كسوريا ولبنان والأردن والكويت بعد تجزئة الوطن العربي سياسيا من قبل المستعمر أثر هزيمة الدولة العثمانية .
والثاني : هو المكون الثقافي الذي يميز كل شعب عن الآخر ، ويتميز بالغالبية و"التجذر" و"المحلية" ، ويحدد السمة المميزة لهذا المجتمع أو ذاك وفقا للخصائص الاجتماعية لكل قطر .
وهو مكون ثقافي أو مجموعة مكونات ثقافية موروثة وذات طابع يتسم بالثبات . بمعنى أنها لا تتأثر بالتحولات والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ولا تقوم على أي مرتكز في البني الفكرية
أو الطائفية أو العرقية والقومية ، كذلك لا تتأثر بالإيديولوجيات والتوجهات الفكرية والسياسية المتباينة .
وهذا يعني وجود ثلاث هويات متوالية هي : الهوية الدينية ، تليها الهوية القومية العربية ، ثم هوية المواطنة . وليس بالإمكان القول أن مرتكزي هوية المواطنة هما الدين والعروبة إلا في حال الإطار السياسي الواحد أو ما يسمى بالوحدة العربية . أما في ظل الوضع القائم للشعوب العربية فأن هوية المواطنة التي تحقق لكل فرد انتمائه للوطن الذي يعيش على أرضه تقوم على الإطار السياسي ومزيج متجانس وغير مكتسب من المكونات الثقافية التي ترسم الملامح العامة لكل مجتمع وتحدد شخصيته الاجتماعية كأساليب الحياة ، والاتجاهات النفسية ، والعادات ، واللغة المحلية أو ( اللهجة الدارجة أو العامية ) .
وفي المجتمع السعودي ، نجد أنه بالإضافة لما يتسم به المواطن السعودي من صفة ( الفزعة ) - والتي استغلت في مواقف كثيرة من خلال استثارتها عاطفيا - فقد أصبح التجانس إلى حد ما لأغلب أساليب الحياة يشمل الحياة في المدينة والقرية بالنظر للتماثل في الخدمات الأساسية والسكن والأنماط السلوكية للشراء والتسويق . . ويمثل هذا التجانس الذي يقوم على الوظيفة في القطاعين العام والخاص وبعض المهن الأخرى متغيرا اجتماعيا نشأ بشكل تدريجي ليشكل مرحلة تتسم بالاستقرار ، وهي المرحلة التي تكونت بشكل أكثر بعد مرحلة ما سمي "بالطفرة" في نهاية الثمانينات الميلادية . ولذلك فهو تجانس مكتسب لمكوّن ثقافي مكتسب .
وقد حل هذا المكوّن الثقافي المكتسب للتجانس بنسبة جيدة محل أساليب الحياة ذات التنوع الحاد في الأنماط الحياتية المتعددة ، مثل الرعي ، والزراعة ، والتجارة ، وبعض الأنماط الحياتية والمهنية الأخرى كصيد الأسماك وبعض الصناعات التقليدية .
بينما تحولت التجارة إلى منشآت اقتصادية تشكل مصدرا من مصادر الأساليب الحياتية مكتسبة التجانس في المجتمع .
وقد كان ذلك التنوع في الأساليب الحياتية يقوم على تنوع آخر أكثر حدة ، فبالإضافة للتباين الحاد في التوزيع الديمغرافي والجغرافي يأتي التكوين الاجتماعي المتمثل في البادية أو البدو ، والحضر ، وبعض التكوينات الاجتماعية الأخرى ، حيث تتحدد الانتماءات وفقا لنمط التكوين الاجتماعي كالقبيلة التي تغلب البداوة على نمط حياتها ، والحضر المنتمون للقبيلة ، والحضر المنتمون للعائلة أو العشيرة ، والفئات الاجتماعية المهنية ، والعرقيات التي تعود لقوميات إسلامية وعربية عديدة .
وقد أدى التنوع في اللهجات المحلية ، وهو تنوع طبيعي في السياق الانثربولوجي ، مع التحول في الأساليب الحياتية المتجانسة إلى حد ما ، وثورة تكنولوجيا الاتصال والإعلام ، وقبل ذلك انتشار التعليم ... كل ذلك عوامل اجتماعية واقتصادية أدت إلى نشوء لغة عامية واحدة إلا أنها "مكتسبة" ويبدو عليها التكلف أحيانا بسبب عمق التباين والاختلاف في كثير من المفردات والتباين في النطق ومخارج الحروف بالإضافة إلى بعض الحروف التي تنطق ولا تكتب . ومن الأمثلة على ذلك الضغط على حرف الكاف في مخاطبة الأنثى حتى يقترب من حرف "السين" أو السين والتاء "تس" كما في اللهجات المحلية الممتدة من بيشة إلى نجد وأجزاء من الشمال .
