مواضيع اليوم

السعودية وتياراتها الأصولية

المملكة العربية السعودية وتياراتها الأصولية في مرآة المثقفين الغربيين



هاشم صالح

كاتب ومترجم سوري مقيم في فرنسا

 

 

تحاول هذه الدراسة استعراض آراء بعض المفكرين الغربيين في المملكة العربية السعودية من أمثال: برنارد لويس، باسكال مينوري، جيل كيبل، دافيد ريكوليه روز، جورج جودت دواليبي الخ... فبعد 11 سبتمبر أصبحت السعودية الشغل الشاغل للمثقفين الأوروبيين والأميركان. ولا يمكن أن نحصي عدد الكتب والمقالات التي نشرت عنها في اللغات الأجنبية. فقد اكتشفوا فجأة أنهم لا يعرفون شيئاً يذكر عن هذا البلد الكبير بحجمه وموقعه وإمكانياته المادية ودلالته الرمزية والروحية العالية بالنسبة لكل العرب والمسلمين.

وهكذا راحوا يكسرون جدار الصمت الرهيب الذي كان يحيط بالسعودية على مدار السنوات السابقة عن طريق هذه الأبحاث والمؤلفات. فالناس يريدون أن يعرفوا سر هذا البلد الذي أنجب ليس فقط بن لادن وإنما أيضاً خمسة عشر انتحارياً من أصل تسعة عشرة. ولذا راح مفكرو الغرب يدرسون السعودية من الداخل لفهم تركيبتها القبلية، والمذهبية، والجغرافية، والعلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، ومعنى ظاهرة الوهابية، وسبب الانغلاق الفكري الرهيب الذي لا مثيل له في العالم، الخ... نقول ذلك على الرغم من وجود تيار وسطي لدى رجال الدين، وكذلك تيار ليبرالي رائع في أوساط المثقفين السعوديين. ولكن التيار الأصولي المتزمت جداً يفرض إرهابه الفكري على الجميع كما يقول الباحث جورج جودة دواليبـي في دراسة قيمة صدرت مؤخراً في العاصمة الفرنسية.

بمعنى آخر فإن هؤلاء المفكرين الغربيين طبقوا المنهج العلمي لأول مرة على بلد كان يقع خارج الدراسة العلمية بل ولم يكن أحد يتجرأ عن تطبيق الدراسة العلمية والسوسيولوجية والتاريخية عليه. وبالتالي فالمداخلة تستعرض كل هذه الإضاءات التي ألقاها مثقفو الغرب على السعودية. وهي إضاءات لا تكتفي أحياناً بتشخيص المشكلة وإنما تقترح لها العلاج أيضاً. وربما كان جديراً بالمثقفين العرب أن يطلعوا على هذه الآراء والتشخيصات سواء اتفقوا معها أم اختلفوا. فالنظرة الخارجية لها مزاياها بالقياس إلى النظرة الداخلية. والبعيد قد يرى أشياء فيك لا يراها القريب. نقول ذلك على الرغم من أن للنظرة الخارجية نواقصها أيضاً.فقد يكون هناك تحيز ضدك أو موقف معاد أو مسافة زائدة عن اللزوم عن الموضوع المدروس. وكل هذه الأشياء ينبغي أخذها بعين الاعتبار أثناء قراءة الصفحات التالية. فهي ليست معصومة عن الزلل أو الخطأ، وإنما هي مجرد اجتهاد قد يصيب وقد يخطئ. لنبتدئ إذن بشيخ المستشرقين على صعيد الغرب كله: برنارد لويس.

السعودية في مرآة برنارد لويس

بعد ضربة 11سبتمبر كان متوقعا أن يجيش برنارد لويس كل طاقاته لشرح الأسباب العميقة لما حدث. وقد نشر عدة كتب عن الموضوع من بينها كتابان يحملان العنوانين التاليين: ما الذي حصل بالضبط؟ الإسلام، الغرب، الحداثة. ثم: أزمةالإسلام: حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس.وقد اعتمدت هنا على الترجمة الفرنسية:

Que sest-il passé? Lislam, loccident et la modernité. Gallimard. 2002

Lislam en crise. Guerre sainte et terrorisme satanique. Gallimard. 2003

وهذا الكتاب الثاني هو الذي يهمنا أمره هنا. ففيه يخصص فصلا كاملا للموضوع التالي: السلطة السعودية والعقيدة الوهابية. وفيه يقول بما معناه: إن رفض الحداثة باسم ماض مقدس أو خلعت عليه أسدال التقديس لاحقا له تاريخ طويل في المنطقة العربية الإسلامية. ولكن أخطر الحركات الدينية التي ظهرت في العصور الحديثة عند العرب ووقفت من الحداثة موقف العداء المطلق هي بدون شك الوهابية. فحيثما سيطرت فرضت هذه الحركة نظاما دينيا صارما لا هوادة فيه. وقد استباحت الجزيرة العربية والمناطق المجاورة حيث قتلت الناس برجالهم ونسائهم وأطفالهم دون تمييز لأنهم لا يطبقون الإسلام كما تفهمه هي. وقد اعتبرتهم خارجين على الدين وبالتالي يحل ذبحهم واستئصالهم بدون أي شفقة أو رحمة. وقد عقدت هذه الحركة الدينية المتزمتة إلى أقصى الحدود حلفا مع آل سعود منذ البداية باعتبار أن لآل عبد الوهاب أو آل الشيخ كما يسمونهم الآن السلطة الدينية ولآل سعود السلطة السياسية. وهذا الحلف الديني السياسي الذي لا ينفصم هو الذي أدى إلى تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932. ولا يزال هذا التحالف سائدا حتى الآن وان كان قد تعرض للزعزعة والاهتزاز بعد زلزال 11 سبتمبر كما سنتعرض إليه لاحقا.

مهما يكن من أمر فان برنارد لويس يعتقد انه لولا البترول وأمواله الضخمة لظلت الحركة الوهابية محصورة داخل جدران نجد أو الجزيرة العربية على أكثر تقدير ولما شهدت كل هذا التوسع والانتشار الذي شهدته لاحقا وجعل منها ظاهرة عالمية ضخمة. ثم يضرب برنارد لويس المثل التالي لكي يقرب فكرته إلى الأذهان والعقول. يقول بما معناه: تصوروا لو أن حركة اليمين المتطرف الأميركي،كيو كلوكس كلان، استطاعت الاستيلاء على ولاية تكساس الغنية بالبترول. ثم قررت أن تستخدم أموال البترول هذه في بناء شبكة كاملة من الكنائس الأصولية والمدارس والجامعات ليس فقط في أميركا وحدها وإنما في كل أنحاء العالم المسيحي. ألن يسود التزمت عندئذ في كل مكان؟ ألن تخنق حرية الفكر والروح في كل مكان من العالم الأوروبي الأميركي؟ في الواقع إن الوهابية تظل أخطر بكثير من هذه الحركة اليمينية المتطرفة. وبالتالي فالمقارنة تظل تحت مستوى الحقيقة وذلك لسبب بسيط هو أن البلدان المسيحية تمتلك نظاما تعليميا حديثا وقويا. وبالتالي فيستحيل على حركة اليمين المتطرف كيو كلوكس كلان أن تسيطر عليها ببرامجها التعليمية أو تبث فيها سمومها وأفكارها المتشددة مهما كانت ثرواتها طائلة. وهذه ليست هي حالة البلدان الإسلامية التي قد لا تمتلك أي نظام تعليمي يستحق هذا الاسم. لنفكر هنا ولو للحظة بأفغانستان أو بنغلاديش أو حتى الباكستان أو سواها من بلدان عديدة حيث وجدت الوهابية مرتعا خصبا. ولهذا السبب استطاعت أن تنتشر فيها انتشار النار في الهشيم وان تسيطر عليها خلال عقدين من الزمن فقط بفضل أموال البترول المتدفقة والمدارس القرآنية..

بل ووصل تأثير الوهابية حتى إلى الغرب المتقدم في أميركا الشمالية وأوروبا حيث توجد جاليات عربية وإسلامية كبيرة. فقد وصلتها الدعاية الوهابية مدعومة بالفلوس وأثرت على عقلية الكثيرين من أبنائها وسببت مشكلة لدول كبرى كفرنسا وانكلترا وألمانيا والخ... بل وأقامت السعودية هناك المساجد الكبرى والمراكز الإسلامية في قلب العواصم الأوروبية كباريس وليون وروما وبروكسيل ومدريد ولندن وسواها.. هذا في حين أن السعودية ترفض إقامة كنيسة واحدة على أرضها..ثم يردف برنارد لويس قائلا: لقد استفادت السعودية من عاملين أساسيين لنشر هيمنتها على الصعيد العربي والإسلامي بل وحتى العالمي.أولهما وجود الأماكن المقدسة الإسلامية على أرضها. وثانيها اكتشاف البترول بكميات ضخمة في باطنها. ولولا ذلك لظلت الوهابية عبارة عن طائفة متشددة وظلامية في دولة هامشية.

ثم ينتقل برنارد لويس بعدئذ لمعالجة قضية خطيرة ألا وهي الأصولية قائلا بان المصطلح ينطبق أولا على الحركة البروتستانتية الأميركية التي تنحرف عن التيار الغالب في المسيحية الغربية من حيث رفضها للتفسير التاريخي للكتابات المقدسة واللاهوت الليبرالي التحرري الذي ساد في الغرب بعد انتصار الحداثة. فالأصولي الأميركي الذي يشكل أقلية بالقياس إلى التيار العام يظل متشبثا بلاهوت القرون الوسطى والتفسير الحرفي للكتاب المقدس. ويرى برنارد لويس أن المصطلح لا ينطبق على الوضع الحالي للإسلام لسبب بسيط هو أن جميع المسلمين أصوليون في نهاية المطاف وليسوا منقسمين إلى تيار ليبرالي وتيار أصولي متزمت كما هو حاصل في أميركا أو الغرب عموما. وما دليله على ذلك؟ دليله هو أن التيار الليبرالي مات في الإسلام بعد القضاء على المعتزلة والفلاسفة وبالتالي فجميع المسلمين أصبحوا أصوليين بعدئذ وان بدرجات متفاوتة. ينتج عن ذلك أن الفرق بين المسلم الأصولي المتطرف والمسلم المعتدل هو في الدرجة لا النوعية. صحيح أن اللاهوت الليبرالي، أي العقلاني، قسم المسلمين في الماضي وقد يقسمهم في المستقبل. ولكن في الحالة الراهنة للأمور لا يوجد لاهوت ليبرالي عندهم لأنهم كلهم مجمعون على أن القرآن هو كلام الله الحرفي غير المخلوق بأي شكل كان. وبالتالي فلا يمكن إعادة تفسيره أو تأويله. وإنما ينبغي أن نأخذه بحرفيته كما هو. إنه الكلام الإلهي المعصوم بإطلاق. انه ليس فقط مستلهما من قبل الله كما هي حالة التوراة والإنجيل عند اليهود والمسيحيين وإنما هو الكلام الحرفي لله. قد يوجد بعض المثقفين المسلمين الذين لا يعتقدون بذلك ولكن لا أحد يتجرأ على إعلان رأيه صراحة.

وأخيرا يرى برنارد لويس أن الأصوليين الحركيين في الإسلام هم أولئك الذين يعتقدون بأن مشاكل العالم الإسلامي ناتجة ليس عن نقص التحديث وإنما عن زيادته! وزيادة التحديث أو المبالغة فيه هي التي أدت إلى خيانة القيم الحقيقية للإسلام. وبالتالي فالحل يكون في العودة إلى الإسلام الأصلي الأولي وإلغاء كل الأفكار والقوانين والعادات المستعارة من الغرب. ينبغي أن نعود إلى الشريعة أي إلى القانون المقدس للإسلام والمعتبر إلهيا بالخالص. وبالتالي فالعدو الأساسي بالنسبة للأصوليين الحاليين ليس الغربي الدخيل بقدر ما هو المسلم الإصلاحي المستنير الذي يلغم الإسلام من الداخل ويزعزع اليقينيات الراسخة. لهذا السبب تتم تصفية المثقفين الليبراليين في العالم العربي باعتبارهم أصل الداء وجرثومة التغريب. كما ويحاول الأصوليون قلب الأنظمة الحاكمة باعتبار أنها تابعة للغرب ولا تحكم بشرع الله.

باسكال مينوري واللغز السعودي

ننتقل الآن إلى دراسة أفكار الباحث الفرنسي باسكال مينوري، خريج قسم الفلسفة من جامعات باريس. وقد اشتغل سابقا كأحد أعضاء السفارة الفرنسية في الرياض، ثم عاد إلى بلاده وأصبح مسؤولا في إحدى الوزارات.

وبعدئذ عاد إلى الرياض مرة أخرى على إثر تفجيرات 11 سبتمبر بوقت قصير وأقام هناك لمدة عام كامل. ومارس التدريس في إحدى الجامعات السعودية، واختلط بالطلاب وتعرف على بعض السياسيين المثقفين من ليبراليين وأصوليين. ثم سافر كثيرا في شتى أنحاء الجزيرة العربية. وبعدئذ ابتدأ بتأليف هذا الكتاب الذي سنعتمد عليه هنا.

وقد قدم له باحث أكبر سنا وتجربة هو "فرانسوا بورغا" صاحب كتاب: "الأصولية وجها لوجه". وهو مدير المركز الفرنسي لعلم الآثار والعلوم الاجتماعية في صنعاء باليمن. وبالتالي فيمكن اعتباره بمثابة الأستاذ للمؤلف.

