الزكاة والصدقات . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن المنهج الاقتصادي الإسلامي عالج قضايا المجتمع بصورة واقعية بعيدة عن المثالية النظرية الجوفاء . فقد وضع أنظمةً تطبيقية فعالة لتجذير العدالة الاجتماعية عبر محاربة الشطط الطبقي واحتكارِ الثروة من قبل فئة محدودة .
فعبر تشريع الزكاة نقل الإسلامُ المجتمعَ من الحقد إلى الأخوة ، ومن الظلم إلى العدل . فالزكاةُ تعني مساعدة الأغنياء لإخوانهم الفقراء ، الأمر الذي ينزع الحسدَ والغل من صدور الفقراء تجاه مجتمعهم وأغنيائه ، ويعمل على تقوية الروابط المجتمعية وتثبيتها كوحدة جَمْعية متماسكة ، ويتيح فرصةً كبيرة لتداول المال بين أبناء المجتمع الواحد دون تركز الثروة في أيدي أناس معدودين .
كما أن المنهج الاقتصادي الإسلامي أسّس لمبدأ الصدقة ، حيث يساعد الأغنياءُ الفقراءَ بما يرونه مناسباً في أي وقت شاؤوا ، إيماناً بالشريعة الإلهية ، والأجرِ الأخروي يوم القيامة ، ومساعدةً للطبقات المتدنية في المجتمع .
قال الله تعالى : (( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابنِ السبيل فريضةً من الله واللهُ عليم حكيم )) [ التوبة : 60] .
قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 479 ) : (( لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات ، بيّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبيّن حكمها وتولى أمرها بنفسه ، ولم يَكِل قسمها إلى أحد غيره فجزّأها لهؤلاء المذكورين )) اهـ .
وقد بيّنت الآيةُ الكريمة مصارف الزكاة ( الأصناف المستحقة لها ) وهي ثمانية أصناف :
_ الفقراء والمساكين : (( وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم ، ويقابلهم الأغنياء المكفيون ما يحتاجون إليه )). فهؤلاء المحتاجون في أمس الحاجة إلى المساعدة المالية من قبل إخوانهم الأغنياء . فتأتي الزكاةُ لردم أي ثغرة في المجتمع من أجل تحويل الأفراد إلى عناصر إيجابية بناءة لا هدامة ، تملك كفايتها ولا تمد الأيدي إلى الناس، أو تلجأ إلى وسائل الكسب الحرام .
فعن عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنهما_: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة قوي )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 565 ) برقم ( 1478 ) وصححه . وحسنه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير ( 3/ 108 ) . ].
وعن عبيد الله بن عدي حدّثه أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة ، فقلّب فيهما البصر ، ورآهما جَلْدَيْن ، فقال : (( إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب )).
[رواه أحمد ( 4/ 224) برقم ( 18001) ، وأبو داود ( 1/ 513 ) برقم ( 1633) ، والنسائي ( 5/ 99) برقم ( 2598) . وقوّى إسنادَه ابنُ كثير في تفسيره ( 2/ 479 ) ].
وهكذا نجد أن الأغنياء والأقوياء القادرين على العمل والكسب لا يجوز إعطاؤهم شيئاً من الزكاة ، لأنهم قادرون على توفير مصادر دخل كريمة لأنفسهم وأُسرهم ، فهم لا يحتاجون إلى مساعدة مالية من أي نوع .
والمساكين هم صنفٌ مخصوص من المحتاجين ، لذلك جعلتهم الآيةُ صنفاً مستقلاً بذاته ، لتمييزهم عن الفقراء .
فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفطن به فيُتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس )).
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 538 )برقم ( 1409).ومسلم( 2/ 719 ) برقم ( 1039).].
والمسكينُ له وضعيةٌ خاصة ، فهو مخفي عن الأنظار ، لا يُظهِر الحاجة والسؤال . فهو لا يجد غنىً يُغنيه فيسد حاجته ويخرجه من دائرة العوز ، ولا ينتبه الناسُ إليه فيتصدقون عليه لأن وضعه مستتر لا تُدرَك حقيقته إلا للقريبين منه المطلعين على أسراره . وهو _كذلك_ لا يمد يدَه للآخرين بسبب عزة نفسه ، وتعففه ، فلا يَقبل أن يسأل الناسَ ويطلب منهم المالَ .