كذلك استبدال حرف الكاف في مخاطبة الأنثى بحرف الشين كما في اللهجة المحلية لقبائل عسير وبني شهر ، وكذلك استبدال حرف الجيم بحرف الياء كما في اللهجة المحلية لخثعم .
وهناك تضخيم حرف الجيم كما في اللهجات المحلية لقبائل غامد وعتيبة وجزء من حرب مع فوارق واضحة في نطق الحرف ومخرجه .
هذا عدا عن الفارق الكبير بين خشونة الحرف ونعومته في النطق ومخارج الصوت بين سكان البوادي وسكان الحجاز .
أما التباين الحاد في بعض العادات الاجتماعية فقد نال نصيبه من التحول والتغير الاجتماعي في مرحلة (الطفرة) الاقتصادية في بداية السبعينيات الميلادية والتي امتدت من العام 1970 إلى العام 1990 م تقريبا ، ثم بفعل تأثير تيار الصحوة الإسلامية الذي كان داعما قويا لإدراك المجتمع تعارض بعض المعطيات التي أفرزتها الطفرة الاقتصادية كتغلغل العمالة الأجنبية داخل المجتمع .
وفي الوقت الذي ذهب فيه خطاب التيار الديني إلى أبعد من تشكل عادات اجتماعية تكاد تكون متجانسة وتتعلق خاصة بالمرأة فقد نجح في إيجاد وجه آخر للتغير الاجتماعي وهو ما يسمى بالخصوصية السعودية وهي خصوصية مبتدعة لتتماشى مع الاتجاهات الفكرية الجديدة .
وفي المقابل نشأ تيار آخر هو تيار الحداثة الذي حاول أن يعيد التوازن لخصوصية المجتمع ولكنه غرق في بحر من الرمزية حتى أنك لتكاد تخاله قادم من كوكب آخر !
وعلى الرغم من إمكانية ترسخ المكونات الثقافية المكتسبة وبناء هوية المواطنة وصهر الانتماءات المتباينة في بوتقة واحدة للمجتمع الحديث إلا أن ثمة أسباب جوهرية أضعفت من دور التحول والتغير الاجتماعي في تعزيز انتقال الهوية من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج من خلال بلورة المكونات الثقافية الأكثر تجانسا لتشكل المرتكز الثاني للهوية الوطنية ، العوامل الآتية :
1- تدني مستوى مخرجات التعليم ، وتنامي ظاهرة " الأمية التعليمية "
2- الانفصام بين التعليم والمجتمع .
3- تدني نصيب بعض الجهات والمناطق من التنمية .
4- نسبة الفقر والمستوى المعيشي المتدني للطبقة الفقيرة في مجتمع من أغنى دول العالم .
5- تدني مستوى العدالة في توزيع الوظائف القيادية ، سواء على مستوى "الجنس" .. الرجل والمرأة ، أو على مستوى المناطق .
6- العلاقة الفردية بين الفرد والدولة في ظل انعدام مؤسسات المجتمع المدني الحقيقية .
7- تكريس الخطاب الديني للمفاهيم الطائفية لدى العامة وكثير من الاتجاهات النفسية السلبية لكل طائفة مذهبية نحو الأخرى سنية أو شيعية . سواء كان هذا الخطاب وهابيا أو سلفيا أو أخوانيا
أو شيعيا .
8- تجاوز الخطاب الديني لهوية المواطنة لدى الفرد إلى مفهوم
( الأممية ) حتى أصبح الفرد المتلقي يشعر بالانتماء لأمة إسلامية غير محددة الأطر السياسية والمكانية والزمانية ، وتجنب ذكر المواطن السعودي أو الشعب السعودي والاستعاضة عن ذلك بالمسلم والأمة الإسلامية ، رغم محاولات البعض توجيه شعور المتلقي بالانتماء لأرض الحرمين كمنطلق لبناء الدولة الإسلامية المنتظرة .
9- الذاتية الاقتصادية ، واستغلال السلطة الوظيفية ، واستغلال النفوذ ، وقصور تنمية الإنسان ، والأساليب التعليمية القديمة .. كل ذلك ساهم في تخلخل المكوّنات الثقافية المكتسبة وعدم قدرتها على تحقيق الانتماء كركيزة ثانية للهوية الوطنية ، وظلت التكوينات الاجتماعية المتنافرة هي الأساس .