ويرى "بورغا" أن ميزة هذا الكتاب هي أنه يلقي نظرة علمية وإنسانية على مجتمع مجهول بالنسبة لنا نحن الغربيين هو: المملكة العربية السعودية. فقد ظهرت عنها كتب عديدة بعد 11 سبتمبر، ومعظمها هجومية وسلبية جدا. والكثير منها يقدم "كليشيهات" عامة من نوع: إنها البلد الذي أنجب بن لادن، إن حكومتها تدعم الإرهابيين، إن أموالها تذهب إلى الأصوليين، إنها البلد الوهابي الأكثر تعصبا في العالم، الخ.

ثم يردف فرانسوا بورغا قائلا: وقد آن الأوان لتصحيح الصورة وتقديم صورة أخرى أكثر مرونة وإنسانية عن هذا البلد. ثم يعيب الباحث الفرنسي على المملكة عدم اهتمامها في السابق بتصحيح صورتها في الخارج، وترك مسؤولية هذه الصورة لرجال الأعمال وتجار البترول والأسلحة، وعدم إقامة علاقات مع المثقفين في أوروبا أو أمريكا... ولذلك فعندما وقعت "الفاس بالراس" كما يقال لم يحاول أي مثقف في الغرب الدفاع عنها.

والواقع أن المسؤولين السعوديين كانوا يعتقدون بأن العالم بحاجة إلى المملكة الغنية بالبترول، ولكن المملكة ليست بحاجة إلى العالم. وهذا خطأ ما كان ينبغي أن يقعوا فيه. ولكنهم بعد 11 سبتمبر شعروا بضرورة الانفتاح على العالم لتصحيح الصورة السلبية جدا عنهم. وهي الصورة التي تنشرها وسائل الإعلام في الغرب على نطاق واسع باعتبار أن المملكة هي البلد الذي يفرّخ الإرهابيين، أي بلد التزمّت والأصولية الأكثر تعصبا. وربما كان هذا الكتاب أوّل بحث يدافع عن صورة معقولة وإيجابية عن المملكة العربية السعودية.

والواقع أن مؤلفه، باسكال مينوري، كثيرا ما ينتقد الكتاب السابق الذي شهّر بالمملكة وأساء إلى سمعتها كثيرا والذي ألّفه باحث فرنسي أيضا يدعى لوران موراويك. وهو خبير يشتغل في الولايات المتحدة وله علاقة بالبنتاغون وبريتشارد بيرل والمحافظين الجدد والأوساط المعادية للسعودية.

ويمكن اعتبار هذا الكتاب الجديد بمثابة رد على كتاب موراويك الذي أزعج المسؤولين السعوديين كثيرا على ما يبدو. بل ونلاحظ أن باسكال مينوري يهاجم معظم الكتب التي صدرت في فرنسا عن السعودية ويعتبرها مليئة بالأحكام المسبقة والكليشيهات المعادية والتبسيطية. ويذكر من بينها الكتب التالية:

1-كتاب للباحث كلود فوييه بعنوان: الجزيرة العربية مهد الأصولية الدينية. الشبكات المتعصبة، المدرّبة والمموّلة من قبل مملكة آل سعود، منشورات فافر، لوزان، سويسرا 2001

Claude FEUILLET : L’Arabie à l’origine de l’islamisme, les réseaux fanatiques formés et financés par le royaume des Saoud, Favre, Lausanne, 2001

2-كتاب الباحث والصحافي اللبناني أنطوان بصبوص: المملكة العربية السعودية في قفص الاتهام، منشورات بيران، باريس، 2002

Antoine Basbous : L’Arabie Saoudite en question, Perrin, Paris, 2002

3-كتاب الباحث ستيفان مارشان: المملكة العربية السعودية: الخطر الداهم، فايار، باريس، 2003.

Stéphane MARCHAND : L’Arabie Saoudite, la menace, Fayard, Paris, 2003

4-كتاب الباحث التونسي والأستاذ الجامعي عبد الوهاب المؤدب: مرض الإسلام، منشورات سوي، باريس، 2002.

Abdelwahab MEDDEB : La maladie de l’Islam, Seuil, 2002

نضيف إليها مقابلة أجراها الصحافي أمير طاهري مع لوران موراويك في مجلة السياسة الدولية، رقم (98) تحت عنوان: المملكة العربية السعودية: العدو رقم واحد.

Laurent MAURAWIEC : Arabie Saoudite : l’ennemi public n°1, Politique Internationale

كل هذه الكتب وكثير غيرها أدى إلى تشويه صورة السعودية بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، كما يقول المؤلف. ولهذا السبب ألّف كتابه لتقديم صورة أخرى أكثر توازنا. وهو يعتمد على مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية في تأليفه. ولهذا السبب فهو يبتدئ بدراسة المملكة من جميع النواحي: الجغرافية، والتاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية لكي يموضع الأحداث ضمن إطارها الطبيعي فلا تبدو منزوعة من السياق كما هو عليه الحال في التحقيقات الصحفية السريعة أو المتسرعة.

بعد مقدمة فرانسوا بورغا التي تفتتح الكتاب نجد مقدمة المؤلف نفسه. وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام. الأول يحمل العنوان التالي: كيفية تجاوز المنطق الأمني. بمعنى أنه ينبغي علينا نحن الباحثين الغربيين أن ننظر إلى العرب من وجهة نظر إنسانية واجتماعية وليس فقط من وجهة نظر أمنية أو حتى بوليسية ومخابراتية كما هو حاصل حاليا وبعد 11 سبتمبر.

فالعرب، يضيف المؤلف قائلا، هم بشر مثل بقية البشر. وليسوا كلهم عبارة عن وحوش ضارية أو أصوليين متطرفين يريدون تدمير الغرب ووضع القنابل في مراكزه الكبرى ومتاجره كما تشيع وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية. إن للعرب همومهم ومشاكلهم وينبغي أن نفهمها بشكل صحيح قبل أن نحكم عليهم.

ثم ينتقل المؤلف إلى فقرة بعنوان: أسامة بن لادن والمملكة العربية السعودية. وهو يستغرب كيف يحسب بن لادن على السعودية في حين أنها حرمته من الجنسية السعودية وطردته، بل وأجبرت السودان على طرده. وبالتالي فهي ليست مسؤولة عن أعماله وجرائمه.

وفي الفقرة الأخيرة من مقدمته يبرز المؤلف السعودية وكأنها إحدى ضواحي الغرب من حيث استيراد أحدث أنواع التكنولوجيا والتجهيزات الأوروبية والأميركية. وكذلك من حيث طمع أميركا بالسعودية بدءا من عام 1920 عندما عرفت بوجود احتياطات نفطية خيالية فيها. ولذلك فإن الرئيس روزفلت عقد زواج مصلحة عام 1945 مع الملك عبد العزيز. وهذا الزواج لا يزال مستمرا حتى الآن. ثم يقول المؤلف بأن السعودية حتى بعد 11 سبتمبر لا تزال الحليف الرئيسي لأميركا في المنطقة بالإضافة إلى إسرائيل.

وبالتالي فليس صحيحا ما يقوله الحاقد موارويك بأن أميركا تخلّت عنها أو سوف تفك تحالفها معها أو أنها سوف تشن عليها الحرب القادمة التي ستتلو حرب العراق.

ثم يقول باسكال مينوري بأن عام 1933 كان يعني نهاية النفوذ البريطاني في المنطقة وحلول النفوذ الأميركي محله. ولكنه يعترف على الرغم من دفاعه عن السعودية بان الوجود الكثيف للحداثة المادية والأجهزة التكنولوجية فيها يتعارض مع استمرارية العقلية التقليدية المتزمتة هناك. وبالتالي فهناك مشكلة لا يمكن إنكارها. ولذا يستغرب الغربيون كيف أن السعوديين يستهلكون السلع على الطريقة الغربية ويستوردون كافة المخترعات الحديثة ثم يرفضون في ذات الوقت قيم الغرب وحضارته! ويرون أنه يوجد تناقض رهيب بين الحضور الكثيف للحداثة المادية في المملكة، والتعصب الوهابي السائد.

ويقولون بأن هذا التناقض المخيف أدى إلى تفجيرات 11 سبتمبر! ثم يردف أعداء السعودية قائلين: لو أن المملكة بذلت بعض الجهد التعليمي لتحديث الفكر والعقليات لما حصلت هذه التفجيرات الإرهابية. ولكن المؤلف يدافع عن موقف المملكة قائلا بأن لها الحق في أن تأخذ من الحداثة الغربية ما تراه مناسبا وترفض الباقي. فالحداثة السعودية أو العربية لا ينبغي أن تكون نسخة طبق الأصل عن الحداثة الأوروبية أو الأميركية. بالطبع فان هذا الكلام لا يعني عدم إدانة التزمت الديني والإرهاب، على العكس.

بعد المقدمة العامة نلاحظ أن الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أجزاء أساسية مع خاتمة في نهاية المطاف. وكل جزء ينقسم إلى عدة فقرات أو فصول.

فمثلا يتحدث الجزء الأول عن تشكيل الهويات. وهنا نلاحظ أنه يشرح كيفية تشكل الهوية السعودية. ثم يطرح هذا السؤال: هل صحيح أن الهوية الوطنية السعودية أمر يتعذر على التحقيق؟ وما هي عوامل الانشقاق التي تحول دون ذلك؟ هنا يتوقف الباحث عند مسألة الخلاف بين البدو والحضر، أو بين السنة والشيعة، أو بين الحداثة والتقليد، أو بين المركز (نجد) والأقاليم الهامشية.

وفي الجزء الثاني يتوقف عند العلاقة بين السلطة والمعارضة، وفي الجزء الثالث يتحدث عن الاقتصاد والمجتمع.

الخلاف السني-الشيعي هل حقا يهدد وحدة المملكة؟

من المعلوم أن أطروحة موراويك المعادية جدا للسعودية كانت تقول بأن هذا البلد غير موحّد فعلا، وإنما هو تركيبة اصطناعية. ولذلك فينبغي تقسيمه إلى عدة مناطق: إقليم الإحساء الشرقي (شيعي)، إقليم الحجاز (شافعي وصوفي)، إقليم عسير (يمني)، ثم إقليم نجد (حنبلي، وهابي). ولكن المؤلف يرد على هذه الأطروحة ويدافع عن السعودية ووحدتها قائلا: هل للانقسام الديني من معنى في السعودية؟ ينبغي العلم بأن هذا البلد ذو أغلبية سنية، ولكنه يحتوي على أقلية شيعية مهمة تتراوح بين 5 إلى 10 % من العدد الإجمالي للسكان.

والسنة أنفسهم منقسمون إلى حنابلة في نجد، وشوافعة على الشاطئ الغربي للجزيرة العربية.

ولكن المملكة تصف نفسها بأنها مسلمة وكفى. فهي ليست سنية ولا شيعية ولا حنبلية ولا شافعية وإنما مسلمة.

ومع ذلك فإن المؤلف يعترف بأن الأقليات الدينية تعرضت للاضطهاد في السابق من قبل الحنابلة الوهابيين النجديين. ثم يضيف قائلا: إن هدم القبور في الحجاز حصل في السابق، وكذلك هدم مساجد الشيعة في الأقاليم الشرقية. ولكن هذا الشيء أصبح ممنوعا الآن، والسلطات أصبحت تغض الطرف عن ممارسة الطقوس الشيعية أو الصوفية في البلاد. وصحيح أن حنابلة نجد اضطهدوا شوافعة الحجاز منذ أن كان هذا الإقليم قد ضمّ إلى المملكة عام 1926. ولكن هذا الاضطهاد لم يدم طويلا، بل وتوقف منذ زمن بعيد.

وأما فيما يخص الشيعة فالمسألة أكثر تعقيدا. وذلك لأنه يوجد حاجز نفسي بين الطرفين على مدار التاريخ. ولكن بعد أن هدأت فورة الثورة الإيرانية وتحسنت العلاقات بين طهران والرياض فإن الأمور تغيرت كثيرا وأصبحت أحوال شيعة السعودية أفضل من ذي قبل.

ففي عام 1993 تم توقيع اتفاق بين رؤساء المعارضة الإسلامية الشيعية من جهة وحكومة الرياض من جهة أخرى. وتم تعيين شيعي من الأقاليم الشرقية في مجلس الشورى. وأخيرا فإن ولي العهد الأمير عبد الله اعترف لأول مرة بتاريخ 21 يونيو 2003 بالتعددية المذهبية في البلاد. وكذلك اعترف بها معه العلماء السنة في نجد. وهذا قرار تاريخي ما كان ممكنا من قبل. ويضاف إلى ذلك أنه بدءا من عام 1993 حذفت من البرامج التعليمية المقررة في المدارس السعودية تلك الشتائم والاتهامات ضد الشيعة أو المذهب الشيعي.

وبالتالي فلا يمكن القول بأن الشيعة مضطهدون الآن في السعودية كما كانوا مضطهدين سابقا. لا ريب في أن مكانتهم ليست مريحة ولا مرموقة في المجتمع ذي الأغلبية السنية، ولكنها أفضل من ذي قبل. فالآن أصبحنا نجد السنة والشيعة يختلطون ببعضهم البعض حتى في دوائر السلطة، وفي نفس الجامعات، ومكاتب الصحافة، وسوى ذلك. ولكن لا يزال هناك جدار نفسي يفصل بين الطرفين وهو جدار سوف يزول بالتدريج يوما ما.

ثم يضيف المؤلف قائلا بأن انفصال الإقليم الشيعي عن المملكة لم يعد واردا للسبب البسيط التالي: وهو أنه لم يعد ذا أغلبية شيعية! فهذا الإقليم البترولي وفدت عليه موجات بشرية سعودية من مختلف أنحاء البلاد واستقرت فيه إلى درجة أنه أصبح مختلطا جدا. وهذا شيء لم يأخذه موراويك ومعظم الصحافيين الغربيين بعين الاعتبار.