_ العاملون عليها : وهم الذين يعملون على جمع الزكاة من الأغنياء وحفظها والقيام بشؤونها . وقد (( اتفق العلماء على أن العاملين عليها السعاة المتولون لقبض الصدقة )).
[نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 3/ 365و366) عن ابن بطال .].
(( ويجب أن يكونوا من المسلمين، وأن لا يكونوا ممن تحرم عليهم الصدقة، من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم : بنو هاشم ، وبنو عبد المطلب )).
[فقه السنة للسيد سابق ( 1/ 365 ) .].
ففي صحيح مسلم ( 2/ 756 ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الصدقة لاتنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس )) .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 179 ) : (( ومعنى أوساخ الناس : أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم ... هي كغسالة الأوساخ )) اهـ .
لذلك فأخذ الصدقة منزلة ضعيفة ومتدنية تمس الكرامةَ الإنسانية ، والأنبياءُ أصحاب المكانة السامية أرفع من أن يمدوا أيديهم لمن هم دونهم .
ففي فتح الباري ( 5/ 204 ) : [ قال ابن بطال : إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة ، لأنها أوساخ الناس . ولأن أخذ الصدقة منزلة ضعة ، والأنبياءُ مُنَزهون عن ذلك ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان كما وصفه الله تعالى : (( ووجدك عائلاً فأغنى )) [ الضحى : 8 ] . والصدقة لا تحل للأغنياء ، وهذا بخلاف الهدية ، فإن العادة جارية بالإثابة عليها ] اهـ .
_ المؤلفة قلوبهم : من التأليف ( التجميع ) . وهم جماعة من الناس يُهدف إلى تأليف قلوبهم واستمالتهم . وهم أصناف. فمنهم من يُعطَى ليُسلم . فالأموال التي تُعطَى لهم تهدف إلى إبراز وجه الإسلام المشرق الذي يحتوي أبناءه ويغنيهم من فضل الله تعالى ، ولا يتركهم فقراء معوزين . كما أن البعض قد يفقد أموالَه في حال اعتناقه للإسلام . فالأسرة أو القبيلة قد تمارس ضغطاً هائلاً على الفرد الذي يريد اعتناقَ الإسلام ، فيُصادِرون أمواله وممتلكاته لكي يردوه عن الإيمان . لذلك يُعطَى من المال لكي ينفتح قلبُه على الإيمان دون وجود عوائق مادية ، أو حواجز نفسية ، أو إشكاليات من أي نوع تؤثر سلباً على مسار الدعوة .
ففي صحيح مسلم ( 4/ 1806 ): عن ابن شهاب قال : (( غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، فتح مكة . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين ، فاقتتلوا _ أي مع الكفار _ بحُنَيْن ، فنصر اللهُ دينه والمسلمين ، وأعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة )) . وعن سعيد بن المسيب أن صفوان قال : (( والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلَي ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلَي )) .
فالإسلامُ يُقدِّم حوافز للآخرين ، ولا يتركهم ضحيةً لهواجسهم ومخاوفهم . فإعطاءُ المال لصفوان بن أمية أظهر محاسنَ الإسلام ، وفتح قلبَه لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن النفوس مجبولة على حب مَن أحسن إليها . فليست هذه رشوةً لتغيير عقائد الناس ، أو شراء ولائهم ، أو خداعهم . وليست _ كذلك _ وصفةً تجميلية للدِّين . فالإسلامُ جميلٌ لا يحتاج إلى وصفات ولا يحتاج إلى الآخرين ، فهم الذين يحتاجونه لكي ينالوا الخلاصَ الأبدي .
لكنّ منح المال يُدخِل الطمأنينة والأمان إلى النفس البشرية المجبولة على حب المال ، وهذا يؤدي إلى انشراح الصدر لسماع الحق واعتناقه دون الانشغال بالأمور المادية ، أو حصر التفكير بطرق جمع المال لتأمين المستقبل وتوفير الحماية من المجهول ، كما يفعل الكثيرون . فالمرءُ حينما يتحرر من ضغط الاحتياجات المعيشية فإنه يتفرغ للتفكير بمعالم الحق واعتناقه .
