تدور في الاوساط السعودية تساؤلات عن الاساليب التي اتبعها النظام لتحويل الحراك السياسي الى عالم افتراضي لا يلقى صدى على ارض الواقع كما تدور في بعض الاوساط المرتبطة بالنظام محاولات تتخفى تحت غطاء اكاديمي مصطنع ودعاية مفضوحة تحاول ان تقنع المراقبين ان المشكلة في العالم العربي تكمن في الجمهوريات وليس الملكيات حيث ان الاولى مرتطبة بالفشل الاقتصادي والقمع السياسي والفساد.
اما الملكيات المتبقية فهي ملكيات متقدمة عن محيطها تحكم من قبل نخب اشبه ما تكون بشعب الله المختار وان لم تكن كذلك فهي اقرب الى سيرة العمرين حيث تستحضر هذه الملكيات التراث السني ورموزه لتضفي على نفسها شرعية دينية ولكن شتان بين ذلك الماضي وهذا الحاضر. ونجزم ان تقسيم الانظمة بين ملكيات وجمهوريات يخفي مدى التقارب بين النظامين وان اختلفت المسميات. وصدق سعد الدين ابراهيم عندما اخترع مصطلح الجملوكيات وذهب على خلفية الى السجن في مصر ونجد ان ملكيات اليوم استطاعت ان تتبنى بعض ملامح وممارسات الجمهوريات كالانتخابات والبرلمانات الا انها عطلتها تماما كما عطلتها الجمهوريات قبلها وجاء ذلك من مبدأ لبرلة الملكيات المطلقة تحت ضغوط تاريخية سابقة وما ان زالت هذه الضغوط نجد ان الملكيات تعود لتمارس اساليبها المعهودة. لذلك نعتقد ان الفارق بين الملكيات والجمهوريات العربية ليس بالكبير ومحاولة اقناع الجمهور العربي والرأي العالمي ان حكمة الملكيات الفذة الخارقة ستحميها من مد الحراك السياسي العربي هي محاولة بائسة وستنكشف اسطورة الحاكم المستبد المستنير تماما كما سقطت منظومة الحاكم المستبد العادل. وسينتهي هذا الموروث الذي جعل العالم العربي يتخلف عن مسيرة الديمقراطية التي هبت على مناطق كثيرة في العالم دون ان تعصف رياحها في المنطقة الا مؤخرا. وان ظهرت الملكيات مستقرة على السطح الا ان الغليان قد بدأ يظهر في تلك المساحات الشاسعة بيد الانظمة والمجتمع. ان نجاح الملكيات وخاصة السعودية في قمع الحراك السياسي يعود الى استحضار الثلاثية القديمة المتجددة والتي اجاد النظام السعودي في تفعيلها عند كل ازمة داخلية. اولها استغلال الدين كسوط يضرب به الحراك السياسي حيث يتوعد النظام وكهنوته النشطاء السياسيين بتأمين مقاعد لهم دائمة في جهنم وكأن النظام وعلماءه شركة سفر تؤمن الوصول المضمون للنهاية الحتمية. وهذا الاسلوب لا يختلف عما تفعله الجمهوريات في لحظاتها الاخيرة عندما عصفت بها رياح التغيير السياسي. اذن تتلاشى الاختلافات بين الملكيات والجمهوريات عندما تستحضر الدين لتتصدى للتغيير السياسي. فيتحول الملكي والجمهوري الى الورع والتقوى ويعيد تفسير آيات بطريقة تلائم اهدافه السياسية ويذكر الجمهور بأن طاعة ولي الامر هي من طاعة الله ورسوله بل انها ارفع من ذلك بمراتب عالية خاصة اذا استعرضنا الممارسة والعقاب والقهر الذي ينتظر من لا يلتزم بطاعة ولي الامر فعقاب هؤلاء هو اشد بأسا واكثر صرامة من عقاب الذين يعصون الخالق ولكم في السجون السعودية والمحاكم الجائرة خير دليل على ما نقول فنلاحظ ان العقاب الملكي اكثر فتكا من العقاب الالهي حيث ينتظر الجميع الرحمة والمغفرة ولكن في الكوميديا الملكية الدينية لا رحمة ولا مغفرة بل جهنم دنيوية طويلة الامد وهي اشبه ما تكون بمسرحية دانتي الشاعر الايطالي القديم صاحب مسرحية الكوميديا الالهية والتي لم يتنبأ فيها عن العقاب الملكي في الملكيات الحديثة وخاصة مثالها السعودي الحالي. ويأتي الجزء الثاني من ثلاثية النظام لقمع الحراك مرتبطا بهذه الدنيا ومفاتنها حيث تدغدغ دولة السوق المشاعر والعواطف ببريق الاستهلاك وتوزع الاتاوات وتصرف المعاشات مضاعفة لفترة قصيرة لتتلاعب بشهوات البشر الآنية والمرحلية وتكثر من الوعود بتأمين ابسط حقوق الانسان في الدولة النفطية كالمأكل والملبس والسكن والصحة ولا تنسى ان تكون الوعود مرتبطة بالطاعة وعدم التفكير بالتغيير السياسي. وتبقى الرشوة الاقتصادية سيدة الموقف واستراتيجية ناجحة في استيعاب التململ والتذمر من الضائقة الاقتصادية.
وقد تعلم المجتمع كيف يبتز النظام حيث اننا تابعنا قضية بعض الشخصيات التي تعلن معارضتها للنظام او تتحرش به عن طريق كتابة مقالة هنا وهناك وتلفت الانتباه الى ذاتها لتعود وتصبح من اكثر الموالين بعد ان تمتد اليهم يد المعونة وليس هذا الاسلوب حكرا على المعارضة في الداخل السعودي بل هو اصبح وسيلة ابتزاز للنظام السعودي من قبل شريحة كبيرة من غير السعوديين الذين يعلمون نقطة الضعف في النظام فيسخرونها لكسب معونات اقتصادية واتاوات تكلف النظام وخزينة الدولة ثمنا باهظا. ان استعمال المال لشراء الضمائر يستغل من قبل الجهتين جهة النظام والمجتمع الذي تعلم اصول اللعبة وما اسهل من ابتزاز النظام خاصة عندما يشعر بحالة اضطراب وقلق كالتي يشهدها حاليا نتيجة الحراك العربي وتأزم وضعه الداخلي على مستوى القيادة فتصرف الاموال وتهدر الثروة في سبيل ارضاء هذا او ذاك وتمويل معارضات الدول العربية الاخرى التي لا يرضى عنها النظام السعودي. استراتيجية المال مقابل الولاء لن تكون جادة في المستقبل البعيد حيث نعلم كيف ان من يمولهم النظام السعودي ينقلبون عليه فجأة وبدون سابق انذار مما يؤدي الى عواقب وخيمة والامثلة كثيرة لا مجال لذكرها لكنها معروفة من قبل الجميع. اما الزاوية الاخيرة في ثلاثية القمع فهي ترتبط بالقبضة الحديدية بشقيها البوليس المباشر والمخفي غير المباشر. يعتمد الشق الاول على نظام قمعي بأجهزة مدربة على مواجهة اي حراك شعبي وان كان هناك تحفظ على تفعيل هذا الجهاز عند الضرورة فانه يستبدل بجهاز مستورد من الخارج وقد استطاع النظام ان يتعاقد مع اطياف خارجية معروفة لتزويده بمرتزقة تتعامل من الاضطرابات الداخلية والخارجية معاً وخاصة تلك الاجهزة التي اثبتت دمويتها خلال العشر سنوات الماضية وتدربت على احدث الوسائل تحت مظلة الحرب على الارهاب حتى طورت قدراتها على اقتناص الحراك حتى قبل ان يبدأ ومن ثم التنكيل به بعد القبض عليه ليصبح عبرة لمن اعتبر.
وتثير هذه الممارسات التي تكون محلية ولكنها مدعومة بعناصر خارجية حالة ذعر ويصبح كل مواطن تحت الرقابة وتتحول المملكة الى سجن بانوبتكون حيث يشعر الانسان بالرقابة الدائمة دون ان يعرف مصدرها وهذا السجن يضمن شللا عقليا وتحطيما للارادة وتهشيما للعمل وحالة استسلام للواقع المرير ورغبة في الانتقال الى سجن حقيقي. وجاءت كلمات خالد الجهني الاخيرة قبل اختفائه في شوارع الرياض لتدل بدون اي شك على الحقيقة المرة وواقع سجن البانوبتكون المعروف باسم المملكة.
حيث قال انه يعيش في سجن كبير وان الشعب كله يريد ان يدخل السجن وحتى هذه اللحظة يظل خالد خلف القضبان تماماً كما توقع وأراد ولا يتذكره سوى تقرير جديد لمراسل البي بي سي بعد اكثر من 58 يوما على اختفائه. جريمة خالد انه خرج للتظاهر وحيداً ومتحدياً لسلطة الملكية الدينية ورشاواها وآلتها القمعية وتحول خالد الى ساحة مكثفة تختبر فيها الملكية ثلاثية القمع وتذوب معها الحدود الفاصلة بين الجمهوريات والملكيات.
اما آلية القمع بشكلها المخفي فتأتي مبطنة كالتهديد بالفصل من العمل خاصة لتلك الشريحة التي تعتمد على القطاع العام وهي اغلبية الشعب او توقيف بعثة دراسية لمجرد ابداء رأي يخالف المنظومة الرسمية او تعطيل المصالح التجارية لكل شخص يشكك النظام في ولائه وطاعته. وهذه الاساليب المخفية والتي اصبحت من الممارسات العادية تجعل الانسان في مملكة الانسانية رهينة الارادات حيث تربط حقوقه الانسانية والمدنية بالطاعة المطلقة. والنتيجة المستخلصة تدل على ان الفروقات بين الملكيات والجمهوريات ربما تكون في المسمى فقط حيث ان السلطة المطلقة ليس لها مبدأ سوى مبدأ الاستئثار بالقرار ولذلك تعتبر ممارسة الضغط والارهاب والرشوة من اعمدة الحكم التسلطي مهما كانت هويته. فالثلاثية هي ممارسة قديمة تتجدد بتجدد وسائل القمع وآلياته وتعدد مصادره ولن ينفرط عقد الحكم التسلطي الا بثلاثية مضادة اهم اعمدتها اولاً تنظيم المجتمع في حركات عمالية ومهنية تجمع الكوادر دون تقسيمها طائفياً وجهوياً وقبلياً لتتحرك مطالبة بحقوق مهضومة وثانياً حركة طلابية منظمة تفهم معنى المستقبل وما يخبئه لها من مفاجآت لم تكن في الحسبان وثالثاً حركة نسائية تكون حقوقها جزءاً من منظومة التغيير الشامل وليس بعيدة عنه. عندها فقط تتحول ثلاثية الحراك الحقيقي من عالم فيسبوك وتويتر الى الشارع وتبدأ بالفعل عملية انتزاع الحقوق المشروعة لمجتمع طالما غيبته السلطة عن تاريخه وحاضره ومستقبله عندما انفردت بالقرار وسلطت جزءا صغيرا منه لقمع الشريحة الأكبر فيه. ومن ثلاثية الحراك تبدأ ثلاثية القمع بالتلاشي حتى تندحر الى الابد.
التعليقات (0)