المعارضة السياسية في المملكة العربية السعودية

يخصص المؤلف صفحات مطولة لهذا الموضوع في كتابه. وهو يرى أن المعارضة كانت قومية عربية، أي ناصرية، أو ماركسية اشتراكية في الخمسينات والستينات. ولكنها أصبحت الآن أصولية إسلامية في أغلبها. هذا دون أن ننسى دور المثقفين الليبراليين الذين يمثلون الجناح الآخر للمعارضة حاليا. ولكنهم يمثلون النخبة المثقفة والمنفتحة على الغرب. وبالتالي فهم لا يزالون أقلية بالقياس إلى المعارضة الأصولية التي تمثل الشرائح الشعبية العريضة في المملكة العربية السعودية.

ثم يردف الباحث الفرنسي باسكال مينوري قائلا: ابتدأت المعارضة الأصولية ضد العائلة المالكة ترفع رأسها منذ نهاية السبعينات. ففي مطلع القرن الخامس عشر الهجري وبالتحديد في العشرين من شهر نوفمبر عام 1979، قام "أهل الحديث" بقيادة جهيمان العتيبي ومحمد القحطاني يهجومهما الشهير على المسجد الحرام في مكة المكرمة. واضطرت الحكومة السعودية عندئذ للاستعانة بالقوات الفرنسية من أجل إحباط الهجوم والقضاء على المتمردين.

ماذا كانت حجة هؤلاء ضد النظام؟ قالوا بأن العائلة الحاكمة مادية، فاسدة، خاضعة للغرب. وطالبوا باستقلالية علماء الدين بالقياس إلى العائلة السعودية التي تستخدمهم لخلع المشروعية على سياستها والقرارات التي تتخذها. فرجال الدين أصبحوا مدجّنين من قبل السلطة.

ثم حصلت بعدئذ الاحتفالات الشيعية (بعاشوراء) في 27 نوفمبر من نفس العام، وتلتها الانتفاضة في بداية 1980 مع تنظيم الإضرابات بمشاركة العمال والطلاب في منطقة الحقول البترولية وجامعة الدمام. وعندئذ تدخل الحرس الوطني السعودي بقيادة الأمير عبد الله وقمعها بعنف شديد. ولكن العائلة المالكة لم تستخدم العنف فقط لمعالجة الوضع وإنما استخدمت أيضا سياسة الإصلاحات والاستجابة لمطالب سكان المناطق الشرقية. وهذه هي سياستها عادة، فهي مزدوجة الحدين: من جهة الضرب، ومن جهة أخرى تقديم المساعدات المادية وأخذ مطالب السكان بعين الاعتبار بمعنى أنها تستخدم العصا والجزرة وليس فقط العصا.

وهكذا ابتدأت الحكومة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للأقلية الشيعية. ووعدت بإجراء الإصلاحات واتخاذ التدابير اللازمة من أجل التقارب بين السنة والشيعة. ولم تؤت هذه التدابير ثمارها إلا بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، أي في بدايات التسعينات كما ذكرنا سابقا.

ثم ابتدأت الحكومة بتقديم التنازلات للحركات الإسلامية عن طريق منع الفتاة السعودية لأول مرة من الدراسة في الخارج أو الظهور على شاشة التلفزيون.

ثم ازداد نفوذ الحركات الإسلامية وتصاعد في السعودية بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران ونمو الحركات الأصولية في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي.

ففي عام 1987 نشر مثقف شاب في عسير يدعى سعيد الغامري شريط تسجيل يدين فيه حركة الحداثة في السعودية. وقد انتشر الشريط في كل أنحاء المملكة بسرعة البرق وطبعت منه ملايين النسخ.

وبعدئذ نشر الشيخ عواد القرني كتابا بعنوان: "الحداثة في ميزان الإسلام". واتهم فيه المثقفين التحديثيين بالتواطؤ مع أجهزة الدولة وبخاصة الصحافة من أجل التحكم بالسلطة الفكرية والإيديولوجية في البلاد. وقال أن هؤلاء المثقفين عبارة عن أقلية درست في الغرب وتأثرت به وتريد أن تفرض نمط حضارته علينا... وهذا ما لا نسمح به.

ثم سطع بعدئذ نجم الشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي اللذين نزلا إلى ساحة المعركة الإيديولوجية ضد المثقفين الليبراليين. وهكذا حصل الطلاق بين التيار الأصولي والتيار التحديثي في المملكة العربية السعودية. وراح السؤال التالي يطرح نفسه: هل ينبغي أسلمة الحداثة، أم تحديث الإسلام؟ وأصبحت الحداثة المستوردة من الغرب في قفص الاتهام.

ثم يردف المؤلف قائلا: ولكن الحركة الإسلامية السعودية تنقسم إلى قسمين: قسم معتدل متأثر بحركة الإخوان المسلمين المصرية، وقسم جهادي متطرف يدعو إلى العنف لتغيير الأوضاع بالقوة. وبالتالي فلا ينبغي الخلط بينهما كما تفعل وسائل الإعلام الغربية. فليس كل الأصوليين إرهابيين، وليس كل المسلمين أصوليين.

والواقع أن العائلة المالكة نفسها منقسمة إلى قسمين: قسم قريب من الأصوليين، وقسم قريب من المثقفين التحديثيين الذين درسوا في جامعات الغرب. وبالتالي فهي على صورة المجتمع السعودي نفسه. والانشقاق الذي يخترقه يخترقها أيضا.

ثم زادت هجمة الحركات الأصولية على الدولة والعائلة المالكة بعد حرب الخليج الثانية عام 1991. ولأول مرة يتجرأ المشائخ على الدولة ويتهمونها بالعمالة لأميركا والخيانة لأنها استنجدت بالقوات الأميركية بأعداد هائلة من أجل مواجهة صدام حسين.

وقالوا: لقد صرفت الدولة على شراء الأسلحة مبلغ 275 مليار دولار بين عامي 1975-1995. فلماذا لم تستطع الدفاع عن نفسها بنفسها، لماذا صرفت كل هذه الأموال إذن؟ وهي أموال ذهبت إلى جيوب الشركات الأميركية والانكليزية.

ثم علاوة على ذلك، دفعت المملكة لواشنطن تكاليف حرب الخليج التي وصلت إلى 70 مليار دولار فيما يخصها هي وحدها. وعلى الرغم من كل هذا فإن الملك فهد استطاع أن يحصل على فتوى شرعية من علماء الدين الرسميين التابعين للسلطة وهي تجيز الاستعانة بالقوات الأجنبية. وكانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير وأشعلت التمرد في أوساط رجال الدين غير الرسميين.

وعندئذ نشرت المعارضة الأصولية بقيادة الشيوخ سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر بيانا يحمل اسم "الكتاب المطالب". ووجهوه إلى الملك فهد شخصيا بتاريخ شهر مايو 1991. بل ووقع عليه المفتي الأكبر للمملكة الشيخ عبد العزيز بن باز. كما وقع عليه 52 شخصية أصولية أخرى. وفي ذات الوقت، أو قبله بقليل، نشر ثلاثة وأربعون مثقفا علمانيا بيانا مشابها ووجهوه إلى الملك أيضا. وطالبوا فيه بإجراء الإصلاحات في البلاد: كتأسيس مجلس للشورى، وإعادة فتح المجالس البلدية التي كانت موجودة في البلاد، أو في الحجاز منذ بدايات القرن العشرين. كما وطالبوا بتحديث نظام القضاء، وإعطاء حرية أكبر للصحافة، وإصلاح البوليس الديني أو ما يدعى بالمطاوعة، وبإسهام أكبر للمرأة في الحياة العامة، وكل ذلك ضمن الإطار المحدّد من قبل الشريعة الإسلامية.

والواقع أن مطالب الأصوليين كانت تلتقي بمطالب المثقفين العلمانيين في نقاط عديدة. فهم أيضا طالبوا بتشكيل مجلس الشورى المستقل عن أي ضغط رسمي يؤثر على مسؤوليته الفعلية. كما وطالبوا بتشكل حكومة من الخبراء، وبالمساواة في الحقوق واحترام كرامة الشخص البشري. وكذلك طالبوا بمسؤولية الحكام أو الولاة، أي إمكانية محاسبتهم. ومعلوم أن معظمهم من العائلة المالكة. وطالبوا أيضا بتوزيع عادل للثورة البترولية على الشعب. كما طالبوا بإصلاح الجيش لكي يستطيع الدفاع عن الوطن، وإصلاح وسائل الإعلام وتأمين حرية التعبير مع التقيد باحترام الشريعة. كما وطالبوا بإجراء إصلاحات على السياسة الخارجية للملكة فلا تعود تابعة لأميركا. وأخيرا طالبوا بإصلاح جهاز القضاء.

وقد ردت الحكومة على هذا الهيجان الشعبي والمظاهرات والبيانات والمطالب بسياسة مزدوجة كعادتها. وهي نفس السياسة التي اتبعتها منذ الخمسينات والستينات أمام أي تمرد شعبي. فمن جهة كان الرد بوليسيا وقمعيا من خلال وزارة الداخلية التي أخذت تراقب المساجد بصرامة مع اعتقال المئات من الشيوخ المتمردين بين عامي 1992-1994.

ومن جهة أخرى استجابت لبعض المطالب كتأسيس مجلس الشورى. ولكن ذلك لم يكف المعارضين فشكّلوا لجنة للدفاع عن الحقوق الشرعية عام 1993 بقيادة عبد الله المسعري، وعبد الله التويجري، وعدد من أصدقائهما.

وقد اشتهرت هذه اللجنة فورا في الغرب عن طريق الإذاعة البريطانية (BBC) فمنعتها الحكومة السعودية. وعندئذ انتقلت إلى لندن عام 1994 بقيادة محمد المسعري وسعد الفقيه.

11 سبتمبر وانعكاساته على الداخل السعودي

بعد 11 سبتمبر حصل شيء معاكس تقريبا. فلم تعد المعارضة الأصولية هي الهجومية، وإنما أصبحت الدولة والمثقفون التحديثيون هم الذين يهاجمونها لأنها أنجبت الإرهابيين وشوهت صورة المملكة والإسلام في الخارج.

وعندئذ انطلقت دعوات للإصلاح في الاتجاه المعاكس وذلك بضغط من الغرب، أو من مثقفي الحداثة في الداخل أو من الاثنين معا. وأخذوا يتحدثون عن ضرورة إصلاح برامج التعليم في المدارس والجامعات السعودية. فالمواد الدينية تحتل مكانة ضخمة في هذه البرامج. يضاف إلى ذلك أن مضمونها عدائي غالبا تجاه الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية وتجاه الحضارة الغربية بشكل عام. وهذا الوضع لا يمكن أن يستمر. كما وطالب الإصلاحيون بتحديث خطب الجمعة المليئة بالدعوات التحريضية والاستفزازية أحيانا. وعندئذ قامت مجموعة شابة من المثقفين السعوديين وأسسوا جريدة "الوطن" الليبرالية التحديثية التي لا تتورع عن مهاجمة المتزمتين والأصوليين من رجال الدين. ومن بين هذه المجموعة نذكر عادل الجبير المستشار الدبلوماسي لولي العهد.

وحاولت وسائل الإعلام السعودية عندئذ أن تنافس قناة "الجزيرة" القطرية التي فتحت برامجها للمناقشات الحرة، وتناول الموضوعات المحرمة أو المكبوتة في المجتمع العربي والإسلامي. وهذا الشيء هو الذي جعلها تحقق كل ذلك النجاح وتستقطب أنظار المشاهدين العرب من المحيط إلى الخليج وهذا ما أثار غيرة السعودية.

وهكذا ابتدأ النقد الذاتي يظهر لأول مرة في وسائل الإعلام السعودية، وهبّت نسمة الحرية عليه. ولم يعد النقد موجّها ضد أميركا والغرب وإنّما ضد الذات أيضا، وضد الفهم الخاطئ للدين والأصوليين الجهاديين الذين يدعون إلى العنف جهارا...

وعندئذ عرف الأمير عبد الله أن المملكة لن تخرج من المحنة إلا بعد تحجيم التيار الجهادي بل والدخول في معركة معه إذا لزم الأمر. وهذا ما هو حاصل الآن. والواقع أنه وجد نفسه بين أمرين أحلاهما مرّ: فإمّا أن يحابي المتطرفين ويغضب أميركا، وإمّا أن يرضي أميركا ويضرب المتطرفين. ويبدو أنه حسم الأمر باتجاه الحل الثاني. فبن لادن وجماعته أصبحوا عالة على المملكة ومصدر تشويه لصورتها في الخارج. ثم إنه أخذ مبادرة السلام العربية مع إسرائيل في قمة بيروت ومدّ يده علنا للشعب الإسرائيلي بشرط الانسحاب من الأراضي العربية حتى حدود 1967. وكانت هذه هي أول مرة يذكر فيها قائد سعودي بهذا الحجم الشعب الإسرائيلي بالاسم الصريح.

ثم يختتم المؤلف كلامه قائلا بأن الأمير الذي أصبح ملكا فيما بعد قد يربح المعركة ضد المتطرفين لأن أغلبية التيار الإسلامي هي من المعتدلين الذين يقبلون بلغة الحوار على عكس جماعة بن لادن الذين يفضلون لغة الرشاش والمدفع والسيارات المفخخة والعمليات الانتحارية.