ومنهم من يُعطَى ليحسن إسلامُه ويثبت على الحق : فهؤلاء يُعْطَوْن ليزدادوا طمأنينة وثباتاً على الإسلام ، ويبتعدوا عن التأثيرات السلبية للمال ، ويركِّزوا في تدعيم أركان إيمانهم دون تأثيرات مادية ضاغطة على عقائدهم قد تؤدي إلى إعادتهم إلى الكفر بفعل الضغوط الاقتصادية ، لأن الفقر والكفر وجهان لعملة واحدة .
فعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه_ قال : (( بعث علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها ، فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر ، وأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل )).
[متفق عليه. البخاري ( 4/ 1581 ) برقم ( 4094 )، ومسلم ( 2/ 741 ) برقم ( 1064 ). وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 162) : (( قال العلماء: ذكر عامر هنا غلط ظاهر ، لأنه توفى قبل هذا بسنين ، والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة )) اهـ . قلتُ : أما قوله " بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها " فيعني : ذهبٌ مدبوغ بالقرظ ( نوع من الشجر ) لم تخلص من تراب المعدن . ].
(( ومنهم مَن يُعطَى لما يُرجَى من إسلام نظرائه ، ومنهم من يُعطَى ليجبيَ الصدقاتِ ممن يليه ، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضررَ من أطراف البلاد . ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم )). [تفسير ابن كثير ( 2/ 479 ) .].
_ الرقاب: وهم المكاتبون يُعْطَوْن من الزكاة لفك رقابهم من الرِّق، فيتخلصون من العبودية، ويصبحون أحراراً . ولا يخفى أن المنهج الإسلامي واضح ومتماسك في إعتاق الرقاب، والحث عليه ، ونقلِ الناس من الرق إلى الحرية ، لكنه منهج تدريجي عبر مراحل منطقية لضمان عدم حدوث خلل في المجتمع ، أو فوضى عارمة لا يمكن إصلاحها . فهؤلاء الأرقاء السابقون بحاجة إلى وقت كي يدخلوا في السياق الفكري الحياتي للمجتمع، إذ إنهم ينتقلون من وضع نفسي واجتماعي إلى وضع آخر ذي طبيعة مختلفة ، كما أن المجتمع بحاجة إلى وقت كي يستوعبهم ، ويضعهم في مكانتهم اللائقة ، ويقود الأفرادَ للتعامل معهم بأسلوب صحيح . ومن هنا نفهم منهجية التدرج في تعامل الإسلام مع مسألة الرق . إذ إن إقحام الرق في الحرية مباشرةً دون مقدمات من شأنه تفتيت الأواصر الاجتماعية ، وإحداث اضطراب هائل في المجتمع الذي سيعجز عن استيعابهم وإعطائهم أدواراً اجتماعية لتحريك عجلة المجتمع ، وصناعة التقدم ، والقيام بعملية الإعمار والتعمير . مما يؤدي إلى انتكاسة كبرى في النسق الحضاري، وتراجع مرعب في التنمية، وانكسار حلم المشروعات الضخمة، لأنه _ عندئذ _سيكون جزءاً كبيراً من المجتمع مشلولاً وعبئاً على الآخرين، وهذا الوضعي غير الصحي سيعود بالضرر الشامل على الفرد والجماعة . فليست القضيةُ مسألة شعارات ولافتات تحرر وتحرير وجعجعة بلا طحن . إنه قضية أمن قومي لها تماس مباشر مع كل تفاصيل المجتمع ومفاصل الدولة . وبالطبع فإن كل عملية إصلاح بحاجة إلى وقت للتخطيط ورسم السياسات وتطبيقها على أرض الواقع ، وليست فعلاً ارتجالياً أو خُطبةً عصماء ثم ينتهي الأمر .
وعن البراء بن عازب _ رضي الله عنه _ قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، علمْني عملاً يدخلني الجنة . فقال : (( أعتق النسمةَ وفُك الرقبةَ )) ، فقال : يا رسول الله ، أو ليستا بواحدة ؟، قال: (( لا، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها )).
[رواه أحمد ( 4/ 299 ) برقم ( 18670 )، وابن حبان في صحيحه( 2/ 97 ) برقم ( 374)، والحاكم في مستدركه ( 2/ 236 ) برقم ( 2861 ) وصححه، ووافقه الذهبي . وصححه الحافظ في الفتح ( 5/ 146 ) . ] .
