القدس المحتلة غازي ابوكشك
تشير القفزة التي حققتها كوريا الشمالية في منتصف شهر ديسمبر بكل وضوح إلى أن نظام كيم جونغ أون الحديث العهد يسير بخطى واثقة نحو تحسين إمكاناته الصاروخية الطويلة المدى
بعد نجاح كوريا الشمالية في إطلاق صاروخ طويل المدى، تحولت النشاطات النظرية والافتراضية إلى حقيقة ملموسة. تحذر أحدث تقديرات الاستخبارات الأميركية من الصواريخ الكورية الشمالية التي ستتمكن من بلوغ شواطئ ألاسكا وهاواي خلال بضع سنوات. بعد فشل الاختبارات الصاروخية منذ عام 1998، اعتبر المراقبون أن برنامج تطوير الصواريخ الطويلة المدى في كوريا الشمالية مجرد تهديد شفهي. قيل إن بيونغ يانغ تستعمل الاختبارات الصاروخية كورقة ضغط لعقد صفقات مربحة، وهي ليست جزءاً من جهودها الرامية لكسب إمكانات طويلة المدى.
لكن تشير القفزة التي حققتها كوريا الشمالية في منتصف شهر ديسمبر بكل وضوح إلى أن نظام كيم جونغ أون، الحديث العهد، يسير بخطى واثقة نحو تحسين إمكاناته الصاروخية الطويلة المدى.
كيف تمكنت بيونغ يانغ من إتمام الاختبار الصاروخي ذي الثلاث المراحل، ووضع القمر الاصطناعي في مداره؟
كان التعاون بين كوريا الشمالية وإيران عاملاً حاسماً في النجاح الأخير (مع ان الكثيرين لا يتنبهون له). ما بدأ على شكل علاقة مهنية، حيث توفر إيران الأموال النقدية اللازمة لكوريا الشمالية مقابل الحصول على قطع صاروخية ومعدات تكنولوجية، تحوّل إلى شراكة تزداد فاعلية. حان الوقت كي ندرك أن برامج الصواريخ البالستية، التي كانت مستقلة سابقاً في البلدين، تجسّد وجهين لعملة واحدة.
العميل يصبح شريكاً
رغم توثيق التعاون المتقطع بين كوريا الشمالية وإيران في مجال التطوير الصاروخي، درس المحللون هذا التفاعل انطلاقاً من منظور الصفقات التجارية المتسلسلة. وفق هذه الفكرة التقليدية، وجدت كوريا الشمالية التي تحتاج بشدة إلى الأموال النقدية عميلاً مربحاً في إيران. نتيجةً لذلك، يعتبر المحللون أن برامج تطوير الصواريخ الطويلة المدى في البلدين المعزولين تعكس مسألتين مختلفتين. لكن لم تحقق كوريا الشمالية نجاحاً مفاجئاً في 12 ديسمبر من باب الحظ، بل نجم ذلك عن التعاون المؤسساتي مع إيران. في سبتمبر 2012، وقّعت كوريا الشمالية وإيران على اتفاق تعاون علمي وتكنولوجي. اعتُبر ذلك الاتفاق مجرد حملة دعائية لكنه وفر في الحقيقة إطار عمل تنظيمي لإنشاء مختبرات مشتركة وتبادل البرامج بين الفِرَق العلمية، فضلاً عن تقاسم التكنولوجيا في حقول تكنولوجيا المعلومات والهندسة والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة والبيئة. عملياً، منحت تلك المشاريع غطاءً لهذه الأنظمة كي تتمكن من تجنب عواقب العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة بسبب نشاطات التخصيب. لذا يبدو أن الاتفاق الثنائي الجديد أنشأ آلية حديثة سمحت للنظامين بالحصول على عناصر متخصصة، فضلاً عن تقاسم البيانات والخبرات التقنية. حين ينتج أي طرف تكنولوجيا مهمة في مجال الصواريخ، يستفيد منها الطرف الآخر اليوم.
الحمض الأحمر
من المتوقع أن تظهر تحليلات تقنية إضافية تثبت أن نجاح كوريا الشمالية الأخير حصل بعد أن أطلقت إيران القمر الاصطناعي "أميد" فوق الناقل الفضائي "سفير" في فبراير 2009. يبدو أن ذلك الحدث المحوري تحقق بفضل التعاون الصاروخي الروسي مع إيران في عام 2005. تحت العنوان البريء "تعاون علمي وتكنولوجي مدني"، يوفر الاتفاق القائم بين كوريا الشمالية وإيران قناة يمكن أن تستعملها بيونغ يانغ للاستفادة من المساهمات الروسية السابقة في البرنامج الإيراني. تحتل تكنولوجيا الصواريخ الروسية الطويلة المدى أهمية كبرى بالنسبة إلى كوريا الشمالية. هذا الاحتمال وارد جداً بما أن صاروخ كوريا الشمالية استعمل وقود حمض النيتريك الأحمر لقذف الصاروخ على مسافة أبعد.
هذه الشراكة الثنائية فريدة من نوعها في المجتمع الدولي (ترتكز على الاعتماد المتبادل)، لاسيما ان كوريا الشمالية وإيران لا تتشاركان أي قواسم ايديولوجية أو عقيدية أو جغرافية أو انتماءات إثنية متشابهة. يغفل الكثيرون عن واقع أن كل فريق ساعد الفريق الآخر على التأقلم مع الوضع في الحالات الوطنية الطارئة. بالنسبة إلى إيران، كانت كوريا الشمالية مزوداً أساسياً للأسلحة التقليدية خلال الحرب الإيرانية العراقية. بالنسبة إلى كوريا الشمالية، كانت إيران جزءاً أساسياً من نشاطاتها المهمة في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، وهو الدور الذي بدأت تلعبه الصين الآن لأن عدداً متزايداً من الشركات الأجنبية يفتح منشآت إنتاج تستهدف السوق الصيني المتنامي.
الاستنتاج النهائي
ما الذي يجب فعله؟ يجب أن يتسم الرد الأميركي على البرامج الصاروخية في كوريا الشمالية وإيران بالابتكار، ويجب أن يتأقلم مع الوضع القائم لفهم هذا الواقع الجديد. يمكن أن تساهم المبادرات الآتية في سد الفجوات الناجمة عن أطر التحليل البالية:
- يجب أن تقوم الولايات المتحدة بتحديد وتعقّب الشركات التجارية الحكومية المتورطة في تفعيل اتفاق سبتمبر 2012 بين كوريا الشمالية وإيران. عمد بعض المحللين تقليديا إلى معاينة سلسلة الإمدادات والتدابير اللوجستية ووسائل توفير المواد باعتبارها نشاطات منفصلة. برزت الحاجة إلى تطبيق مقاربة متماسكة لتحليل دورة الحياة الكاملة للاتفاق القائم بين كوريا الشمالية وإيران منذ فترة طويلة (أصبح هذا الأمر ممكناً الآن عبر التواصل مع أبرز المنشقين في سيول، بعد أن عملوا في الشركات التجارية الحكومية في كوريا الشمالية).
- بعد فهم طريقة عمل برامج تطوير الصواريخ، يمكن أن يعد صانعو السياسة حوافز جديدة لإعاقة القطاعات الحساسة في هذا المجال. بدل الاتكال حصراً على سياسة "الصبر الاستراتيجي" المبنية على فرض العقوبات، يجب أن تفكر الولايات المتحدة في برامج مبتكرة تهدف إلى إحباط مشاركة الشركات الصينية الخاصة في دول الطرف الثالث التي تشكل وسيطاً محورياً في الصفقات المهمة.
سبات واشنطن
لكن ثمة حافزا إيجابيا وحيدا يتمثل في برنامج المكافآت النقدية لحظر العناصر أو التقنيين الأساسيين في قطاع تطوير الصواريخ البالستية. يبدو أن العمل بشكل خفي هو تكتيك فاعل تستعمله كوريا الشمالية. ولاشك في أن التعاقد مع شركات صينية خاصة كي تؤدي دور الوساطة لتسهيل "تزوير الشحنات" (عملية مبتكرة تقضي بتفكيك العناصر، ونقلها عبر طرق لوجستية مختلفة) يمكّن الشركات التجارية الحكومية في كوريا الشمالية من استعمال حاويات الشحن التجارية. تقدم المكافآت النقدية رواتب مضاعفة إلى بعض الشركات الصينية التي تستطيع جمع العمولة من أحد عملاء كوريا الشمالية، فضلا عن تقديم المكافآت، مقابل توفير نسخة عن تأمين الشحن إلى السلطات المحلية في موانئ جنوب شرق آسيا المكتظة.
لا يمكن أن نعزز فهمنا للوضع أو أن نحصل على نظرة معمقة تسمح بتطوير الأدوات اللازمة لطرح سياسات جديدة إلا من خلال القيام بأبحاث مبتكرة. أدى الاتكال المفرط على العقوبات إلى تحول التركيز من قياس فاعلية هذا التدبير بموضوعية إلى تحميل العقوبات مسؤولية أي انتكاسة تواجهها الأنظمة المستهدفة. لاشك في أن القمر الاصطناعي الكوري الشمالي، الذي يتحرك راهناً في المدار القطبي، هو دعوة للولايات المتحدة كي تنهض من سباتها.
مسؤول في كلية ستانتون للأمن الوطني ضمن برنامج الدراسات الأمنية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
التعليقات (0)