المملكة العربية السعودية في مرآة المثقفين الغربيين (2)

هاشم صالح

جيل كيبيلجيل كيبيل هو أحد كبار المختصين في دراسة الحركات الأصولية في العالم العربي، وبخاصة المشرق. وقد انخرط في دراسة هذه الحركات منذ شبابه الأول حيث درس في مصر وتعرف على سوريا ولبنان. وكان كتابه الأول المهم هو: "النبي والفرعون، منشأ الحركات الأصولية". وفيه درس حركة الإخوان المسلمين في مصر والجماعات المتطرفة المتفرعة عنها كجماعة الجهاد وسواها.

ثم درس بعدئذ امتدادات الحركات الأصولية في أوروبا ذاتها وفي فرنسا تحديدا. وكان أن صدر كتابه المعروف: "ضواحي الإسلام، ولادة دين جديد في فرنسا" (هو الإسلام بالطبع). ومعلوم أن ضواحي المدن الكبرى كباريس، وليون، ومرسيليا، وسواها تحتوي على جاليات عربية وإسلامية ضخمة. وهي جاليات استقرت في فرنسا نهائيا ولم تعد إلى بلدانها الأصلية في الجزائر، أو المغرب، أو تونس، الخ. ولهذا السبب أصبح الإسلام الدين الثاني في فرنسا بعد المسيحية في نسختها الكاثوليكية (خمسة مليون نسمة وربما أكثر، البعض يقول ستة مليون). ومؤخرا حصلت انفجارات كبيرة في هذه الضواحي بسبب المشاكل الاجتماعية والفقر والبطالة الزائدة عن الحد.

ثم أصدر جيل كيبيل عام 2000 كتابه الكبير: "الجهاد: توسع الأصولية الإسلامية وأفولها وانحدارها". وقد ترجم مباشرة إلى الانجليزية ولغات أخرى.

ويمكن اعتبار الكتاب الجديد الذي صدر قبل فترة في باريس بمثابة امتداد للكتاب السابق وتجاوز له. فالرجل يعمّق معرفته بالحركات الأصولية أكثر فأكثر بحكم الزمن والتخصص الزائد عن الحد والسفر إلى البلدان العربية باستمرار. ثم بحكم إشرافه على أطروحات الطلاب العرب للدكتوراه في معهد العلوم السياسية في باريس. ومعلوم أن كيبيل هو أستاذ فيه، ويشرف بالتحديد على قسم الشرق الأوسط والدراسات العربية والإسلامية.

عنوان الكتاب هو التالي: فتنة.حرب في قلب الإسلام.منشورات غاليمار. باريس.

Gilles kepel. Fitna. Guerre au coeur de lislam. Gallimard. Paris

لا ريب في أن كتاب كيبيل هذا يشكل حدثا فكريا مهما وقد أشاد به الكثيرون في وسائل الإعلام وعلى شاشات التلفزيون، وسوف يقرؤه رجال السياسة والمثقفون وأصحاب القرار بعناية بالغة نظرا لخطورة الموضوع وحساسيته في الظرف الراهن. فهو موضوع الساعة ويشغل العالم كله: نقصد موضوع الإسلام والغرب، وصراع الحضارات أو قضايا الإرهاب، أو الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أو المحافظين الجدد، أو محاولة إسرائيل الهيمنة على المنطقة بالقوة المسلحة والبطش، أو مصير العراق، أو مصير بن لادن والقاعدة، ثم مصير العلاقات الأمريكية-السعودية التي تعرضت إلى اهتزاز خطير بعد 11 سبتمبر.

كل هذه الموضوعات يتناولها جيل كيبيل دفعة واحدة ويربطها ببعضها البعض لأنه لا يمكن أن تفهم إحداها بدون فهم العوامل الأخرى أيضا.

يقول جيل كيبيل موضحا أطروحته الكبرى في هذا الكتاب: إن تاريخ المجتمعات الإسلامية على مدار الأربعة عشر قرنا الماضية هو عبارة عن صراع بين قطبين متضادين: قطب الجهاد، وقطب الفتنة. وهذه المجتمعات كانت تتأرجح دائما بينهما.

بالطبع فإن مفهوم الجهاد يعتبر إيجابيا من منظور الثقافة الإسلامية التقليدية. فهو يدلّ على الجهد الذي ينبغي أن يبذله كل مؤمن بالإسلام من أجل توسيع نطاق هذا الدين لكي يشمل البشرية جمعاء يوما ما ويخضعها للقوانين الأبدية للقرآن إذا أمكن. فالانتشار الواسع للإسلام سابقا تم عن طريق السيف والإقناع في آن معا. ولكن لا تزال أربعة أخماس البشرية خارج هذا الدين. وبالتالي فينبغي أن نبذل جهودا مضاعفة لكي تقبل باعتناقه عاجلا أو آجلا.

فهو وحده الدين الحق في نظر الأصوليين وكل ما عداه باطل. كل الاديان الأخرى لا معنى لها لأنها محرفة أو ناقصة أو خاطئة الخ..

وأما المفهوم الثاني، أي مفهوم الفتنة، فهو يدل على العصيان أو التمرد الذي قد يحدث في قلب الإسلام، أو داخل الإسلام. وبالتالي فهو سلبي بالضرورة لأنه قد يؤدي إذا ما استفحل إلى انشقاق المسلمين ودخولهم في حرب أهلية ضد بعضهم البعض، وربما دمارهم في نهاية المطاف.

ثم يردف جيل كيبيل قائلا: ولذلك فإن العلماء أي الفقهاء الكبار، كانوا دائما يخشون الفتنة، وقد حذروا منها أكثر من مرة. ومعلوم أنها حصلت سابقا بين علي ومعاوية وأدت إلى انشقاق الإسلام إلى قسمين كبيرين:سنّي وشيعي بل وحتى خارجي. ولكن الإسلام يواجه الآن فتنة لا تقل خطورة عن تلك التي واجهها في بداياته. ومن الذي زرع بذورها أو سبّبها؟ الحركات الأصولية الراديكالية التي أرادت توريط المسلمين كلهم في حرب شاملة مع الغرب من خلال ضربة 11 سبتمبر، و11 مارس في مدريد وضربة لندن وتفجيرات أخرى عديدة حصلت أو قد تحصل.

ويرى كيبيل، وهنا تكمن أطروحته الثانية في هذا الكتاب، أن بن لادن والظواهري والزرقاوي وغيرهم شعروا بالألم والخيبة لأن الجهاد ضد العدو الأقرب، أي الحكّام العرب، لم يؤت ثماره ولم يحقق النتائج المرجوة منه.

فقد كان من المتوقع أن يسقط نظام حسني مبارك الذي تعرض لضربات موجعة في التسعينات على يد جماعة الجهاد بل وحاولوا اغتياله في إثيوبيا ولكنهم فشلوا في نهاية المطاف وبقي النظام صامدا. كما وفشل الجهاديون المتطرفون في إسقاط النظام الجزائري أو السوري أو التونسي، الخ. لقد فشلوا في تجييش الجماهير العربية والإسلامية وراءهم بالشكل الكافي.

ولذلك قرروا أن يضربوا ضربة كبرى في الخارج، ضربة موجهة ضد العدو الأبعد أي الولايات المتحدة الأميركية. فكانت كارثة 11 سبتمبر. وقد جاءت بعد فشل أوسلو وبدء العمليات الانتحارية لحماس والجهاد ضد المدنيين داخل المدن الإسرائيلية.

ولذلك فيمكن اعتبارها بمثابة امتداد لها، ولكن على نطاق أوسع بكثير بالطبع. وبما أن العالم العربي كان هائجا ضد إسرائيل بسبب الأعمال الوحشية التي ارتكبها شارون لقمع الانتفاضة الثانية فإن بن لادن اعتقد أن ضربة 11 سبتمبر سوف تحقق له أمنيته ألا وهي جمع المسلمين كلهم حوله لخوض المعركة الفاصلة ضد أمريكا والغرب بشكل عام.

ويقول كيبيل بأن المنظّر الأساسي للقاعدة ليس بن لادن وإنما أيمن الظواهري الأقوى منه فكرا وعلما. ومصطلحا العدو الأقرب والعدو الأبعد هما من اختراعه. وقد وردا في كتابه: "فرسان تحت راية النبي".

ولكن المشكلة هي أن ضربة 11 سبتمبر ثم 11 مارس في مدريد ثم ضربة لندن الموجعة شقت المسلمين إلى قسمين: قسم مع بن لادن والمتطرفين الراديكاليين، وقسم وسطي عقلاني يستمع إلى آراء الشيخ يوسف القرضاوي نجم الجزيرة وكذلك إلى شيخ الأزهر وبقية الفقهاء الكبار في العالم العربي والإسلامي. وهذا القسم الأخير غير راض عن هذه العمليات الخارجية بل وأدانها بكل صراحة ووضوح.

وهذه هي الفتنة بعينها. والمسؤول عنها هو بن لادن لأنه ورّط المسلمين في حرب مع العالم كله وليس فقط مع أميركا. ولكن المشكلة هي أن الأصوليين الراديكاليين لا يفكرون مثلنا، يقول جيل كيبيل، وإنما هم أشخاص مستلبون عقليا ويعتقدون فعلا بأن الإسلام سوف يفتح أوروبا كلها وكذلك أميركا. وسوف ترتفع رايته فوق الإليزيه و داوننغ ستريت، والبيت الأبيض! بل وسوف يكتسح روسيا والهند والصين يوما ما...

وبالتالي فهم أشخاص مغامرون لا يقدرون حجم المخاطر التي يعرّضون أنفسهم والمسلمين لها. ولذلك فإن علماء المسلمين كشيخ الأزهر وسواه أدانوا بكل وضوح ضربة 11 سبتمبر وما تلاها.

ونلاحظ أن المؤلف يلقي بمسؤولية الأوضاع المتفجرة الراهنة على الأصوليين الراديكاليين وعلى المحافظين الجدد في آن معا. فأميركا تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية لأنها أوعزت لشارون بتدمير أوسلو وورطت عرفات في الانتفاضة على غير وعي منه.

والمقصود بذلك أن المحافظين الجدد وعلى رأسهم ريتشارد بيرل احتقروا بيريز وحزب العمال الإسرائيلي الذي كان مؤيدا لأوسلو وشجعوا الليكود والمتطرفين الإسرائيليين على ضرب العملية قائلين: ينبغي أن يكون الشعار ليس الأرض مقابل السلام وإنما السلام مقابل السلام!

ولذلك أوعزوا لشارون بأن يقوم بزيارته التحريضية للمسجد الأقصى لكي يقوم عرفات برد فعل عنيف ويتورط في الانتفاضة المسلحة. وعندئذ يتهمونه بأنه ازدواجي الوجه وليس رجل سلام. وهذا ما كان. وبالتالي فإن عرفات وقع في فخ منصوب له من قبل المحافظين الجدد وشارون عندما اعتقد بأن عمليات "التنظيم" المسلحة ولكن المتدرجة والمدروسة والمضبوطة سوف تقوي من مواقعه في المفاوضات مع إسرائيل. وقد اضطر عرفات إلى اتخاذ هذا الموقف المتشدد والابتعاد عن روح أوسلو خوفا من حماس التي ابتدأت تتهمه بالخيانة. ولذلك أيّد العمليات التي تقوم بها الانتفاضة. ولكنه في ذات الوقت أصبح ظهره مكشوفا للإسرائيليين والأميركيين الذين راحوا يشوهون صورته في الأوساط الدولية باعتباره رجل عنف وإرهاب لا رجل سلام كما حاول أن يظهر نفسه ويلمّع صورته في الغرب بعد أوسلو.

وهكذا استطاع الإسرائيليون محاصرته وعزله في رام الله بعد أن كان يسافر كثيرا إلى الخارج بل ويستقبل في عواصم الغرب كرؤساء الدول! والواقع أن ياسر عرفات وجد نفسه بين نارين: نار حماس، ونار إسرائيل وأميركا ولم يعد يعرف ماذا يعمل.

ثم يكرس جيل كيبيل فصلا كبيرا للجزيرة العربية أو بالأحرى للمملكة العربية السعودية تحت عنوان: "السعودية في عين الإعصار". وفيه يقول بما معناه: في الأيام القليلة التي تلت 11 سبتمبر وعندما اكتشف العالم كله أن 15 إرهابيا من أصل 19 كانوا ذوي جنسية سعودية حصل شيء غريب لم يسمع به أحد. فقد تم ترحيل مائة وأربعين شخصا ينتمون إلى آل سعود وآل بن لادن من أميركا إلى السعودية فورا وتحت جنح الظلام. وقد قامت طائرات خاصة بترحيلهم في وقت كان الفضاء الجوي الأميركي مغلقا تماما أمام كل الطائرات الأخرى.

وبعد سنتين من هذه الحادثة غضبت الصحافة الأميركية غضبا شديدا عندما علمت بالأمر وتساءلت لماذا حظي هؤلاء بكل هذه المعاملة الخاصة ولم يقم أحد بتفتيشهم أو استجوابهم؟

ألم تكن الأمة كلها في حالة حداد بسبب السعوديين بالذات؟ ثم ظهر تقرير الكونغرس عن 11 سبتمبر بعد سنتين من الحادثة وفيه 28 صفحة بيضاء ومصنفة بأنها ذات سرية مطلقة. لماذا؟ الإشاعات تقول لأنها تثبت تورط السعودية في العملية. وبالتالي فنشرها قد يؤدي إلى ضرب العلاقات الأميركية-السعودية. وهي من أقوى العلاقات في المنطقة منذ أكثر من خمسين عاما. وبالتالي فلا يمكن المخاطرة بها أو تهديدها لأن المصالح الاقتصادية والإستراتيجية والبترولية المترتبة عليها ضخمة، بل وأكثر من ضخمة.