فهذا التوجه النبوي لنشر عبادة عتق الرقاب في المجتمع ، وتوجيه انتباه الناس إلى هذه القضية الحساسة التي كانت مهملةً قبل الإسلام، يدل على المنهج الإسلامي في تخليص الناس من ذل الرِّق، وجعلهم أحراراً متساوين في الكرامة الإنسانية ، وعلى قَدم المساواة مع الآخرين دون شعور بالدونية أو اللاجدوى . فالعبيدُ والجواري في المجتمع الجاهلي كانوا جزءاً من الأثاث لا يُعبَأ بهم ، فيُعامَلون كالدواب أو أقل . فلمّا جاء الإسلامُ رفع من مكانتهم وسَلّط الضوء على معاناتهم ، ووضع تشريعات لتخليصهم من أوضاعهم البائسة. وإننا لنجد آياتٍ قرآنية عديدة تتحدث عنهم، وهذا الشرفُ ما كانوا ليحصلوا عليه لولا الإسلام .
_ الغارمون : وهم الأشخاص الخاضعين لدَيْن لا يقدرون على سداده. فهؤلاء يُعْطَوْن من الزكاة لسداد ديونهم ، وتفريجِ كرباتهم ، وقضاءِ حاجاتهم . فالشخصُ الخاضع للدَيْن تجده محاصَراً وواقعاً تحت الضغط ، فتأتي الزكاة لتعيده إلى الوضع الطبيعي المتحرر من ثقل الحياة الاجتماعية بكل أبعادها النفسية والمادية .
ففي صحيح مسلم ( 2/ 722 ) : عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملتُ حمالةً فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال : (( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها )) .
فهذا الرّجلُ الذي عليه دَيْنٌ أدرك أن الشريعةَ الإسلامية لن تتركه يغرق ، ولن تُغلق الأبوابَ في وجهه . فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالباً العَوْن ، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءه من الزكاة حينما تأتيه . وهذا تجسيدٌ فعلي لا شعاراتي للتكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم الذي يحضن أبناءه ولا يُميّز بينهم . فالمسلمُ يعلم أن له دولةً تؤويه وتدافع عنه ، وإذا وقع فإنها ستُقيل عثرته ، وتنتشله من مأزقه . مما يبعث الطمأنينة في نفوس الرّعية ، ويزيد من انتمائهم لمجتمعهم الإيماني ، ويُقوِّي الروابط بين الحاكم والمحكوم، وبين المحكوم والتعاليم الشرعية . فالمجتمعُ الإيماني الحامل للفكرة الإسلامية نظريةً وتطبيقاً لا يمكن أن يكون طارداً لأبنائه ، أو عبئاً عليهم ، أو يُضيِّق عليهم في طرق معيشتهم ، فهذا المجتمعُ المحكوم بالشّريعة ينطلق من مبدأ تحقيق مصالح الناس وحماية مكتسباتهم ، وتخفيف الضغوط الحياتية عن كاهلهم ، وهذا ليس بمستغرب إذا علمنا أن الشريعة جاءت لرفع الحرج ، وأن الأمر كلما ضاق اتّسع .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 133) : (( قوله ( تحملتُ حَمالةً ) ... وهي المال الذي يتحمله الانسان ، أي يستدينه ، ويدفعه في إصلاح ذات البين ، كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك . وإنما تحل له المسألة ويُعطَى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية )) .
_ في سبيل الله : والمقصود به هو الغزو . فهؤلاء المجاهِدون يمارسون دوراً محورياً في الدفاع عن الإسلام ، والذّوْد عن حِياض الأمة . إنهم يضعون أرواحهم على أيديهم ، ويُضحون بأوقات راحتهم وسعادتهم في أحضان نسائهم وأبنائهم من أجل رفع كلمة الله تعالى . وهم يعلمون أن ذهابهم قد يكون بلا عَوْدة . ومع هذا فهم يواصلون عملَهم دون تردد أو إجبار من أحد ، لأنهم ينطلقون من قناعاتهم الداخلية المستمدة من قوة الإيمان ، ورباطةِ الجأش ، وشرفِ الجهاد .