10- الهوة الكبيرة بين الواقع والمثالية الزائفة .. مجتمع يدعي المثالية فلا يسعى لها ولا ينشدها . حيث وقع بين طرفي نقيض .. بين من يحرص على استمرار الواقع كما هو دون تغيير فيلجأ لتزييف الوعي تجاه معطيات الحاضر ، وبين من يرى الفضيلة في كل ما سلف فتقرأ أو تسمع عقل يجسد الماضي في كيان الحاضر .
ومن أجواء هذين المدارين نشأت ثقافة المداراة والمسايرة ، وتجريم النقد ، واختلال التفاعل الاجتماعي ، والعلاقة بين الحاكم الذي يُرى "كل شيء على ما يرام " والمحكوم الذي لا يستطيع القفز فوق الحواجز ! في مجتمع يتطلب نموه مزيدا من الشفافية والمكاشفة والاستنتاج وتقبل الآخر المختلف والآخر الثقافي وإقامة المعايير العقلية والقيم الثابتة مرجعا للحكم على نتاج الماضي ومكونات الحاضر واستشراف المستقبل ..
هذه الأسباب لم تضعف فقط من دور التغير الاجتماعي في تعزيز فوقية الهوية المشتركة على كل مختلف الانتماءات بل كانت عاملا مهما في تنامي اتجاهات البعض النفسية السلبية بحسب انتماءه الاجتماعي ، أو خلفيته الثقافية ، أو مفاهيمه الذاتية والمكتسبة من محيطه الاجتماعي الضيق ، نحو بعض الجهات وبعض التكوينات الاجتماعية .
وتتمثل هذه الاتجاهات النفسية لدى البعض في نزعة مشوبة بشيء من العنصرية ، وفي وجود نظرة قاصرة لدى بعض آخر نحو جهة أو منطقة ما ، أو مكون اجتماعي ما .
والحق أن من الخطأ القول بأن صور هذه الاتجاهات وانعكاساتها السلبية تنحصر فقط في التالي :
- ما يشاع من مقولات على سبيل الفخر أو السخرية ومن ذلك :
اجتماعيا : هذا قبلي وذاك حضري ، أو هذا حجازي وذاك بدوي . وأيديولوجيا : هذا إسلامي وذاك علماني .
ومذهبيا : هذا سني وذاك شيعي .
- النظر إلى بعض المناطق من خلال النظر إلى جزء صغير منها مختلف أما من حيث التنمية أو من حيث مكونات ثقافته المحلية .
- صدمة وسائل الحضارة الحديثة على العقل المتأخر كما يتضح من لمز كل منطقة بأرقام الهاتف الأولية ( 07 , 01 ، 02 ، .... )
وكذلك القبلي والبدون برموز الخطوط الكهربائية ( 110 ، 120 )
والحقيقة أن هذه الصدمة الحضارية أنما تشير إلى إشكالية أعمق وهي التغير الشكلي للمجتمع وتوقف علاقته بالوسائل الحديثة على الاستبدال لا التوظيف للإنتاج .
وعلى هذا الأساس فأن من الصور المؤثرة سلبا لهذه الاتجاهات النفسية ومن أهم انعكاساتها الخطيرة الظاهرة ما يلي :
أولا : التخلخل التنموي في بعض القرى والمحافظات والمناطق .
ثانيا : اختلال توزيع الوظائف القيادية على المناطق والمحافظات .
ثالثا : تبعية الصحافة جهويا أو مناطبقيا .
رابعا : أدلجة دور النشر ،
خامسا : الاحتكار الاقتصادي .
سادسا : تحول الاختلافات التعددية الطائفية والمذهبية والفكرية والثقافية الطبيعية إلى تصادمية عدائية مذهبية تتأرجح بين التطرف وصناعة العدو . ويتضح ذلك بشكل أكثر في العلاقة بين الشيعة والسنة من جهة والإسلاميين والليبراليين من جهة أخرى ..
ومن الواضح أن من مساوئ الانعكاسات السلبية لبعض هذه الاتجاهات النفسية هدر الطاقات الإبداعية وتضييق الخناق على العقول المنتجة والمبدعة ، وضعف استفادة بعض المناطق والمحافظات من توزيع المشروعات التنموية ، والتشبث بأسماء "براماتيكية" صحفية معينة لسهولة تشكيل انتمائها .
تركي سليم الأكلبي
Turki2a@yahoo.com
التعليقات (0)