ثم يردف جيل كيبيل قائلا: عندما سمع بندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن بهذه الإشاعات جنّ جنونه وطلب أن تنشر هذه الصفحات السرية لكي يعرف كيف ينظّم دفاعه. ولكن الرئيس بوش رفض ذلك. ومعلوم أن بندر بن سلطان هو عميد السلك الدبلوماسي في واشنطن لأنه يحتل منصبه منذ سنوات طويلة وذلك قبل أن يتركه مؤخرا.

كما أنه صديق شخصي للرئيس بوش الأب وزميل له في رحلات الصيد والقنص. وبالتالي فالعلاقات المالية والشخصية والبترولية بين آل بوش وآل سعود لم تعد سرا على أحد.

ثم يردف جيل كيبيل قائلا:

مهما يكن من أمر فإن ضربة 11 سبتمبر ألقت أضواء ساطعة على العلاقات الغريبة الشكل بين السعودية والولايات المتحدة. وهي علاقات تبدو عقلانية وغير عقلانية، أو غير منطقية، في آن معا.

فما العلاقة بين بلد منغلق كليا بل وقروسطي كالسعودية، وبلد منفتح وديمقراطي كأميركا؟ وكيف حصلت قصة الحب هذه التي تتجاوز كل عقل أو منطق؟

على هذا السؤال يجيب كيبيل قائلا: ينبغي العلم بأن هذه العلاقات كانت قد عُقدت عراها بين الرئيس فرانكلين روزفيلت والملك عبد العزيز بن سعود يوم 14 فبراير من عام 1945، وذلك على ظهر السفينة الحربية الأمريكية "كوانسي" الراسية في البحر الأحمر.

وعندئذ أعطى عبد العزيز للشركات الأمريكية صلاحيات استثمار النفط السعودي، مقابل حماية أميركا للمملكة من أي تهديد خارجي. وعندئذ أيضا حلّت أمريكا محل بريطانيا كعرّاب للسعودية. وبالتالي فهو زواج عقل ومصلحة لا زواج عاطفة أو حب. ولكنه استطاع أن يستمر منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، أو بالأحرى حتى 11 سبتمبر. فالواقع أنه بعد هذه الضربة لم تعد القلوب صافية لبعضها البعض على الرغم من كل المظاهر السطحية والمجاملات.

وقد كان متوقعا أن تنفجر هذه العلاقة المضادة للمنطق والعقل لسببين أساسيين: الأول هو سيطرة الوهابية الصارمة على السعودية، والثاني هو دعم امريكا لإسرائيل بشكل غير مشروط. والمعجزة الحقيقية هو أن السياسة الخارجية الأمريكية استطاعت المحافظة على علاقاتها الخاصة بالسعودية وإسرائيل في آن معا وعلى مدار خمسين سنة تقريبا! لقد جمعت بين الماء والنار في يد واحدة.

بالطبع فقد حصلت هزّات خطيرة خلال هذه السنوات الطويلة ولكن في كل مرة كان رجال الإطفاء في كلتا الجهتين يقومون بتهدئة الخواطر وإطفاء الحرائق، فالمصالح ضخمة ولا يمكن التضحية بها. أما بعد 11 سبتمبر فلم يعد ذلك ممكنا. لم يعد ممكنا أن تحافظ أميركا على البترول وإسرائيل في آن معا. وينبغي عليها أن تختار. وقد اختارت إسرائيل بإيعاز من المحافظين الجدد الذين هم في معظمهم يهود. ولذلك حصل غزو العراق من أجل الاستغناء عن نفط السعودية إلى أقصى حد ممكن.

ولكن الأمور لم تصل إلى مثل هذا الحد من التطرف والقطيعة. فعلاقة الصداقة – ظاهريا على الأقل – لا تزال مستمرة بين البلدين، والنفط السعودي لم ينقطع عن أميركا. ولكن إلى أي مدى ستظل أميركا قادرة على الجمع بين طرفي هذه المعادلة المستحيلة: نفط السعودية ودعم إسرائيل؟

ثم يدخل جيل كيبيل بعدئذ في تحليلات مطولة عن الواقع الداخلي في المملكة العربية السعودية ويقول بما معناه: على مدار نصف القرن الماضي تجمعت ثروات هائلة بفضل التعاون بين الشركات الأميركية والعائلة السعودية. فالأمراء هم وحدهم الذين يحق لهم أن يأخذوا حصتهم من مال البترول حتى قبل أن يتحول إلى ميزانية الدولة. وهذه الثروة الطائلة التي يصادرها الأمراء لا تظهر في الإحصائيات أبدا. ويقدر الخبراء حجمها بـ5% من عائدات النفط. وكلها تذهب مباشرة إلى جيوبهم بحسب قيمتهم أو كبرهم وصغرهم.

لكي يأخذ القارئ فكرة عن حجم هذه الثروة التي تحظى بها العائلة المالكة من بين كل سكان المملكة يكفي أن نقول ما يلي: في عام 2003 كانت السعودية تنتج يوميا 660 88 مليون برميل من النفط. وكان سعر البرميل 27,39 دولار أميركي. أما الآن فقد تجاوز الـ42 دولار أميركي (عند نشر الكتاب).

يضاف إلى ذلك أن العلاقات بين شركات صناعة الأسلحة وشركات الأشغال العامة الأميركية من جهة والحكومة والشركات السعودية من جهة أخرى وثيقة جدا. والمملكة تشتري الأسلحة الأميركية عن طريق صفقات ضخمة تتجاوز العديد من المليارات. والأمراء يأخذون عمولة أو نسبة معينة على هذه الصفقات. وبالتالي فغناهم فاحش بالقياس إلى بقية أبناء الشعب. وقد وصلت العلاقة بين البلدين إلى درجة من الثقة والقوة بحيث أن الحكومة الأميركية سمحت بفتح مراكز لتدريب المجاهدين على أراضيها في الثمانينات من أجل الحرب في أفغانستان. فالتحالف كان وثيقا آنذاك بين الطرفين من أجل دحر الشيوعية. وما كانت أميركا تعلم آنئذ بأن هؤلاء الجهاديين سوف يرتدون عليها يوما ما ويصيبونها بأكبر ضربة تلقتها على مدار تاريخها كله.

ولهذا السبب فإن مرارتها تجاه السعودية كانت ضخمة بعد أن اكتشفت أن أغلبية الانتحاريين الذين دمروا مركز التجارة العالمي في نيويورك وجزءًا من البنتاغون كانوا سعوديين! وفي البداية ذهل المسؤولون الأميركان وما كادوا يصدقون.

ثم اكتشفوا الحقيقة المرّة بعدئذ وعندئذ قرروا تغيير سياستهم جذريا. ولكن بوش خشي أن يؤدي ضغطه المتزايد على النظام السعودي إلى انهياره وحلول جماعة بن لادن محله. ولذلك اضطر إلى مجاملته بل ودعمه غصبا عنه! ولكن ما الذي سيفعله المحافظون الجدد بعد أن يفرغوا من حرب العراق؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه. فالبعض يقولون بأنهم سوف يهتمون بإيران، والبعض الآخر يقول بالسعودية، وربما اهتموا بالاثنين معا.

ثم يردف جيل كيبيل قائلا بما معناه:

وهناك نقطة لا يمكن أن تساوم عليها أميركا ألا وهي تغيير برامج التعليم في السعودية بشكل خاص وبقية المنطقة العربية بشكل عام. ولذلك فإن الوهابية أصبحت العدو اللدود للغرب. والوهابية مذهب متشدد، صارم، لا يرحم. ومحمد بن عبد الوهاب الذي مات عام 1792 كان يبلور هذا المذهب في الوقت الذي كانت فيه أوروبا وأميركا تشهدان التنوير والثورة الفرنسية وكذلك الثورة الأميركية وحقوق الإنسان وكل الحريات الديمقراطية.

ويمكن القول بأن العقيدة الوهابية هي المضاد المطلق لكل ذلك أي لكل القيم الأوروبية. بهذا المعنى فإنه توجد بالفعل حرب حضارات بين الوهابية والتنوير الغربي. إنهما شيئان متناقضان لا يلتقيان بأي شكل.

فالوهابية هي أم السلفية في العالم العربي. والسلفية هي التي أنتجت بن لادن وسواه، ومنظرها الأكبر في القرون الوسطى هو أحمد بن تيمية (1263-1328). وهو أكثر فقهاء الإسلام تشددا. وهو القائد الروحي لكل الحركات الأصولية الحالية، وهيبته في السعودية لا تناقش ولا تمس.

وهو يقول بضرورة التطبيق الصارم للشريعة الإسلامية في الحياة اليومية. وبالتالي فالمطاوعة أو البوليس الديني الذي يخنق الأنفاس في السعودية هم أحفاده المباشرون بشكل من الأشكال. وبالنسبة لهم فالعقل ملغى أمام النص أو التفسير الحرفي للنص. والإنسان يخضع للنص، أي نص القرآن والحديث أو حتى نص ابن تيمية دون أي مناقشة. وبالتالي فالوهابيون لا يعترفون بالتفكير المستقل للإنسان ولا بالدراسة النقدية للنصوص والعقائد. إنهم يقومون بتطبيق آلي أو ميكانيكي لسنة رسول الله. ولا يعترفون بالتطور في التاريخ وإنما يريدون تطويع التاريخ للنص وليس تطويع النص للحياة والتطور التاريخي.

ولكن بما أن النص كان قد ظهر قبل ألف وأربعمائة سنة فإنه لا يستطيع أن يلبّي كل حاجيات المجتمعات العربية أو الإسلامية المعاصرة. فقد ظهرت مشاكل أو استجدت حاجيات للمجتمع والإنسان ما كانت موجودة في زمن النبي أو السلف الصالح.

وبالتالي فنحن بحاجة إلى الاجتهاد من أجل مواجهتها وتلبيتها. نحن بحاجة إلى العقل البشري لكي يفسّر النص على ضوء المستجدات المعاصرة وعلى ضوء التطور التاريخي.

ولكن الوهابيين يرفضون ذلك ويدعون إلى تطويع الحياة للنص، وليس النص للحياة. إنهم حرفيّون أو سطحيون أكثر من اللزوم.

ولهذا السبب ينفجر التناقض حاليا بين الوهابيين والعالم كله. يضاف إلى ذلك أنهم يكفّرون أبناء الأديان الأخرى بدون استثناء كالمسيحيين، واليهود، والبوذيين، والهندوسيين، والصينيين الكونفوشيوسيين، الخ. بل ويكفرون الشيعة أيضا لأنهم ينتمون إلى مذهب آخر على الرغم من أنهم يؤمنون بالقرآن والنبي محمد مثلهم. بل ويكفرون أحيانا حتى المذاهب السنية الأخرى كالحنفية والشوافعة لأنهم يقولون بتحكيم الرأي والقياس والعقل...

ومعلوم أن "الإخوان" الوهابيين الذين استخدمهم الملك عبد العزيز لتوحيد الجزيرة العربية أو السيطرة عليها كانوا يستحلون دم الشيعة المتمركزين في المناطق الشرقية من المملكة (الإحساء)، بل وحتى دم الحجازيين وسكان جبال عسير. وقد اضطر الملك عبد العزيز إلى استئصالهم بعد أن أصبحوا يشكلون خطرا عليه وبعد أن طالبه الإنكليز بذلك. وحصلت عندئذ مجزرة رهيبة ولكن طويت صفحتها بعدئذ وطمست. ويرى جيل كيبيل أن المجتمع السعودي مصاب بانفصام في الشخصية.

فمضمون العقيدة الوهابية يتناقض كليا مع واقع الحياة اليومية في بلد تعرض لانقلابات اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية هائلة بسبب الثروة البترولية. وبالتالي فمن جهة هناك العقيدة الأكثر تخلفا وتزمتا ورجعية، أي عقيدة القرون الوسطى المظلمة، ومن جهة أخرى هناك أحدث أنواع الشوارع والمطارات والسيارات والبنايات والتجهيزات التكنولوجية. فكيف يمكن الجمع بينهما؟ ألن يحصل انفجار؟ فهل يمكن أن يستمر هذا التناقض بين التقدم المادي الهائل الذي تحقق في السعودية في الآونة الأخيرة وبين التأخر العقلي إلى أبد الآبدين؟

نحن نعتقد أن هذا الوضع التناقضي الصارخ لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. وبالتالي فالانفجار سوف يحصل لا محالة، بل هو حاصل منذ الآن. فالبرامج الدينية المتخلفة تُبثّ على مدار الساعة على شاشات التلفزيون أو من خلال الإذاعة. وثلث المواد التعليمية في المدارس الابتدائية هي دينية، ثم تصبح الربع في الإعدادي والثانوي. بل وحتى في التعليم الجامعي نلاحظ أن المواد الدينية مهيمنة أيا تكون الكليات علمية أم أدبية...

ثم يتحدث جيل كيبيل عن التحديات التي تواجه العائلة الحاكمة في السعودية ويقول: على مدار تاريخها كانت الدولة السعودية محكومة من قبل تحالف العائلة المالكة مع عائلة آل الشيخ أي العائلة الوهابية. وكان الشعب كله خارج الحكم، ولا أحد يستشيره وكأنه غير موجود. وهذا الوضع لا يمكن أن يستمر بعد الآن أي بعد 11 سبتمبر، وبعد أن انفتحت الأعين على السعودية وخطورة إيديولوجيتها. ولذلك فإن ولي العهد يحاول إجراء بعض الإصلاحات والقبول باستشارة بعض قطاعات المجتمع المدني فيما يخص شؤون الحكم.