وقال القرطبي في تفسيره ( 8/ 166) : (( وهم الغزاة وموضع الرباط ، يُعْطَوْن ما ينفقون في غزوهم ، كانوا أغنياء أو فقراء ، وهذا قول أكثر العلماء )) .
وعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله ، أو لعاملٍ عليها ، أو لغارمٍ ، أو لرجلٍ كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين الغني )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 566) برقم ( 1480 ) وصححه ، وأبو داود ( 1/ 514) برقم ( 1635) ، وابن ماجة ( 1/ 590 ) برقم ( 1841 ) . قال ابن حجر في تلخيص الحبير ( 3/ 111) : (( وصحّحه جماعة )) . ].
وهؤلاء المجاهِدون يُعْطَوْن من الزكاة للإنفاق على متطلبات الجهاد الذي يتكلف أموالاً كثيرة، وذلك للدفاع عن الإسلام وأهله وأراضيه . ومن أجل قهر الأعداء وتحجيمهم ، وردهم خاسرين يجرون أذيال الهزيمة ، ويرفعون رايةَ الاستسلام .
_ ابن السبيل : وهو المسافر الذي انقطع عن أهله ، وانقطعت به السّبل . فيتم إعطاؤه من مال الزكاة لكي يتجاوز عثرته ، ويتخلص من غربته . وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 281 ) : (( وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ، فيُعطَى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيُعطَى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف )) .
فنجد أن الأصناف الثمانية ( مصارف الزكاة ) التي تم تحديدها في القرآن الكريم لم تجيء عبثاً أو مصادفة . بل هي من علم الله تعالى المحيط بكل شيء ، فاللهُ الذي خلق الإنسانَ ، يعرف ما يصلحه وما يفسده . كما أن القرآنَ الكريم يجذِّر القناعةَ في النفوس بأن كل كلمة إلهية لها معنى دقيق ، ودلالة محددة ، وتؤسس لمجتمع الخير المنشود على أرض الواقع . فليس القرآن شعاراتٍ خيالية حول مكافحة الفقر ، وإنشاءِ مجتمع العدالة . بل هو منهاج متكامل قابل للتطبيق على أرض الواقع لسعادة الإنسان في الدارَيْن . والمنهجية الاقتصادية متكاملة في القرآن الكريم ، وهي ترمي إلى اجتثاث الفقر من جذوره ، وتأسيس العدالة الاجتماعية ، ومجتمع الأخوة البشرية الحقيقي بعيداً عن الطبقية المرَضية، والشططِ الطبقي المخزي الذي ينذر بتفكيك المجتمع إلى كيانات متناحرة .
قال الله تعالى : (( لن تنالوا البِر حتى تنفقوا مما تحبون )) [ آل عمران : 92] .
أي لن تنالوا أيها المؤمنون الخير والعطاء الجزيل من الله تعالى والجنة حتى تنفقوا من الأشياء التي تحبونها ، والتي هي قريبة من قلوبكم وعقولكم .
وعن أنس بن مالك _ رضي الله عنه _ قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طَيب . قال أنس : فلما أُنزلت هذه الآية [ لن تنالوا البِر حتى تنفقوا مما تحبون ] . قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، إن الله _ تبارك وتعالى _ يقول : (( لن تنالوا البِر حتى تنفقوا مما تحبون )) . وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو بِرها وذخرها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بَخٍ _ كلمة تقال عند الرضا _ ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين )) . فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
[متفق عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 530 ) برقم( 1392 ).ومسلم ( 2/ 693 ) برقم ( 998).].
وهكذا كان الصحابةُ _ رضي الله عنهم _ هم الجيل الذهبي الذين فهموا النصوصَ الشرعية ، وقاموا بتطبيقها على أرض الواقع دون تأخير أو تكاسل . فالتطبيق العملي للإنفاق من الممتلكات المحببة للنفس خضوعاً للآية القرآنية قد تم واقعاً ملموساً . فينبغي على المسلم أن يبذل أحب الأشياء لنيل رضى الله تعالى . وهذا إن دل على شيء فيدل على علو الهمة التي تدفع المؤمن إلى التخلي عن أحب ممتلكاته من أجل وجه الله تعالى دون النظر إلى مديح الناس ، أو نيل الحظوة عندهم . وهذا هو الإخلاص الصافي الذي لا تشوبه شائبة ، وأعلى درجات التضحية .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)