السحر بين العلم والدين
علماء سلفيون يروجون الخرافة
السحر فعل بشري يقوم على التخيل و التدجيل وربط الوهم بالباطل, ولا علاقة له بأي قوى غيبية أو خرافية.إنه انحراف فكري يكشف عن مدى تغلغل الخمول والتواكل بين الناس،وعن مدى تعلقهم بأوهام أسطورية لا تسود إلا في ظروف القمع والإرهاب والإحباط الاجتماعي، إذ كثيرا ما يلجأ الناس إلى السحر فى لحظات العجز والضعف والخوف.أو كلما تعذر تحقيق المطامح والأحلام...
وقد شاع السحر في مجتمعنا المعاصر بشكل منقطع النظير،وغدا في عرف الناس ركنا من أركان العقيدة الإسلامية، يتبنى مذهب الدفاع عنه وإثبات وجوده علماء سلفيون وفقهاء ومتصوفة ودعاة إسلاميون،حتى أصبح الإيمان به من أهم وسائل الدعوة إلى الله.اتخذه هؤلاء وسيلة لإثبات أهمية التسلح بالقرآن وبالأدعية للتصدي للسحر والجن والشياطين.ويزداد الأمر غرابة حين نرى هؤلاء الأئمة يتبجحون بما لديهم من كرامات وما وهبوا من قدرات على طرد الجن..وإبطال السحر.وما هذا إلا ترويج للخرافة والشعوذة لا يقل خطراعن صنيع الكهنة والسحرة والدجالين.
وفي هذا المجال بادر علماء الدين إلى التنافس على نشر عشرات الكتب تدافع عن الإيمان بالسحر داعية إلى تأصيله بين الناس،وذلك بدعم مطلق من الأزهر ومجالس الفقه والإفتاء في بعض الدول العربية
فأي خطر جناه علماء الإسلام..يفتعلون من القضايا ما يصرف الأمة عن سبل المنهج العلمي. يروجون للخرافة والشعوذة عبر العصور،يسهمون في تخلف المسلمين وسيطرة قوى الظلم والتعتيم.
وبذلك أصبح السحر عملة رائجة يغتني من خلالها الدجالون.ينشرون مؤلفات في تعليم السحر. يزينونها بطلاسم تسخير الجن والتحاور مع الأرواح والشياطين.نذكر من هؤلاء دجال مصري معروف يسمي نفسه العالم الفلكي الكبير عبد الفتاح الطوخي.عمل هذا الدجال خلال عشرات السنين على ترويج كتبه عبر الأقطار العربية،نذكر منها:(السحر الأحمر.الكباريت في إخراج العفاريت.حديث الطوخي مع الجان.سحر هاروت وماروت.)
حاول بعض علماء الإسلام التصدي لهذا الدجال وأمثاله فكان الرد أدهى وأمر.قاوموا التدجيل بما هو أخطر،بمزاعم لاأساس لها من علم أو دين.السحر عندهم ثابت بالكتاب والسنة. مصدره كما يدعون،تدخل قوى الجن والشياطين ضد المسحور بأمر من الساحر،فتشل أعضاؤه وإرادته،أو تسكن الشياطين جسده ليسقط من الصرع،أو يلازمه النحس فتسد في وجهه أبواب الرزق والعمل والزواج. ولإثبات ذلك يتعسف هؤلاء العلماء تأويل النصوص القرآنية.
ولا يجد هؤلاء العلماء المحترمون حرجا في نسج مغامرات خيالية خرافية كانوا هم أنفسهم أبطالها في حوادث يحاورون فيها الجن،أو يخيرونه بين أن يخرج من جسد المسحور أو يحرق بآيات من القرآن.
ظهرت هذه المغامرات في كتب لكبار العلماء.وكان الحصاد مرا.مئات الكتب التجارية،نذكر منها:
..الدليل والبرهان على دخول الجان بدن الإنسان لعبد الحميد الهنداوي.
..برهان الشرع في إثبات المس والصرع لعلي بن حسين الحلبي.
..حوار صحفي مع الجني المسلم لمحمد عيسى داود.
..المسكونين بالشياطين لرياض العبد الله.
..كيفية إخراج الجان من جسم الإنسان سعيد جاد وعلي بدوي.
..طرد وعلاج الجن بالقرآن والأعشاب مختار محمد كامل
..الجن في ذكر أحوال الجن سيد عبد الله حسين.
..علاج السحر وأخطاء المعالجين بكر محمد إبراهيم.
..أفضل الأعمال في السحر الحلال مجدي البطل.
..الصارم البتار في التصدي للسحرة والأشرار وحيد عبد السلام بالي.
إلى غير ذلك من الكتب التي ساهمت ولا تزال في نشر الجهل والخرافة والدعوة للشعوذة.
والملفت للانتباه أن أصحاب هذه الكتب قد ربطوا السحر بظاهرة تلبس الجن ببدن الإنسان،متنكرين في ذلك لأصول العقل ومبادئ العلم التي أقرها الإسلام الحنيف مستخفين بآراء علماء أجلاء فطنوا منذ قرون إلى خطورة هذا الوضع فصرحوا بأن الإسلام يتنافى مع كل مظاهر الخرافة والشعوذة.
في مقدمة العلماء والمفكرين نجد المعتزلة الذين أنكروا وجود السحر وكفروا من اعتقد بوجوده.
وهذا رأي مشهور لهم لا يختلف عن موقفهم الرائد في إنكار دخول الجان بدن المصروع.
ويذهب الإمام الشافعي إلى رأي قريب من رأي المعتزلة حين اعتبر أن من زعم أنه يرى الجن تبطل شهادته.
أما في العصر الحاضر فلم يتردد بعض العلماء المتسلحين بالفهم الصحيح لمقاصد الإسلام من الاعتراف بالحقيقة، من أمثال الشيخ إيهاب الدين الأثري في كتاب:(استحالة دخول الجان بدن الإنسان)
وكذلك الشيخ مدحت عاطف وغيره من العلماء الذين أخلصوا لأسس المنهج العلمي.
إلا أن نفرا من مروجي الخرافة والشعوذة راحوا يصدرون الفتاوى المغرضة ضد كل من وقف ضد تهافتهم ولم ينسق وراء حججهم الواهية.في مقدمة هؤلاء علماء سلفيون ممن يباشرون الوعظ والإرشاد في خطب الجمعة وفي حلقات الدرس بالمساجد.نذكر من بينهم الشيخ عبد العزيز بن باز الذي شغل رئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة و الرئاسة العامة لإرادة البحوث العلمية والإفتاء.فقد ادعى القدرة على إبطال السحر وفك الرصد وطرد الجن من أجساد البشر.كما ذهب إلى القول بأنه أخرج شيطانا بوذيا من جسد أحد الأعراب.
وفي محاولة لإثبات وجود السحر يذهب هؤلاء مذاهب متناقضة.السحر عندهم ثابت بالكتاب والسنة،وأن ذكره في القرآن كاف لإثبات وجوده.وهذا ادعاء مرفوض قطعا.لأن ذكر لفظ السحر في القرآن الكريم لايعني وجوده بالمفهوم الشائع عند الدجالين والمشعوذين.
فما مفهوم السحر في القرآن؟
لا يستعمل السحر،في الآيات التي يستدل بها هؤلاء إلا بمعنى واحد هو خداع الحواس والتأثير على النفس إلى حد أن يتوهم الناظر الأشياء على غير حقيقتها.
السحر لا وجود له إلا في وهم الناس.والساحر له قدرة فائقة على خداع الحواس.يكتسب ذلك بالمران والممارسة ومعرفة سبل التأثير النفسي على مدارك السذج من الناس،فيتوهمون بفعل ذلك أنهم يرون أشياء ويسمعون أصواتا.هذا ما حدث للمصريين حين توهموا أن سحرة فرعون حولوا الحبال والعصي إلى ثعابين وحيات.وفي القرآن الكريم آيات صريحة بهذا المعنى (سحروا أعين الناس)،(خيل إليه من سحرهم أنها تسعى).
إن مجرد الاعتقاد بوجود السحر جهل بطبائع الأشياء.فالسحر يتنافى مع قدرات البشر.لأن تحويل الحبال والعصي إلى حيات يقتضي من السحرة أن ينفخوا فيها الروح.وبذلك فالإيمان بالسحر كفر،لأن القائلين
بوجوده يسندون إلى الساحر صفات الخلق،ويجعلون له قدرة على التحكم في مجرى الحياة وتغييرأقدار الناس
.وفى هذا الاعتقاد شرك صريح.
يردد مروجو الخرافة والشعوذة ادعاء غريباحين يدعون أن النبي قد سُحر،سحره اليهودي لبيد بن الأعصم.وهذا دليل عقيم يتعارض مع قول الله عز وجل:"والله يعصمك من الناس".
ولا يتوقف أنصار التدجيل عند هذا الحد،حد الدفاع عن السحر،وإنما بلغ بهم التهافت إلى درجة ربط السحر بظاهرة المس والصرع.متقولين على الجن ما لم يأت به علم أو خبر صحيح.مثل ادعائهم دخول الجن بدن الإنسان،ومضاجعة الشيطان للنساء،وتعاقد السحرة والكهان مع الشياطين.
ولابد من الإقرار أن الإيمان بالسحر دخيل على الثقافة الإسلامة،تسرب إلى المسلمين من الثقافات الأخرى،وأصبح ركنا من العقيدة الإسلامية لدى العامة ولدى غالبية علماء الإسلام. حدث ذلك في غياب التحرى الدقيق للإسرائيليات وما اتصل بها من روافد الثقافات الوثنية.وهذه كتب التفسير حافلة بقصص خرافية عن الجن والشياطين،وتلك كتب الحديث زاخرة بدعوات مجانية للترهيب من أخطار السحر.ولا يكاد يخلو كتاب من هذه الكتب من تبسيط سبل الوقاية من السحر والتصدي له.
كان السحر من ركائز التصورات الجاهلية التي حاربها الإسلام وجاهد القرآن طويلا للقضاء عليها وكان تأثير الثقافة اليهودية عميقا في المؤلفات الإسلامية بما في ذلك كتب التفسير و الحديث وكتب الأدب والتاريخ.
فالإيمان بالسحر تصوير يهودي انحدر إلى بني إسرائيل خلال احتكاكهم بالمجتمعات الوثنية في مصر وبابل.وساعد أحبار اليهود على بلورة هذا التصور لمجاراة تلك الثقافات السائدة في الشرق القديم خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
ولعل أقدم كتاب كرس ظاهرة السحر هو التلمود:
في هذا الكتاب ذكر حقيقة الجن والشياطين وطباعهم وصفاتهم وأحوالهم الاجتماعية وقدراتهم الخارقة وكل هذا من تلفيق اليهود وأحبارهم.والأعجب أن هذا الكتاب أصبح المرجع الأساسي للدجالين والمشعوذين والسحرة في العالم الإسلامي.وهو أيضا المصدر الرئيسي لكثير من علماء التفسير ورواة الأخبار.وكثيرا مانسمع خطباء الجمعة وأئمة المساجد يرددون فقرات منه فيتلقاها الجمهور بكثير من التصديق.
في هذا الكتاب تشجيع على تعلم السحر باعتباره عملا مقدسا تنزلت به الملائكة على الأنبياء.وقد نسب اليهود السحر إلى هاروت وماروت،وهذا ما نفاه القرآن نفيا قاطعا(وما أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت).كما ادعى اليهود أن سليمان أخذ السحر عن هاروت وماروت وبه غلب الجن،(وما كفر سليمان) باعتبار أن الإيمان بالسحر كفر.
وترد في كتب التفسير قصة أسطورية تزعم أن هاروت وماروت ملكان،تمكنت امرأة من غوايتهما فوقعا في المعصية.ونسبت رواية هذه القصة إلى بعض الصحابة الأجلاء،بينما هي في الواقع قصة تتنافى مع خصائص التصور الديني للملائكة.ولم يرد أي خبر صحيح يؤكد أن هاروت وماروت من الملائكة.وأغلب الظن أنهما بشريان على صيغة أسماء اليهود..مثل:طالوت وجالوت وهارون وقارون...
ومما يزيد الخطب فداحة حرص بعض العلماء على ربط عدد من الأمراض النفسية بفكرة صرع الجن للإنسان،وهذه فكرة من افتراء الثقافات القديمة،ثم اقتبستها كتب اليهود وتزيدت فيها.وجاءت النسخ المشبوهة للإنجيل لتدعم هذه الخرافة ولتجعل الشعوذة من المعجزات الأنبياء.
يذكر الإنجيل جملة أحداث يشفي فيها عيسى المصروع والمسحور.ورد في الإنجيل متى:(يسوع يشفي صبيا فيه روح نجس ،كان يصاب بالصرع وانتهره يسوع فخرج الشيطان من الصبي).
ومن الكتب القديمة في السحر كتاب (أتهارفا فيدا) وهو علم الصيغ السحرية،وضعه طبقة الكهنة البراهمة في الهند،وشاع قبل ظهور بوذا في القرن الخامس قبل الميلاد .كما شاع السحر عند الفراعنة في مصر،حيث كان الكهنة يتلون الأدعية والتعازيم.ويطردون الأمراض بالأوامر والإيعازات مثل قولهم:
(اخرج أيها البرد..يا من تهشم العظم وتتلف الجمجمة..) وكان عندهم أيضا كتاب الموتى وهو عبارة عن تمائم سحرية للوقاية من الأسماك والأفاعي والجعلان،وأدعية يتسلح بها الإنسان في عالم ما بعد الموت.
تسربت هذه التصورات إلى المجتمع الإسلامي،واقتبسها علماء الدين عندنا،في محاولة لإرضاء شغف العامة بالأساطير،فراحوا يؤولون من الآيات ما لا يحتمل التأويل.وقد وجدوا في بعض الروايات الضعيفة معينا لا ينضب.فإذا تأويلاهم تتنافى مع خصائص التصوير الفني في القرآن، وتتعارض مع أسرار البلاغة العربية.
ازدهر هذا الاتجاه في العصر الحاضر ازدهارا واسعا،يدعمه رجال العلم والإفتاء في الأزهر ومكة والمدينة،يركبون موجة من الشطحات.ألم يصرح أحدهم أنه حاور جنيا أسلم اسمه مصطفى كنجور؟.
ألم يؤكد أحد علماء الأزهر أن الجن يقاتلون مع المجاهدين في أفغانستان؟
فمتى يرفع اللبس وينكشف غطاء الوهم والتدجيل،ويعود علماء الدين عن التراهات والأباطيل؟...
بقلم الباحث: علي بعروب
التعليقات (0)