وهناك محاولة للتقارب بين الأصوليين المعتدلين والمثقفين الليبراليين أو التحديثيين تحت ظل وليّ العهد عبد الله بن عبد العزيز الذي أصبح الآن ملكا. ولأول مرة أصبح قادة الشيعة من رجال دين أو مثقفين "علمانيين" يشاركون في هذه الاجتماعات. لأول مرة يعترف بهم كمواطنين. وكذلك تم الاعتراف بالاسماعيليين المتواجدين في منطقة نجران. ولكنه اعتراف مبدئي أو نظري فقط. والواقع أن العملية طويلة وصعبة وشاقة وسوف تستغرق وقتا طويلا. نقول ذلك على الرغم من أنه لا يوجد بديل عنها.

والأصوليون الجدد – أو السلفيون الجدد – كما يسمونهم أصبحوا يلعبون دورا لا يستهان به في الوساطة بين النظام والشعب. نذكر من قادة هؤلاء سلمان العودة من بريدة وسفر الحوالي من منطقة عسير.

فكلاهما نجم من نجوم الأصولية "المعتدلة" في السعودية. والواقع أنهما انضما إلى النظام بعد أن تمردا عليه سابقا وسجنهما لفترة من الزمن. ومعلوم أن سلمان العودة أدان بوضوح ضربة 11 سبتمبر. وبالتالي فالسلفيون المعتدلون أصبحوا يقدمون ضمانة دينية للنظام في مواجهة السلفيين الراديكاليين الشديدي التطرف من أتباع بن لادن. وهكذا حصلت فتنة أو انشقاق داخل السلفية نفسها.

ولكن المثقفين الليبراليين السعوديين موجودون أيضا وإن تكن قاعدتهم الشعبية أضعف بكثير من قاعدة الأصوليين. وهم يمثلون مراكز لا بأس بها في الجامعات والجرائد السعودية وبعض وسائل الإعلام الأخرى. وعليهم تعلّق الآمال بالإضافة إلى التيار الديني الوسطي أو العقلاني.

 

وبعد تفجيرات الرياض الإرهابية الأخيرة تجرأ رئيس تحرير جريدة "الوطن" على نشر مقالة مدوّية بعنوان: "الأمة أهم من ابن تيمية"! وهكذا هاجم بشكل مباشر أسس العقيدة الوهابية. ثم تجرأت نفس الجريدة على نشر كاريكاتور يقول: من قام بالتفجيرات إرهابي، ولكن من أعطى الفتوى بها إرهابي أيضا! وهذا يعني مهاجمة رجال الدين الراديكاليين بشكل مباشر.

وعندئذ ضغط رجال الدين المحافظون على وزير الداخلية وطالبوه بإقالة جمال خاشقجي رئيس تحرير "الوطن". وكان لهم ما أرادوه.

ولكننا رأيناه بعدئذ يسافر إلى لندن ويصبح مستشارا في السفارة السعودية لدى الأمير تركي الفيصل. وبالتالي فلم يتخل النظام عنه وإن كان أبعده إلى الخارج اتقاء لغضب رجال الدين.

وأخيرا يرى جيل كيبيل أن العقد الاجتماعي السعودي السابق (أي تحالف آل سعود مع آل عبد الوهاب) لم يعد كافيا لحكم السعودية. ولهذا السبب جمع الأمير عبد الله كل مكونات الشعب في مؤتمر واحد وأعطى للسنّة الشوافعة في إقليم الحجاز بعض حقوقهم، وكذلك للطرق الصوفية، ثم للشيعة في منطقة الإحساء، ثم للاسماعيليين في نجران. كل هؤلاء كانوا يعانون من سحق الوهابيين لهم على مدار سبعين سنة: أي منذ تأسيس المملكة على يد الملك عبد العزيز عام 1932.

والواقع أن العائلة السعودية الحاكمة خافت من التهديدات المنطلقة من أوساط شتى في لندن، وواشنطن، وتل أبيب. وهي تهديدات تدعو الأقاليم المضطهدة إلى الانفصال عن الرياض عاصمة نجد. فإقليم الإحساء الشيعي قد يفكر بالانفصال إذا ما استمر التمييز الطائفي ضده، وكذلك إقليم الحجاز حيث توجد المقدسات الإسلامية، وكذلك إقليم عسير المجاور لليمن.

لهذه الأسباب كلها قبل وليّ العهد بفتح الحوار الوطني بين مختلف فئات الشعب. ولكن هناك فئة أخرى تهدد بالانفجار أيضا هي: فئة النساء. فالمرأة السعودية لا يمكن أن تظل إلى الأبد مقبورة حية! وسوف تطالب بحقوقها عاجلا أو آجلا. ولا يمكن أن يستمر وضعها على ما هو عليه. وبالتالي فالصراع بينهنّ وبين رجال الدين الأكثر رجعية ومحافظة سوف يندلع على مصراعيه يوما ما. ومن طلائع النساء الأميرة ريم الفيصل والسيدة الغنيّة جدا لبنى عليّان. وعندئذ لن يبقى من الوهابية إلا الاسم...فالمرأة نصف المجتمع ولن تقبل بأن تظل مسحوقة ومحتقرة ومحجبة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها إلى الأبد

المملكة العربية السعودية في مرآة المثقفين الغربيين (3)

هاشم صالح

غلاف كتاب دواليبييعتبر دافيد ريغوليه روز هذا الباحث أحد المختصين الفرنسيين بشؤون الشرق الأوسط عموما والمملكة العربية السعودية خصوصا. وهو أستاذ جامعي ومستشار في العلاقات الدولية. وكان قد نشر سابقا كتابين عن السعودية: الأول عام 1981 تحت عنوان: عملاق من الرمل. نقاط ضعف المملكة العربية السعودية ونقاط قوتها. وأما الثاني فقد نشره عام 2005 تحت عنوان: الجغرافيا السياسية للمملكة العربية السعودية. وهو الذي سنعتمد عليه في استعراض آراء الكاتب عن الموضوع.

يقول المؤلف بما معناه: خلال فترة طويلة كانت السعودية تعتبر بلدا معتدلا وحليفا بتروليا مهما للعالم الحر طيلة الحرب الباردة.وفي التصور الشعبي الغربي كانت تعتبر بمثابة بحر من الرمل يخفي تحته بحرا من البترول..وفجأة تحصل ضربة 11سبتمبر ويتغير كل شيء. فجأة تصبح السعودية دولة عدوة بعد أن كانت صديقة. وأخذ الرأي العام الغربي يتصورها بشكل مختلف تماما. لقد أصبح يراها على هيئة دولة ظلامية شديدة التعصب والخطورة. لقد أصبحت في نظر الجماهير الغربية بلد ابن لادن ومهد التعصب الإسلامي والجهاد. أصبحت السعودية تمثل ذلك البلد الذي لم تنفك مدارسه وجامعاته تعلم الناس الحقد على الغرب وكره الحضارة الحديثة. وأصبح الغربيون يعتقدون أن كل سكان المملكة هم إرهابيون!

ويرى المؤلف أن هذه الصورة المبالغ فيها تحتوي على جزء من الحقيقة. أما فيما يخص العوامل التي تشكل الأهمية الجيوبوليتيكية، أو الجغرافية السياسية، للسعودية فهي في رأيه تتلخص بكلمتين اثنتين: مكة والبترول. لولاهما لكانت السعودية بلدا هامشيا جدا ولا يلفت انتباه القوى العظمى على الإطلاق. ويرى أيضا أن تاريخ المملكة يختزل إلى قصة ذلك التحالف اللاهوتي السياسي الذي عقد في القرن الثامن عشر بين عائلتين اثنتين: آل سعود وآل عبد الوهاب. وبموجب هذا العقد الأساسي تلتزم العائلة السعودية باستئصال كل مذهب أو فكر غير وهابي على أرض المملكة في حين أن العائلة الوهابية تلتزم بخلع المشروعية الدينية على حكم آل سعود وتضمن لهم طاعة المسلمين. ولا يزال هذا التحالف يحكم السعودية حتى اليوم وإن كان قد تعرض لهزة كبيرة بعد ضربة 11 سبتمبر.

ويعتقد المؤلف أن مشكلة السعودية هي سيطرة المذهب الحنبلي عليها. وهو مذهب متشدد صارم لا يعترف أبدا بالفكر النقدي الفردي للإنسان لان الإنسان في نظره ناقص بطبيعته ولا يمكن إلا أن يشوه طهارة الرسالة الأولية للدين الإسلامي إذا ما تدخل فيها أو في تفسيرها. ولذلك فإن الحنابلة يرفضون أي تدخل للإنسان في تفسير النص أو قراءته.وبالتالي فالقراءة الحرفية البدائية هي السائدة في جهة الحنابلة على عكس أعدائهم المعتزلة الذين يفرقون بين المعنى الحرفي للقرآن والمعنى المجازي ويستخدمون العقل كثيرا في تأويل النص. ومعلوم أن الوهابية هي استمرارية للحنبلية ولكن بشكل أكثر تشددا..ومعلوم أيضا أن المذهب الحنبلي يشك كثيرا بالعقل ويرفض الرأي الشخصي أو القياس على عكس المذهب الحنفي مثلا أو الشافعي أو سواه.

وأما فيما يخص العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية فيرى المؤلف أن الشبهات والشكوك بين الطرفين ابتدأت حتى قبل 11 سبتمبر على الرغم من أنهما حليفان ظاهريا أو رسميا على الأقل. فبعد التفجيرات التي استهدفت المصالح الأميركية في السعودية عامي 1995-1996 طلبت إدارة كلينتون من المخابرات المركزية الأميركية إخضاع السعودية إلى إجراء استثنائي نادرا أن يطبق على الحلفاء.فقد كان محصورا بالدول المارقة كالعراق البعثي أو كوريا الشمالية أو إيران الأصولية أو حتى روسيا ما بعد الشيوعية أو الصين الشيوعية. وهذا الإجراء يدعى: بالتحقيق عن هدف استراتيجي خطير. وكان ذلك دليلا على اشتباه متزايد بالسلطات السعودية أو عدم ثقة على الأقل.

ثم يردف المؤلف قائلا: ولكن بعد وصول آل بوش المرتبطين باللوبي البترولي وآل سعود كثيرا إلى السلطة ظن الناس أن زمن الشبهات قد ولى وأن العلاقات المتينة عادت إلى سابق عهدها. وهذا ما حصل بالفعل حتى ضربة 11 سبتمبر. بعدئذ تدهورت الأمور بشكل خطير وراحت الإدارة الأميركية تفكر جديا في تغيير النظام قبل أن تقلع عن ذلك خوفا من وصول نظام أكثر تشددا وتطرفا. فالبديل عن النظام الحالي ليس إلا نظاما سلفيا أقرب ما يكون إلى بن لادن والقاعدة. ولكن بدءا من تلك اللحظة ابتدأ صراع حقيقي داخل السعودية بين العائلة المالكة وطبقة رجال الدين. وهذا ما يشرحه بشكل دقيق ومفصل الباحث جورج جودت دواليببي.

هل ابتدأ العد العكسي لأفول الوهابية في السعودية؟: نظرية جورج جودت دواليبي

هذا ما نلمحه من خلال التحليلات الدقيقة والمكثفة التي وردت في كتاب صادر مؤخرا عن منشورات بوبليبوك في باريس لمؤلفه: جورج جودت دواليبي. يرى هذا الباحث أن التناقض بين آل سعود وآل عبد الوهاب أو العقيدة الوهابية كان متضمنا منذ البداية في العقد الأساسي الذي وقع بين الطرفين في القرن الثامن عشر. لماذا؟ لأن الوهابية تريد العودة بالمجتمع إلى القرن السابع الميلادي ضاربة عرض الحائط بكل ما تحقق من انجازات وتطورات على مدار ثلاثة عشر قرنا من الزمن. وأما الدولة السعودية فمضطرة لمراعاة هذا التطور وأخذه بعين الاعتبار إذا ما أرادت الاستمرارية والبقاء على قيد الحياة.من هنا أصل التناقض والصدام الذي حصل لاحقا بين الطرفين. وبالتالي فالدودة كانت في الثمرة منذ البداية كما يقال وكان متوقعا أن يحصل الصدام وقد حصل أكثر من مرة. ويمكن القول بأنه انفجر بشكل عنيف ثلاث مرات. المرة الأولى عندما تمرد الوهابيون العتاة بقيادة فيصل الداويش على الملك عبد العزيز فاضطر إلى قمعهم بعنف رهيب بمساعدة طائرات الإنكليز عام 1929-1930 . ولولا ذلك لما استطاع تأسيس دولته بعد سنتين من ذلك التاريخ. والمرة الثانية حصلت عام 1979 عندما استولى جهيمان العتيبي ومحمد القحطاني على المسجد الحرام في مكة في عملية صارخة لفتت أنظار العالم كله. ولم تستطع الدولة القضاء عليها إلا بعد الاستعانة بالقوات الدولية وبخاصة الفرنسية. والمرة الثالثة هي الحاصلة حاليا بعد 11سبتمبر بين قوات الدولة وجماعة بن لادن الذين يمثلون الأحفاد المباشرين لفيصل الداويش والوهابيين الأشداء. لهذا السبب خلع الباحث العنوان التالي على كتابه المشار إليه آنفا: المنافسة بين رجال الدين والعائلة المالكة في المملكة العربية السعودية 

Georges Jawdat Dwailibi

La rivalité entre le clergé religieux et la famille royale au royaume dArabie saoudite. Publibook. Paris.

Publibook.2007 

وفيه يقول بان الملك المؤسس عبد العزيز اضطر إلى استخدام المحاجة التالية لكي يقنع علماء الدين بالقبول بإدخال المخترعات الحديثة إلى السعودية كالتلغراف والسيارات والهاتف وسواها من الآلات. قال لهم بخصوص الهاتف بأنه يساهم في نقل تلاوة القرآن إلى مسافات بعيدة. وعندئذ قبلوا به. ونفس السيناريو تكرر في عهد أبنائه بالنسبة للراديو والتلفزيون والإنترنت والهاتف النقال الخ..في كل مرة كان ينبغي إيجاد حجة أو فتوى لإقناع رجال الدين بأن هذه ليست بدعا شيطانية..وحتى فيما يخص تسمية البلاد اعترضوا على توجه عبد العزيز وقالوا بأنه لا يوجد شيء اسمه مملكة ولا ملك في الإسلام وإنما توجد إمارة أو خلافة أو إمام أو شيخ..ولكنه استطاع أن يفرض رأيه في نهاية المطاف.

ويرى المؤلف أن المواجهة الجارية حاليا بين الطرفين هي أخطر من كل ما سبق. وعليها يتوقف مصير السعودية وشعبها. ولهذا السبب تدخل الملك عبد الله شخصيا في المعركة بعد 11 سبتمبر عندما شعر بالغضب العارم للغرب. وبما أنه يتمتع بهيبة كبيرة لدى رجال الدين فإنه كان الوحيد القادر على انتقادهم. قال لهم بما معناه: ينبغي أن تكونوا معتدلين لأنكم أصبحتم اليوم هدفا لكل أولئك الذين يهاجمون الإسلام. فراقبوا كلامكم وزنوا كل كلمة وكل عبارة قبل أن تلفظوها. أنتم مراقبون ونحن في حالة صعبة تتطلب الكثير من الحذر والحكمة..

ولم تكتف السلطات السعودية بذلك وإنما اتخذت عدة قرارات لكبح جماح العناصر الأكثر تشددا. فقد وضعت الجمعيات الخيرية الإسلامية التي تمول الإرهاب تحت المراقبة في الوقت الذي صرح فيه الأمير سعود الفيصل قائلا: نحن لا نستطيع منع أموال الزكاة لأنها فريضة دينية تنص عليها الشريعة..وبالتالي فلا نعرف فيما إذا كانت بعض أموال الزكاة ذهبت إلى جيوب القاعدة أم لا؟ وفي ذات الوقت سرحت السلطات ما لا يقل عن ألفي مدرس متطرف. كما ومنعت العشرات من أئمة الجوامع المتطرفين من إلقاء خطب الجمعة في المساجد. وشن الأمير نايف بن عبد العزيز هجوما على الإخوان المسلمين واتهمهم بأنهم سبب كل المشاكل في العالم العربي. وقال بما معناه: لقد مددنا لهم يد العون بعد طرد عبد الناصر لهم من مصر فإذا بهم ينقلبون علينا. لقد عضوا اليد التي ساعدتهم. وبالتالي ينطبق عليهم الكلام المأثور: اتق شر من أحسنت إليه..

وقد اعترف بذلك الشيخ عبد المحسن العبيكان الذي كان متطرفا ثم تاب واقترب من السلطة. وقال بان تيار الصحوة الإسلامية السعودي لم يكن مسيسا في البداية ولكن الإخوان المسلمين الذين جاؤوا من الخارج هم الذين سيسوه وأفسدوا السعوديين..

ثم يردف الباحث جورج جودت دواليبي قائلا بما معناه: في الواقع أن الأصولية السعودية انقسمت تحت ضغط الإحداث إلى قسمين: قسم ظل متطرفا وتابعا للقاعدة، وقسم أصبح معتدلا وشكل تيار الوسطية الذي تدعمه السلطات الرسمية وذلك طبقا للآية القرآنية: وكذلك جعلناكم أمة وسطا. وبعدئذ ظهر تيار ثالث أكثر حداثة ومرونة هو تيار المسلمين الليبراليين الذين راحوا يدينون التطرف الأعمى بوضوح في الجرائد السعودية: كالوطن والرياض والجزيرة والشرق الأوسط وسواها. ومن أبرز هؤلاء نذكر: مشاري الذايدي ومنصور النقيدان وخالد غنامي وتركي الحمد وعبد الله المطيري وآخرين عديدين..فقد انتقدوا بشدة التيار الوهابي الذي يحلل اللجوء إلى العنف ضد غير المسلمين بل وحتى ضد المسلمين أنفسهم..

وبالتالي فلا يمكن اعتبار السعودية كتلة واحدة صماء بكماء عمياء متطرفة كما تفعل وسائل الإعلام الغربية وبخاصة بعد 11 سبتمبر. السعودية مليئة بالتيارات المتناقضة والمخاضات. ولكن يبقى صحيحا القول بأن التيار الوهابي لا يزال هو الأقوى ويرهب الجميع بسطوته. نقول ذلك على الرغم من أن بعض المثقفين أصبحوا يتجرأون عليه. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر خالد الغنامي الذي كان متطرفا سابقا ولكنه تراجع عن موقفه وأصبح إصلاحيا مستنيرا. وقد وصل به الأمر إلى حد انتقاد تعاليم ابن تيمية صراحة. ومعلوم أنها تشكل أساس العقيدة الوهابية. وهذا ما يفعله أيضا مشاري الذايدي وعبد الله المطيري وتركي الحمد وجمال خاشقجي ومثقفون مستنيرون عديدون. ثم يردف الباحث قائلا: وهناك بشائر أخرى في المملكة ليس أقلها فتح باب الحوار الوطني على مصراعيه بإيعاز من الملك عبد الله. فلأول مرة تجتمع كل مكونات المجتمع السعودي بمن فيهم الشيعة والإسماعيلية والصوفية تحت سقف واحد لكي تتناقش حول القضايا المصيرية للمجتمع. ولأول مرة طالب ملتقى عسير للحوار الوطني باستخدام كلمة الآخر أو غير المسلم محل كلمة الكافر في الخطاب الديني السعودي وكذلك في الخطاب الإعلامي والثقافي وبرامج التعليم الخ..ولأول مرة يتجرأ الشيعة على الخروج من الظل والمطالبة بحق المواطنية. ولأول مرة تعطى المرأة بطاقة هوية خاصة بها وحدها..ولأول مرة ترتفع الأصوات مطالبة بتغيير برامج التعليم وحذف الشتائم ضد اليهود والمسيحيين بل وحتى المسلمين الشيعة..وبالتالي فهناك أشياء تتحرك في المجتمع السعودي..هناك أشياء تختلج، هناك مخاضات واعدة..

ولكن يبقى صحيحا القول بأن هناك خوفا على المستقبل على الرغم من كل هذه الانجازات والتطورات. والسبب في رأي الباحث يعود إلى ما يلي: لا يمكن محو سبعين سنة من التدجين العقائدي الوهابي بجرة قلم واحدة أو بين عشية وضحاها. وهنا تكمن مشكلة السعودية الكبرى. فلا تستطيع المؤتمرات ولا القوانين الجديدة التي تمشي في الاتجاه الصحيح ولا حتى الكتب وحملات التوعية والدعاية المنظمة أن تقتلع من النفوس تلك الأفكار المتطرفة التي زرعت فيها وكأنها حقائق مطلقة على مدار العقود إن لم يكن القرون. وبالتالي فالمشكلة هي في تغيير العقليات المتحجرة التي ترفض أي تغيير وتعتبره كفرا أو خروجا على العقيدة. نقول ذلك ونحن نعلم أن زحزحة الجبال كما قال أحدهم أسهل من تغيير العقليات. ومعلوم أن جورج دوبي، أحد كبار مؤسسي المدرسة التاريخية الفرنسية، كان يقول بان الواقع المادي قد يتغير من حولك دون أن تتغير عقليتك. فتغيير العقليات يتم عادة ببطء شديد ويحتاج إلى وقت طويل.. وهذا ينقض الأطروحة الماركسية السطحية التي تقول بأنه يكفي أن نقلب البنية التحتية للمجتمع لكي تتغير بنيته الفوقية بشكل أوتوماتيكي. فقد أثبتت التجربة أن الأمور أكثر تعقيدا من ذلك. فالبنى التحتية للمجتمع السعودي انقلبت في السنوات الأخيرة. أنظر المطارات الفخمة والشوارع العريضة والبنايات الجميلة والبنوك والمؤسسات والمدارس والمشافي والجامعات الخ.. و بالتالي فالتحديث المادي والتكنولوجي للبلاد تحقق إلى حد كبير دون أن تتغير العقليات.. ولذلك يلزم المجتمع السعودي سنوات طويلة من التنوير الفكري أو الديني وكذلك بذل جهود ضخمة في مجال التربية والتعليم الرشيد والحديث لكي يستطيع تحجيم التيار الوهابي الذي يكتسح المجتمع ويفرض نفسه كحقيقة مطلقة لا تقبل النقاش. وهذه هي مهمة الأجيال القادمة لا جيل واحد. ثم يردف الباحث قائلا بما معناه:

عندما اصطدم الملك عبد العزيز بالإخوان الوهابيين عام 1929 سحقهم سحقا عن طريق الحل العسكري. ولكن فكرهم ظل مسيطرا كما هو. وعندما اصطدم أبناؤه بهم مرة أخرى عام 1979 أثناء السطو على المسجد الحرام استخدموا أيضا الحل العسكري لسحق التمردين. ولم يفكروا لحظة واحدة في استخدام الحل الثقافي المتمثل بتغيير برامج التعليم التي تفرخ مثل هذه العقليات المتطرفة تفريخا. على العكس فبعد أن سحقوهم عسكريا راحوا ينفذون كل برنامجهم المتعصب وأخذوا يؤسلمون المجتمع أكثر مما هو مؤسلم. وكانت النتيجة أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من مواجهة شاملة بين السلطات من جهة وقوى التطرف الأعمى من جهة أخرى. وبالتالي فمن السابق لأوانه التحدث عن أفول الوهابية في السعودية. بل وسمعنا مؤخرا بأنها قامت بهجوم معاكس من خلال موقع الانترنت التابع للشيخ صالح الفوزان الذي هدد الليبراليين السعوديين ومن بينهم المفكر والروائي تركي الحمد بشكل صريح أو ضمني واتهمهم بالخروج على الإسلام. وهي تهمة خطرة ولها انعكاسات سلبية مباشرة على أشخاص المثقفين السعوديين المستنيرين الذين يخوضون معركة التحرر بكل جرأة وإحساس عال بالمسؤولية وضمن ظروف صعبة جدا.أقول ذلك وأنا أفكر بمثقفين مهمين كعبد الله المطيري ومشاري الذايدي ومحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ وتركي الدخيل وعبد الرحمن الراشد وعبد الله الغذامي ومحمد العلي وعلي الدميني وخالد الدخيل وسعود البلوي وقينان الغامدي ونجيب الخنيزي ومتروك الفالح ومحمد سعيد طيب ومنصور النقيدان ومحمد محفوظ وزكي الميلاد وجعفر الشايب وحسن المالكي وعابد خزندار ورائد قاسم وعلي آل غراش وعثمان العمير وعشرات غيرهم ممن أعرف أسماءهم أو لا أعرفها. وأعتذر فعلا عن عدم ذكر أسماء كثيرة لا تقل أهمية عمن ذكرت وبخاصة المثقفات السعوديات.فالسعودية غنية الآن بالمثقفين والمثقفات والكتاب الموهوبين والصحفيين الجريئين. وعليهم تعقد الآمال لصنع المستقبل الباسم.

المغزى العميق لـ11 سبتمبر على ضوء فلسفة التاريخ

لكي أموضع كل ما ورد سابقا ضمن إطاره الواسع الشامل سوف أقول ما يلي: لولا 11 سبتمبر لما تجرأ أحد على طرح أي سؤال على الوهابية أو الأصولية الإسلامية عموما. ولما تجرأ أحد على الدعوة إلى تجديد برامج التعليم أو تغييرها. ولما تجرأ احد على طرح مشكلة الحرية الدينية أو بالأحرى انعدامها في أرض الإسلام. ولما تجرأت أنا شخصيا على ترجمة مشروع محمد أركون تحت اسمه الصريح: نقد العقل الإسلامي بعد أن كنت أموه الأمور عن طريق التحدث عن تاريخية الفكر العربي الإسلامي مثلا ، الخ.. وبالتالي شكرا لـ11 سبتمبر! نعم شكرا لـ11 سبتمبر وألف شكر. فلولاه ولولا ضحاياه الذين سقطوا بالآلاف خلال بضع دقائق صبيحة ذلك اليوم الموعود لما استطعنا أن نطرح أصغر سؤال على التراث الديني الإسلامي. فهذا الحدث الصاعق شكلا ومضونا كان ضروريا أن يحصل لكي يستيقظ العالم من غفلته وينتبه إلى وجود مشكلة كبرى وربما مشكلة القرن الواحد والعشرين كله. إذ أقول هذا الكلام بنوع من الصراحة الفجة فاني أعتذر لعائلات الضحايا الأبرياء الذين سقطوا.

ولكن فلسفة التاريخ التي أتبناها تقول لي بأن الحاجة هي أم الاختراع وأن الكارثة قد تكون ضرورية أحيانا لكي يستطيع أن يتقدم التاريخ خطوة واحدة أو حتى نصف خطوة إلى الأمام. لكي يفصح التاريخ عن مضمونه، لكي تنكشف المشكلة العميقة التي تختلج في أحشائه وتؤرقه ينبغي أن يحصل زلزال ، أن ينفجر في وجهنا بركان.. انه لمؤلم جدا أن نقول هذا الكلام. ولكن هذه هي الحقيقة، وكل تجربة التاريخ الطويلة تثبت ذلك. كنا نتمنى لو أن التاريخ يتقدم أو يحل مشاكله بشكل هادئ وقبل دفع الثمن الباهظ. ولكن تاريخ البشر للأسف الشديد يدل على أن ذلك مستحيل. كنا نتمنى لو أن المشكلة العظمى للأصولية الظلامية كانت قد انكشفت للجميع قبل 11 سبتمبر أو بدون 11 سبتمبر. كنا نتمنى لو أن خطورتها البادية للعيان قبل ذلك التاريخ بوقت طويل كانت قد انكشفت للقادة السياسيين والثقافيين قبل أن تحصل الكارثة. ولكن يبدو أن البشر لا يتعلمون إلا من "كيسهم" كما يقال بالعامية. كنا نتمنى لو أن أحداث الجزائر حيث سقط المثقفون بالعشرات والمئات تحت ضربات "المجاهدين العظام" أو حيث ذبحوا من الوريد إلى الوريد أمام أطفالهم أحيانا كانت قد لفتت الانتباه إلى خطورة الموضوع. ولكن لا. لا، لم يحرك أحد ساكنا. بل أخذت بعض الجهات الأميركية في التفكير بالتحدث مع قادة ما يدعى بجبهة الإنقاذ الإسلامية لأنهم يمثلون الشعب...

ولكن ما قلته لا ينحصر بالجزائر فقط على الرغم من مرارة التجربة الجزائرية وضراوتها. وإنما يشمل معظم بلدان العالم العربي والإسلامي حيث أصبح اغتيال المثقفين موضة دارجة يصفق لها حتى بعض المثقفين أنفسهم أو بالأحرى أشباه المثقفين. وراح الكثيرون يركبون الموجة الظلامية ويلعنون أنفسهم وماضيهم لأنهم كانوا ماركسيين أو علمانيين أو تقدميين يوما ما. وكثرت التوبات والتراجعات هنا أو هناك.. راح أشباه المثقفين العرب يتكاثرون في كل مكان ويلقون باللائمة على" الحداثة الرثة" التي دمرتنا وخربت أوضاعنا. أما التراث الرث فلا أحد يتجرأ على نقده أو الإشارة إليه بالبنان، مجرد إشارة.. انه مقدس ومعصوم حتى ولو اغتيل باسمه آلاف البشر.. وهذا يعطينا فكرة عن مدى هشاشة الحداثة والتقدمية في العالم العربي. إنها ليست أكثر من قشرة سطحية لدى معظم المثقفين. ثم يتجرأ هؤلاء على التحدث باسم حقوق الإنسان أو يكتبون بيانات من أجل الديمقراطية! وبالتالي فليس 11 سبتمبر على الرغم من عظمته هو وحده المسؤول عن الكشف عن حقيقة المرض العضال الذي ينهش في أحشاء الواقع العربي الإسلامي بشكل سري عميق دون أن ينتبه إليه أحد.

هناك أشياء سبقته، هناك مجازر حصلت قبله داخل العالم الإسلامي بالذات وليس خارجه.وهناك أشياء لحقته.. والعالم العربي أو الإسلامي هو الذي دفع الثمن أولا. ولكن يبقى صحيحا القول بأنه لولا 11 سبتمبر لما اتخذت المشكلة كل أبعادها الدولية ولما تجرأ عبد الوهاب المؤدب مثلا على تأليف كتاب بعنوان: "مرض الإسلام". من يتجرأ على ربط كلمة الإسلام بالمرض؟ من يستطيع أن يتحدث عن بربرية الأصولية الإسلامية أو فاشيتها المرعبة مثلما تحدث فولتير في الكتاب المذكور آنفا عن البربرية المسيحية؟ و لولا 11 سبتمبر لما تجرأ المثقفون الليبراليون السعوديون على رفع صوتهم ولو قليلا. صحيح أنهم لم يخرجوا عن الإسلام ولم يعترضوا على قيمه الأخلاقية والروحية العليا. ولكنهم اعترضوا، وبحق، على التفسير الظلامي الطائفي القمعي السائد عنه ليس فقط في السعودية وإنما في كل أنحاء العالم الإسلامي. أقول ذلك وأنا أفكر بأسماء مشرقة من أمثال عبد الله المطيري أو تركي الحمد أو علي الدميني أو أمل زاهد أو وجيهة الحويدر أو سعود البلوي أو مها فهد الحجيلان أو مشاري الذايدي أو حسناء القنيعير أو حمزة بن قبلان المزيني أو إيمان القحطاني أو جمال خاشقجي أو حسين شبكشي أو رائد قاسم أو محمود عبد الغني صباغ أو علي آل غراش أو عشرات غيرهم ممن ذكرتهم آنفا أو لم أذكرهم. هذا الشيء كان مستحيلا قبل 11 سبتمبر. شكرا إذن لضحايا 11 سبتمبر ولكل ضحايا الأصولية الظلامية في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي. لقد دلونا على الطريق بدمائهم، لقد فتحوا لنا الطريق بعذابهم، لقد دلونا على المشكلة الأساسية للتاريخ والعصر. وبعد اليوم لن تذهب دماؤهم سدى. شكرا أيضا لضحايا 11 مارس في مدريد وضحايا 7 يوليو هنا في لندن مدينة التنوير في العالم كله: هذه المدينة العظيمة التي أثنى عليها فولتير كثيرا بعد أن زارها وأقام فيها لفترة طويلة وأعجب بتقدمها وتسامحها وحرياتها وتمنى لو أن كل ذلك ينتقل فورا إلى باريس. وكان ذلك في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، أي قبل ثلاثمائة سنة تقريبا! عندما كان العالم كله يغط في ظلام الجهل والتخلف والتعصب الديني كانت الأنوار تبزغ من هنا، من لندن بالإضافة إلى أمستردام وهولندا عموما. ولذا راح فولتير يقرع الفرنسيين الظلاميين في رسائله الشهيرة باسم: رسائل انكليزية والتي أصبحت فيما بعد: رسائل فلسفية. راح يدعوهم لتقليد الانكليز من أجل الخروج من تخلفهم وتعصبهم واستبدادهم. وكان لا يحلف إلا باسم جون لوك واسحاق نيوتن...

من يتجرأ الآن على الدعوة إلى تقليد الغرب في العالم الإسلامي؟ فورا يتهمونه بأنه عميل أو خائن أو مرتد. انه خارج على ثوابت الأمة! تخيلوا هذا المصطلح المرعب الذي ما أن ألفظه حتى يقشعر بدني. إنها سجون الأمة ومعتقلاتها وكل المخزون التاريخي للقمع فيها.. ولكن فولتير "الخائن والعميل للانكليز" أصبح فيما بعد مجد فرنسا الفكري والحضاري.. بعد اليوم لن تفلت الأصولية الإسلامية من المحاسبة كما كان يحصل سابقا. بعد اليوم سوف يتجرأ الكثيرون على نقدها ومساءلتها ومحاسبتها حسابا عسيرا. بعد اليوم سوف تمحص كل فاصلة وكل نقطة وكل سطر من سطور النصوص الدينية الموروثة. هذا ما كنت اعتقده أو أتوقعه حتى فاجأني أحد المختصين الكبار قائلا وشبح ابتسامة خفيفة شبه تهكمية يرتسم على وجهه: على مهلك يا أخي.. أراك متفائلا أكثر من اللزوم. هل تعتقد بان المسلمين سوف يقبلون بطرح الأسئلة الحقيقية على تراثهم الديني حتى بعد كل ما حصل؟ إنك واهم يا صديقي ومتسرع أكثر من اللزوم. هل تراهم ينخرطون في الدراسة التاريخية والعلمية لتراثهم الطويل العريض؟ أين ترى ذلك ؟ دلني بالله عليك دلني؟ قلت له هذا يعني أن ضحايا 11 سبتمبر ماتوا فعلا وان دماءهم ذهبت سدى..فلم يحر جوابا وضاع في تفكير عميق...

وفي رأيي أن هذا إذا صح سوف يكون أخطر من حادثة 11 سبتمبر ذاتها. فإذا كنا بعد كل ما حصل من كوارث لا نستطيع أن نطرح أي سؤال حقيقي على التراث الديني الذي ارتكبت باسمه هذه الجريمة فان هذا يعني أن الأمور خطيرة فعلا ولم يبق أمامنا إلا أن نطلق رصاصة الرحمة على أنفسنا وننتحر جماعيا.. لم يبق لنا إلا أن نستسلم للمقادير، للسلفية والسلفيين. وبالفعل فقد اكتشفت أني بعد ست سنوات على حصول ضربة 11 سبتمبر لا استطيع أن أضع اسمي على بعض الترجمات والكتابات خوفا من غضب الأصوليين العتاة. فما نفع 11 سبتمبر إذن؟ وهل يلزمنا مائة 11 سبتمبر لكي نتجرأ على طرح بعض الأسئلة الجوهرية على التراث الديني للإسلام؟ كيف تشكل المصحف تاريخيا؟ من الذي شكله وضمن أي ظروف من الصراعات السياسية اللاهوتية؟ متى تشكلت الشريعة، أي القانون الإسلامي المقدس، وكيف؟ هل يمكن تقديم تفسير تاريخي للقرآن ومتى؟ متى تشكلت المذاهب الإسلامية بالضبط؟ وكيف تصارعت بالحديد والنار على احتكار مفهوم الإسلام الصحيح؟ وهل صحيح انه توجد فرقة واحدة ناجية والباقي في النار؟ وكيف تصارعت على مفهوم الدين الحق أو المذهب الوحيد المرضي عند الله؟ بل كيف لا تزال تتصارع حتى هذه اللحظة من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه؟ انظر المجازر بين الشيعة والسنة ليس فقط في العراق وإنما أيضا في الباكستان ومناطق أخرى عديدة.. وهل يمكن التفكير خارج الأجواء المتحنطة والمتكلسة للتراث؟ هل يمكن التنفس خارج جدران السور العتيق أو السياج الدوغمائي المغلق كما يقول أركون؟ وهل لهذا الليل من آخر؟

كان فولتير قد أحصى عدد ضحايا الأصولية المسيحية في وقته فوصل إلى الملايين! وكان العدد بالضبط: تسعة ملايين وأربعمائة وثمانية وستين ألفا وثمانمائة شخص إما ذبحوا أو أغرقوا أو حرقوا أو عذبوا على الدولاب أو شنقوا من أجل حب الله..(التعبير لفولتير. انظر الكتاب التالي بالفرنسية:dictionnaire de la pensée de voltaire. Editions complexe. Paris.1994 p.256) من المعلوم أن حركة التنوير الأوروبي لم تقلع فعلا إلا بعد مجزرة سانت بارتيليمي الشهيرة وبقية المجازر الطائفية في شتى أنحاء أوروبا.ولا ينبغي أن ننسى الدور الذي لعبته الحروب المذهبية الكاثوليكية البروتستانتية في ذلك أيضا. فقد سالت الدماء أنهارا بسببها. وكل طرف كان يدعي انه يمثل الدين الحق أو المسيحية الكاملة والصحيحة تماما كما فعلت المذاهب الإسلامية. ويقال بأنها، أي الحروب المذهبية، حصدت ثلث سكان ألمانيا آنذاك فما بالك بالدول الأوروبية الأخرى؟ بعدئذ ظهر جون لوك وسبينوزا ولايبنتز وبيير بايل: أي الدفعة الأولى من مفكري التنوير الأوروبي. لقد ظهروا كرد فعل عنيف على الأصولية والأصوليين المسيحيين الذين كانوا يحرضون على المجازر الطائفية ويخدعون الشعب المسيحي الجاهل والفقير تماما كما يفعل شيوخ القاعدة في العراق حاليا.. ثم تلتهم الدفعة الثانية في القرن الثامن عشر على يد ديدرو والبارون دولباخ و دولاميتري وفولتير وجان جاك روسو وليسنغ وكانط وعشرات غيرهم. وقالوا سوف نشرح العقائد المسيحية تشريحا ولن نترك لها شاردة ولا واردة لأنها كانت تقدم التغطية اللاهوتية أو الإلهية لكل هذه المجازر. سوف نضع رجال الدين على محك النقد الصارم الذي لا هوادة فيه وسوف ننزع عن وجوههم القناع.. ومعلوم أن فولتير كرس كل حياته تقريبا لمحاربة ما كان يدعوه «بالوحش الضاري"، أي الأصولية المسيحية وبالأخص الكاثوليكية البابوية الرومانية. وقال علينا أن نسحق العار والشنار. واليوم إذا لم ينبثق التنوير العربي الإسلامي بعد كل هذه المجازر والتفجيرات العمياء التي ترتكبها الأصولية الوهابية في العراق وغير العراق فعلى الثقافة والمثقفين العرب كلهم العفاء!

بقيت كلمة أخيرة: لكي يكون موقفي متوازنا ينبغي الاعتراف بأنه يوجد حقد كبير في أوساط اليمين المتطرف الأوروبي الأميركي الإسرائيلي على كل ما هو عربي أو مسلم. وهناك ميل إلى التعميم وأخذ الصالح بجريرة الطالح: أي وضع كل المسلمين والعرب في خانة واحدة. وهذا خطأ أيضا وينبغي أن يدان. وبالتالي فالتطرف الذي يشعل نار الحقد آت من كلا الطرفين لا من طرف واحد. والسياسة التوسعية الاستيطانية العدوانية في فلسطين مسؤولة أيضا عن هذا الوضع الذي وصلنا إليه. والواقع أن قوى التطرف في كلتا الجهتين تحاول أن تقطع الطريق على النوايا الطيبة للأغلبية المسالمة الراغبة في الحوار الحضاري سواء عند العرب المسلمين أم عند الغربيين مسيحيين كانوا أم علمانيين.. ينبغي ألا ننسى أن المتطرفين يبقون أقلية على الرغم من ضخامتهم في كلتا الجهتين


http://www.islamismscope.com/index.php?art/id:563




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !