مواضيع اليوم

السعادة عند الفارابي

رَوان إرشيد

2012-05-17 17:54:32

0




فصل : السعادة عند الفارابي


في هذا الفصل سوف يدرس الباحث السعادة عند الفاربي ويتعرض إلى تعريفها وأنواعها والفضائل المنشودة من أجل تحصيل هذه السعادة , وكذلك يتعرض لنظرية , وأخير يبين الباحث الجانب الذي ركز علية الفارابي في تحصيل السعادة
المبحث الأول : تعريف السعادة
يعرف الفارابي السعادة ويقول : " هي الخير المطلوب لذاته وليس تطلب أصلا , ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيئا آخر , وليس ورائها شيئا آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها ) " الفارابي , 1987م, ص15)
وكذلك يقول الفارابي عندما يتحدث عن الملة والفلسفة كما يرد لاحقا "أنهما يعطيان الغاية الغاية القصوى التي كون الإنسان لأجلها , وهي السعادة" (الفارابي,1995م,ص89).
وتأثر الفارابي في هذا التعريف بأرسطو الذي يرى أن :" السعادة على التحقيق شيء نهائي مكتف بنفسه مادام أنه غاية جميع الأعمال الممكنة للإنسان " وتأثر ابن مسكويه فيما بعد بالفارابي (عاتي , 1993م,215) , وبهذا التعريف فقد جعل الفارابي السعادة ذات طابع عقلي تأملي لا طابع حسي مراد, ولكن مسبباتها كما يرد لاحقا , تتدرج من الحسي إلى المعقول وبذلك حوى هذا البحث الكثير من العلوم الأخرى لأن من منظور الفارابي السعادة الحقيقية تطلب لذاتها وليس ورائها شيء آخر أي أن جميع الفضائل وقد قال الدكتور أحمد الأفندي عن الغاية لدى كل إنسان : " إذا تقيدنا بالتصور الأخلاقي عند ابن تيمية فإننا نلاحظ ما يراه في حركة الإنسان نحو غاية , فتعريفه للإنسان أنه (حي حساس متحرك بالإرادة ) فله إرادة دائما ,وأما الغاية فهي تتعدد وتتخذ صورا مختلفة إما المال أو الجاه أو الرئاسة أو محبة الرجل للمرأة وغير ذلك من الأمور المطلوبة للدنيا , أما كمال الإنسان فيتحقق في أن يكون مراده هو الله") الغامدي ,ص141)
وكذلك يقول الدكتور محفوظ عزام :" هدف الذات ينبغي ألا ينحصر في تحقيق الإنسان السعادة لنفسه أو لغيره , وإنما ينبغي أن يكون هدفه الأول هو الله وحده ,أنه يجب أن يؤدي الأعمال الأخلاقية لأنه مأمور بها من قبل خالقه وأن يقصد بها وجهه ولا وجه أحد ولا وجه السعادة" (عزام , 1407هـ,23)

ومما سبق يتضح بأن هناك شوائب عقائدية في تصور الفارابي للسعادة:

أولا: لم يقل (خلق الإنسان) بل قال (كون الإنسان) وذلك لأنه يرى صدور الكائنات عن الأول عن طريق الفيض كما يتضح في نظرية الفيض.
ثانيا : يرى الفارابي بأن الإنسان كون من أجل السعادة وهذا ينافي قول الله سبحانه وتعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) .
المبحث الثاني : أنواع السعادة
يقول الفارابي : " العلم المدني يفحص أولا عن السعادة ويعرض أن السعادة ضربان : سعادة يظن أنها سعادة من غير أن تكون كذلك وسعادة هي في الحقيقة سعادة وهي التي تطلب لذاتها ولا تطلب في وقت من الأوقات لينال بها غيرها وسائر الأشياء الأخر إنما تطلب لتنال بهذه , فإذا نيلت كف الطلب , وهذه ليست تكون في هذه الحياة بل في الحياة الآخرة التي تكون بعد هذه , وهي تسمى السعادة القصوى وأما التي يظن أنها سعادة وليست كذلك فهي مثل الثروة واللذات والكرامة وأن يعظم الإنسان وغير ذلك من التي تطلب وتقضى في هذه الحياة من التي يسميها الجمهور خيرات) " (الفارابي , 1992, 52)
ومن هذا يتضح بأن تقسيم السعادة عند الفارابي إلى قسمين :
سعادة أزلية )قصوى ):
وهي التي تطلب لذاتها كما في تعريف السعادة , وتلك هي السعادة الحقيقية ولا تكون إلا في الحياة الآخرة , ولكن يبدو بأن الفارابي في حديثه عن أسباب هذه السعادة فيما بعد يخالف هذا التصور .
سعادة زائفة :
ولا يعترف الفارابي بهذه السعادة وذلك كان واضحا من خلال تعريفه للسعادة في المبحث الأول ويقول عنها في كتاب آخر عندما يتحدث عن أهل المدينة الجاهلة في تقسيماته للمدن :" عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي مظنونها في الظاهر أنها خيرات من التي تظن أنها هي الغايات في الحياة وهي سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات وأن يكون مخلى هواه وأن يكون مكرما ومعظما " (الفارابي , 2000م , 131)
وكذلك أشار إلى هذه السعادة الزائفة عندما تحدث عن مدينة الخسة والشقاوة في تقسيماته :" هي التي قصد أهلها التمتع باللذة من المأكول والمشروب والمنكوح , وبالجملة اللذة من المحسوس " (المرجع السابق,132)

وفي كتاب فصول منتزعه تحدث عن اللذين يعتقدون بأن اللذات هي الخيرات على الإطلاق حيث يقول :" وآخرون ظنوا بأن اللذات كيف كانت هي الخيرات وأن الأذى كيف كان هو الشر , وخاصة الأذى اللاحق بحاسة اللمس " (الفارابي , 1987م ,16)

وفي "رسالة التنبيه " تحدث عن هذه السعادة بصورة مباشرة وتفصيلية فيقول :" إن بعضهم يرى بأن الثروة هي السعادة , وبعضهم يرى أن التمتع باللذات هو السعادة , وبعضهم يرى أن الرياسة هي السعادة " وفي مقطع آخر من نفس الرسالة يقول :" ونحن دائما نتحرى اللذات التي تتبع المحسوس , ونظن أنها هي غاية الحياة ""من قبل أن نظن أن اللذة في كل فعل هي الغاية " وفي موضع آخر يقول عن هذه اللذة " صرنا نظن أنها غاية العيش , وهي السعادة "(الفارابي,1987م ,ص 14)

المبحث الثالث : الفضائل وتحصيل السعادة
قبل أن نتحدث عن تقسيم الفضائل عند الفارابي نعرج على بعض تقسيمات الفضائل عند من سبقوا الفارابي , فقد قسم أفلاطون الفضائل إلى أربعة وهي على التوالي :
الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة (العبار, 2000م,ص68) وأما أرسطو يقسم الفضائل إلى نوعين :
1- فضائل خلقية
2- فضائل عقلية (المرجع السابق)
ومن التقسيمات المعاصرة تقسيم الفضائل إلى :
1- فضائل شخصية مثل العفة والشجاعة والحكمة فكلها فضائل تعمل على ضبط النفس وتهذيبها
2- فضائل اجتماعية وتشمل العدل والإحسان
3- فضائل دينية : وتشمل الفضائل التي ينبغي على المرء أن يتصف بها في صلته بخالقه(المرجع السابق ,ص69) .

وأما الفارابي فيقسم الفضائل إلى أربعة أصناف فيقول :" الأشياء التي إذا حصلت في الأمم وأهل المدن حصلت لهم السعادة الدنيا في الحياة الأولى والسعادة القصوى في الحياة الأخرى ,أربعة أجناس :الفضائل النظرية , والفضائل الفكرية , والفضائل الخلقية , والصناعات العملية" " (الفارابي,1995, ص25)
وبذلك يرى الفارابي بأن تحصيل تلك الفضائل الأربعة يحقق السعادة في الدارين , سعادة الحياة الدنيا , وسعادة الحياة الأخرى , وهذا ما يميز فلاسفة المسلمين عن غيرهم , حيث أنهم يرون بأن هناك سعادة أزلية في الحياة الآخرة ,وكذلك يرى الفارابي بأن هذه الفضائل متماسكة مع بعضها وكل فضيلة تكمل الفضيلة الأخرى , فيقول :" الفضيلة الفكرية الرئيسة جدا لا يمكن إلا أن تكون تابعة للفضيلة النظرية ....فتكون الفضيلة النظرية والفضيلة الفكرية الرئيسة والفضيلة الخلقية الرئيسة والصناعة الرئيسة غير مفارق بعضها بعضا " (الفارابي , 1995م , ص66(

وسوف يتناول الباحث هذه الفضائل الأربعة بالتفصيل كالآتي:

المطلب الأول : الفضائل النظرية
الطريق إلى معرفة الفضائل النظرية هو التعليم (الفارابي, 1995م, ص71)وهي أشبه ما تكون بالنظرية المعرفية وفيها يتدرج الفارابي بالموجودات من البسيط إلى المركب فالأكثر تركيبا , ولاشك أن أبسطها المادة وأكثرها تعقيدا الإنسان , ونلاحظ هذا التدرج الصاعد في فلسفة الفارابي حتى في قوى النفس عندما يبدأها بالقوة الغاذيه ومن ثم القوة الحاسة ومن ثم القوة النزوعية ومن ثم القوة المتخيلة ثم القوة الناطقة , وهذه الفضائل النظرية هي محصلة الفضائل الأخرى حيث أنها تشمل العلوم الأولى , ومنها ما يحصل بفحص وتأمل ومنها ما يحصل تعليم وتعليم , ويحث الفارابي على أهمية التعليم والإرشاد لتحقيق السعادة حيث يقول:"وإن كان المقصود بوجود الإنسان أن يبلغ السعادة القصوى فإنه يحتاج في بلوغها إلى أن يعلم ويجعلها غايته ونصب عينيه ثم يحتاج بعد ذلك أن يعلم الأشياء التي ينبغي أن يعملها حتى ينال السعادة ثم أن يعمل تلك الأعمال , ولأجل ما قيل في اختلاف الفطري أشخاص الإنسان فليس في فطرة كل إنسان أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة ولا الأشياء التي ينبغي أن يعملها بل يحتاج إلى معلم ومرشد) "الفارابي , 1998م , ص78)
ويحث الفارابي على الطرق المنطقية في تعلم الفضائل النظرية ويرى بأن المنطق يساعد على توجيه العقل نحو السعادة )الفارابي , 1995 ,ص72)وفي كتاب يبين مفهوم المنطق وذلك بمقارنته مع النحو فيقول :" بين صناعة النحو والمنطق تشابه ما , وهو أن صناعة النحو تفيد العلم بصواب ما والقوة على الصواب فيه بحسب عادة أهل لسان ما , وصناعة المنطق تفيد العلم بصواب ما يعقل والقدرة على اقتناء الصواب فيه فيما يعقل , وكما أن صناعة النحو تقوم اللسان حتى لا يلفظ إلا بصواب ما جرت به عادة أهل لسان ما , وكذلك صناعة المنطق تقوم الذهن حتى لا يعقل إلا الصواب من كل شيء , وبالجملة فإن نسبة صناعة النحو إلى الألفاظ كنسبة صناعة المنطق إلى المعقولات , بهذا تشابه ما بينهما فأما تكون أحدهما هي الأخرى أو أن تكون داخلة في الأخرى " (الفارابي , 1987م ,ص56, (وقد يكون الفارابي متأثرا في تصوره للعلاقة بين النحو والمنطق بكتابات أحمد بن محمد بن الطيب السر خسي الذي وضع كتاب ) الفرق بين نحو العرب والمنطق (" (المرجع السابق, ص57)

ويرسم الفارابي سياسة لتعليم الفضائل النظرية , ويقسم الناس على أساس هذا التعليم إلى عامي وخاص , فالعامي من منظور الفارابي فهو الذي لم يكن له رئاسة مدنية ولا صناعة يرشح بها لرئاسة مدنية , والخاصي هو الذي له رئاسة مدنية أو صناعة يرصد بها لرئاسة مدنية , ويسمي الرئيس الأول أخص الخواص , ووضع طرق تدريس لكل صنف , فالطرق الإقناعية والتخيلات تستخدم في تعليم العامة وجمهور الأمم والمدن , وطرق البراهين اليقينية تستعمل في تعليم الخاصي
حيث يقول " وتفهيم الشيء على ضربين احدهما أن تعقل ذاته والثاني بأن تتخيل مثاله الذي يحاكيه وإيقاع التصديق يكون بأحد طريقين إما بطريق البرهان اليقيني أو بطريق الإقناع "(الفارابي , 1995م,ص72, 73)

أولا : الطرق الإقناعية والتخيلات :
تكون بإعطاء عدة أمثلة متخيله مشابه للأمور النظرية المعقولة)المجردة ( ويجتهد بأن يجعلها مشتركة عند جميع الأمم وقابلة للتصديق في حالة الإقناع (الفارابي 1995 ,ص76)
والتخيلات لا تكون إلا عن طريق القوة التخيلية , وهي كما يعرفها الفارابي :" هي القوة التي تحفظ رسوم المحسوسات بعد غيبها عن الحس وتركب بعضها إلى بعض وتفضل بعضها عن بعض في اليقظة والنوم) " عاتي , 1993م, ص120)
وللقوة المتخيلة ثلاثة أوجه :
• تخيل الشيء الذي يرجى ويتوقع أو الذي مضى أو الذي يتمنى ما تركبه القوة التخيلية
• ما يرد على القوة المتخيلة من أحساس شيء ما بدافع الخوف أو الأمل , أو ما يرد عليها من فعل القوة الناطقة
• المحاكاة : أي أن تكون القوة التخيلية لها القدرة على محاكاة الأشياء المحسوسة التي تبقى محفظوها فيها , فا أحيانا تحاكيها بالحواس الخمس وأحيانا تحاكي المعقولات واحيانا تحاكي القوة الغاذية وأحيانا النزوعية (المرجع السابق)
وهذه الطرق تسمى عند الفارابي بالملة حيث أنه أورد في كتابه تحصيل السعادة بأن الملة هي التي تكون بالتخيل عن طريق الأمثلة الأخرى التي تحاكي المعلومة وبذلك يكون التصديق بما خيل فيها عن الطرق الإقناعيه (الفارابي,1995, ص89)

ثانيا :طرق البراهين اليقينية
وهي التي "تحتاج إلى تحصيل علم الموجودات ,أي تعلمت فإن عقلت أنفسها " (الفارابي , تحصيل السعادة ,(ص22)
يرى الفارابي بأنها تكون لمن يمتلك قوة في الذهن ويعتمد فيها على علم المنطق حيث يقول : " وقوة الذهن إنما تحصل متى ما كانت لنا قوة نقف بها على أنه حق يقين فنعتقده وبها نقف على ما هو باطل أنه باطل بيقين فنتجنبه , ونقف على الباطل الشبيه بالحق فلا نغلط فيه , ونقف على ما هو حق في ذاته وقد أشبه الباطل فلا نخدع فيه , والصناعة هي التي يسير بها الإنسان إلى الحق , والأمور التي يزول بها ذهن الإنسان عن الحق" ويقصد الباطل (الفارابي, 1987م,25) ويقول عن صناعة المنطق هي التي "يوقف على السبل التي بها يرسل الإنسان الباطل عن ذهنه متى اتفق ان اعتقده ...إن كان وقع فيه وهو لا يشعر.. ومتى وقع له اعتقاد في شيء وعرض له فيه شك هل هو صواب أو ليس بصواب أمكنه امتحانه حتى يصير إلى اليقين فيه "(المرجع السابق ( وتستخدم هذه الطريقة في الفضيلة الفكرية بينما نتائجها في الفضيلة النظرية حسب استنتاج الباحث .
وهذه الطرق عند الفارابي تسمى الفلسفة حيث يقول :" كل ما تعطيه الفلسفة معقولا أو متصورا فإن الملة تعطيه متخيلا ,وكل ما تعطي الفلسفة فيه البراهين اليقينية فإن الملة تعطي فيه القناعات " (الفارابي, 1995, ص89)
لذلك كان الفيلسوف عند الفارابي هو من يخترع المتخيلات والمقنعات لإقناع غيره)الفارابي ,1995م,ص95 ( ويرى بأن الفلسفة فضيلة الملك أو الرئيس(المرجع السابق,93) وفي هذا في تأثر من مذهب الإسماعيلية عندما يرون عصمة الإمام ويكون ذلك جليا عندما يتكلم عن الرئيس الأول في كتاب السياسة المدنية حيث يقول:
" والرئيس الأول هو على الإطلاق هو الذي لا يحتاج ولا في شيء أصلا أن يرأسه إنسان بل يكون قد حصلت له العلوم والمعارف بالفعل ولا تكون له به حاجه إلى إنسان يرشده وتكون له القدرة على جودة إدراك شيء شيء مما ينبغي أن يعمل من الجزيئات وقوه على جودة الإرشاد لكل من سواه إلى كل ما يعلمه وقدره على استعمال كل من سبيله يعمل شيئا مما في ذلك العمل الذي هو معد نحوه وقدر على تقدير الأعمال وتحديدها وتسديدها نحو السعادة , وإنما يكون ذلك في أهل الطبائع الفائقة العظيمة إذا اتصلت بالعقل الفعال " (الفارابي,1998, ص79)
ويرى الفارابي بأن الملة والفلسفة تعطيان الغاية القصوى التي كون من أجلها الإنسان وهي السعادة القصوى)الفارابي, 1995, ص89) ويقصد الفارابي بالسعادة القصوى السعادة الأزلية كما تقدم , وفي الحقيقة الغاية القصوى التي كون من أجلها الإنسان العبادة حيث يقول الله سبحانه وتعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وإنما السعادة القصوى تابعة لهذه العبادة .
وبما أن الفضائل عند الفارابي متماسكة ومترابطة فيما بينها فإن العلوم النظرية خلاصة علم الفضائل الأخرى وليس بعد معرفة هذه الفضيلة إلا بلوغ السعادة حيث يقول الفارابي : " القوة الناطقة منها عملية ومنها نظرية , والعملية جعلت لتخدم النظرية ...والنظرية لا تخدم شيئا آخر بل ليوصل بها إلى السعادة " (الفارابي,1993,ص 106, 107) , والفضائل العميلة تشمل الفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والفضائل الصناعية ,وكذلك يقول الفارابي في كتاب آخر : "والسعادة إنما يعقلها الإنسان ويشعر بها بالقوة الناطقة النظرية لا بشيء آخر من سائر القوى" "(الفارابي,1998م,ص23) .

ومما سبق نستنج أن هذه الطرق التعليمية تميز عن طريق الفضيلة الفكرية ومن ثم تحصل للأمم على هيئة فضائل نظرية .


المطلب الثاني : الفضائل الفكرية
ويقول الفارابي عن السعادة في هذه الفضيلة : " السعادة تبلغ بأفعال ما إرادية بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنية ,وليس بأي أفعال اتفقت , بل بأفعال محدودة مقدرة تحمل عن هيئات ما أو ملكات ما مقدرة محدودة "(الفارابي , 1987م , ص15)
أي أن الفضيلة الفكرية تحتاج إلى جودة التمييز وذلك من أجل التفريق بين الأفعال الجميلة والأفعال القبيحة واستنباط ما هو انفع في غاية فاضلة , والسعادة لا تحصل لنا إلا بتلك بالأفعال الجميلة , فإن السعادة إذن تتوقف على جودة التمييز في هذه الفضيلة .
ويقسم الفارابي الفضيلة الفكرية إلى قسمين (الفارابي , تحصيل السعادة , ص12)
1- الفضيلة الفكرية العظمى :
وهي القوة الفكرية التي تستنبط بها ما هو أنفع وأجمل في الغايات المشتركة عند الوارد المشترك لأمم أو ملة أو مدينة مما شأنه أن لا يتبدل إلا في مدد طويلة , وتجتمع في هذه الفضيلة الإرادة والطبيعة ولا تكون تلك الفضيلة إلا في الملوك ,(الفارابي , 1995م , 60 )ويبدوا بأن الفارابي في هذه الفضيلة متأثر بالإسماعيلية حيث يرى بأن هذه الفضيلة تكون في الملوك والرؤساء بالطبع , ولا تكون في غيرهم.

2- الفضيلة الفكرية الجزئية :
وهي القوة الفكرية التي يستنبط بها ما هو أنفع وأجمل في غاية فاضلة لطائفة من أهل مدينة أو لأهل منزل ولأهل صناعة معينة (نفس المرجع ,61)
وتعتبر هذه الفضيلة عند الفارابي هي رأس الفضائل لأنها تستنبط الفضيلة الخلقية وتميز معقولات الفضيلة النظرية (الفارابي, 1995, ص66, 67)

المطلب الثالث : الفضيلة الخلقية
تحدث الفارابي عن الفضيلة الخلقية في كتاب تحصيل السعادة , وكان يريد أن يقول – حسب ما أشار إلى ذلك محقق هذا الكتاب - أن الأفعال التي تصدر عن الإنسان تحتاج إلى مصدر غير العقل النظري هو العقل العملي أو الإرادة , ولا تخضع لقوانين ثابتة لأن إرادة الإنسان تتأثر بأمور طبيعية واجتماعية مختلفة , وطالما أن أفعال الإنسان تختلف باختلاف الزمان والمكان فإن الفضائل الخلقية تختلف باختلاف الأزمان والبلدان والشعوب وكذلك أعراضها (الفارابي , 1995م,ص51, 52, 53)
ويعتبر الفارابي الصناعة الخلقية من احد أصناف الفلسفة المدنية حيث يقول في كتاب (التنبيه إلى سبيل السعادة ) :" والفلسفة المدنية صنفان : أحدهما به يحصل علم الأفعال الجميلة والأخلاق التي تصدر عنها الأفعال الجميلة والقدرة على اقتنائها وبه تصير الأشياء الجميلة قنية لنا وهذه تسمى الصناعة الخلقية , والثاني يشمل على معرفة الأمور التي بها تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن والقدرة على تحصيلها لهم وحفظها عليهم وهذه تسمى الفلسفة السياسية وعلم السياسة " (الفارابي,1987م, ص23)
ويفهم من خلال هذا التصنيف بأن الفلسفة المدنية عند الفارابي تهتم بالفرد والمجتمع , فالقسم الأول يهتم بالفرد عن طريق معرفة الأخلاق والسلوك الخلقي الناتج عن هذه الأخلاق , وكذلك القسم الثاني يهتم بالأخلاق ولكن على مستوى المجتمع بما يسمى بالفلسفة السياسية , وعلم الأخلاق والصناعة الخلقية عند الفارابي تعتبر من الفلسفة العملية ( الفارابي , 1987م , ص20)كما أن هناك التحام بين الجوانب النظرية والعلمية في فلسفة الفارابي بل نراه يطبع كتبه السياسية والأخلاقية بطابع ميتافيزيقي بينما يضفي على كتبة المنطقية والميتافيزيقية طابعا أخلاقيا وسياسيا واجتماعيا , ورغم هذا هناك من الباحثين من يرى الفارابي يقدم النظر والمعرفة على الإطلاق ف(ذي بورد ) مثلا يرى بأن المعرفة عند الفارابي أرفع شأنا من العمل الخلقي (عافي ,1993م,ص239) ولا ندري كيف جاز لدي بورد أن يقول ذلك , وقد كان منهج الفارابي في الأخلاق واضح جدا حيث أنه لم يفصل بين الأخلاق والسلوك الخلقي .

الأخلاق فطرية أم مكتسبة :
يقول الفارابي عن الأخلاق في كتاب (التنبيه إلى سبيل السعادة ) : "أن الأخلاق كلها الجميل والقبيح هي مكتسبة " (الفارابي, 1987م,ص17)ويقول في كتاب فصول المدني : " لا يمكن أن يفطر الإنسان من أول مرة بالطبع ذا فضيلة ولا ذا نقيصة , كما لا يمكن أن يفطر الإنسان بالطبع معدا نحو أحوال فضيلة أو رذيلة , بأن تكون أفعال تلك أسهل عليه من غيرها , كما يمكن أن يكون بالطبع معدا نحو أفعال الكتابة أو صناعة أخرى بأن تكون أفعالها أسهل علية من أفعال غيرها , كما يمكن أن يكون بالطبع معدا نحو أفعال الكتابة أو صناعة أخرى متى لم يحفز من خارج إلى ضده حافز , وذلك الاستعداد الطبيعي ليس يقال فيه أنه فضيلة ,كما أن الاستعداد الطبيعي نحو أفعال الحياكة ليس يقال فيه حياكة " (عاتي,1993م, ص234, 235 )
ومما سبق يتضح للباحث بأن الأخلاق عند الفارابي تكون مكتسبة ولكن هناك استعداد فطري لدى الأفراد لاكتساب هذا الخلق .

المطلب الرابع : الفضيلة العملية الصناعية
كل صنف من أصناف المعرفة السابقة له صنائع تحوزه على أساس العلم والعمل أيضا , فتكون الصنائع إذن صنفين :
1- صنف يكون لنا بها معرفه بالعلم فقط ويقصد بذلك صناعة الفلسفة
2- صنف يحصل لنا بها علم ما يمكن أن يعمل والقدرة على عمله (عاتي ,1993, ص38).
وهذا الصنف ينقسم إلى قسمين :

1- صنف يتصرف به الإنسان في المدن مثل الطب والتجارة والفلاحة وسائر الصنائع التي تشبه هذه .
3- صنف يتصرف به الإنسان في السير وأيهما أجود , وبه يميز أعمال البر والأعمال الصالحة , وبها يستفيد القوة على فعلها. (الفارابي , 1987م , 19ص) وفي هذا الصنف يرى الباحث تداخل من الفضيلة الفكرية ويكون ذلك في تمييز الأفعال الجميلة مثل أعمال البر والأعمال الصالحة , فالتمييز لهذه الصنائع يكون بالفضيلة الفكرية وهذا مما يدل على تماسك وتداخل هذه الفضائل فيما بينها من أجل الوصول إلى السعادة المنشودة عند الفارابي

وبهذه الأصناف يرى الفارابي بأن مقصود الصنائع على صنفين :
1- صنف مقصودة تحصيل الجميل
والصناعة التي مقصدها تحصيل الجميل فقط هي الفلسفة وتسمى الحكمة على الإطلاق , وبالفلسفة ننال السعادة , ذلك لأن السعادات ننالها متى ما كانت الأشياء الجميلة قنية لنا .(المرجع السابق, ص20)

2- صنف مقصودة تحصيل النافع:
ويكون النافع من وجهة نظر الفارابي إما نافع في اللذه أو الجميل , والصناعات التي يتصرف بها في المدن يكون مقصودها النافع (عاتي, 1993, ص39)
ويرى الفارابي بأن التأديب هو الطريق لإيجاد الفضائل الخلقية والصناعية وهناك نوعان من التأديب : تأديب طوعا وتأديب كرها , ويختار الملك في تأديب الأمم ذوي الفضائل والصنائع ويعود إلى الأمور النظرية التي خلصت بمعرفتها ببراهين يقينية ويلتمس في كل واحده منها الطرق الإقناعية الممكنة فيها , ويتحرى في كل واحده منها جميع ما يمكن من الطرق الاقناعية , وذلك يمكن بحالة من القوة على الإقناع في شيء من الأمور بأعيانها فيأخذ أمثلتها , وينبغي أن يجعل تلك الأمثلة مشتركة عند جميع الأمم نظريا مما يوقع التصديق بتلك الأمثلة وذلك بالطرق الإقناعية , ويجتهد في كل ذلك بأن يجعلها أمثلة مشتركة وبطرق إقناعية مشتركة لجميع الأمم والمدن ثم بعد ذلك يحتاج إلى إحصاء أهل الفضائل والصنائع الجزئية العلمية , وهناك أصناف من الناس يستخدم معها الأقاويل الانفعالية والخلقية التي تخشع منها نفوس المدنيين وتذل وترق وتضعف وهناك أصناف يستخدم معها الأقاويل الانفعالية التي تقوى لها نفوس المدنيين وتعز وتقسو وتحنو.( الفارابي , 1995م ,ص 86)

المبحث الرابع : السعادة بين الفرد والمجتمع عند الفارابي

لقد اهتم الفارابي بالبعد الاجتماعي في جميع مؤلفاته وقد كان ذلك متمثلا في جانب السياسة , وقد ذكر عاتي بأنه لا يوجد فيلسوف مسلم اهتم بالسياسة كاهتمام الفارابي بها , حتى أعمالة الفلسفية كانت لها وجهة وأهداف سياسية مثل (أراء أهل المدينة الفاضلة ) (فصول المدني ) (رسالة في السياسة ) و(كتاب الملة )و(جوامع نواميس أفلاطون ) و(والسياسة الملوكية ) , وأكد على أن البعد الاجتماعي لم يبعث ثانية إلا على يد ابن خلدون الذي اعتقد بأنه استفاد كثيرا من سياسات الفارابي (عاتي,1993م, ص255)
لذلك يرى الفارابي بأن السعادة لا تكون في عزلة الفرد عن الجماعة حيث يقول :" فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية إلا باجتماعات جماعة كثيرة يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إلية قوامة وفي أن يبلغ الكمال , ولهذا كثرت أشخاص الناس , فحصلوا في المعمورة من الأرض وحدثت منها الاجتماعات الإنسانية "( عاتي , 1993م, ص249)
وحينما يقول "لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال الذي جعلت لأجله الفطرة الطبيعية" يقصد بذلك السعادة , حيث أنها في نظر الفارابي هي الكمال الذي يسعى الإنسان إليه , ويرى الفارابي بأن هدف الاجتماع هو التعاون لكي تتحقق السعادة المنشودة في المدينة وفي الأمة وفي المعمورة بشكل عام حيث يقول : " والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة ,(هو) الاجتماع الفاضل ,والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما ننال به السعادة هي الأمة الفاضلة , وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمة التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة " (عاتي ,1993م, ص215).

وهناك سعادات داخل المجتمع تعتبر سعادات زائفة وقد كانت متمثلة في مدن الفارابي الجاهلية وهي كالآتي :

سعادة أهل المدينة الضرورية : تكون في نيل قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون .
سعادة أهل مدينة النذالة : تكون في بلوغ اليسار والثروة دون نفع الآخر .
سعادة أهل مدينة الخسة : تكون في نيل اللذة من المحسوس وإيثار الهزل واللعب بكل وجه وفي كل نحو.
سعادة أهل مدينة الكرامة : تكون في نيل المدح والشهرة سواء بين بعضهم أو في المجتمعات الأخرى .
سعادة أهل مدينة التغلب : تكون في نيل اللذة من الغلبة فقط .
سعادة أهل المدينة الجماعية : تكون في نيل الحرية المطلقة بما لا يمنع هواه في شيء أصلا .
سعادة أهل المدينة الفاسقة : وهم الذين تخالف أفعالهم آراؤهم الفاضلة , وتكون أفعالهم أفعال أهل المدينة الجاهلة , وفي ذلك تكون سعادتهم . (عاتي ,1993م ,ص263,264).
وكل هذه سعادات دنيوية منصرمة لإبقاء لها منغصه بشوائب لا صفاء لها , لذلك أطلق عليها الفارابي (سعادات زائفة ) .

المبحث الخامس: نظرية الفيض عند الفارابي
لقد تأثر الفارابي في نظرية الفيض بأفلوطين لأنه أول من قال بذلك , وانتهى إلى نتائج تخالف تعاليم الإسلام , فقد ذكر بأنه لا ينال السعادة إلا من أدرك الفلسفة الفيضية وعمل بمقتضاها ,وكان يرى في فلسفته الفيضية بصدور الكائنات عن الأول بطريق الفيض لا بطريق الخلق من عدم (الفارابي , 1993م , ص30), وتعالى الله عما يقول علوا كبيرا .

 


المبحث السادس: تحديد جانب السعادة عند الفارابي

مما سبق نلاحظ بأن الفارابي ركز في السعادة على الجانب العقلي وأهمل بقية الجوانب ومما يؤكد على ذلك ما أورده الدكتور سعيد مراد في كتاب السعادة عند أعلام المسلمين حيث يقول :" ننتهي إلى القول بأن الفارابي جعل السعادة ذات طابع عقلي تأملي لا طابع حسي مادي " (مراد , 2011م, 44), ورغم أنه يرى السعادة القصوى في الحياة الآخرة ولكن لا يجد الباحث لهذا التوجه أثر عندما قام بدراسة أسباب تحصيل السعادة عند الفارابي , وقد أشار إلى ذلك محقق كتاب تحصيل السعادة عندما علق على تعريف السعادة في نظر الفارابي حيث يقول : " هذه العبارة تفيد إيمان الفارابي بحياة أخرى بيد أن مفهومه لها لا يتفق مع الشرع "
(الفارابي,1995م, ص25)

وبذلك كانت السعادة عند الفارابي احيانا لا تتفق مع الشرع واحيانا تكون ناقصة حيث أنها ركزت على الجانب العقلي وهذا لا يعطي مفهوم السعادة في الإسلام , الذي قد قال عنه الدكتور محمود عزام :" مفهوم السعادة في الإسلام مفهوم خاص , فالسعادة في نظر الإسلام تختلف من حيث الزمان والمكان , ومن حياة إلى أخرى ,حيث السعادة في الحياة الدنيا تختلف عن السعادة في الحياة الأخرى , كما أن الإسلام يستهدف تحقيق السعادة في الحياة الآخرة أكثر مما يستهدفها في الحياة الدنيا , وأن السعادة التي أرادها الإسلام لا تقتصر على جانب واحد فقط , وإنما تشمل الجوانب الروحية والعقلية والنفسية والمادية في الإنسان , وبطبيعة الحال كلما كان هناك أتساق بين هذه الجوانب كلما زاد نطاق السعادة كما وكيفا" (عزام , 1407هـ, ص22 ,23)

الوثائق التي أعتمد عليها في هذا الفصل :

1- الفارابي,أبو نصر , تحصيل السعادة ,دار ومكتبة الهلال , الطبعة الأولى ,1995م
2- الفارابي, أبو نصر ,التنبيه إلى سبيل السعادة , عمان :منشورات الجامعة الأردنية ,الطبعة الأولى , 1987م
3- الفارابي, أبو نصر , كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة , لبنان : دار الشروق , الطبعة الثانية , 2000م
4- الفارابي , أبو نصر, كتاب السياسية المدنية , بيروت : المطبعة الكاثوليكية ,1998م
5- الفارابي, أبو نصر ,كتاب الملة ونصوص أخرى , لبنان:دار المشرق,الطبعة الثانية ,1991م
6- مراد, د.سعيد , نظرية السعادة عند فلاسفة المسلمين , عين للدراسات والبحوث الاجتماعية والإنسانية
7- عاتي, د. إبراهيم ,الإنسان في الفلسفة الإسلامية (الفارابي نموذج), الهيئة المصرية العامة للكتاب , 1993م


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات