هل يمكن القول أنّ العالم العربي يعيش تجربته الجديدة مع الديمقراطية بمذاق خاص وأحداث مثيرة ؟..
إنّ أحداثا لافتة في دول عربية هامة ومؤثرة،غالبا ما تشغلنا تفاصيلها وتداعياتها المباشرة،تؤشّر لمخاض حقيقي للديمقراطية...ديمقراطية تُنسَج خيوطها بأيدي شعوبها وهي تتجرّع مرارة الأهوال والفواجع والتشرد أو التهميش والاستخفاف...
قد يبدو من المفارقة الحديث عن تجربة ديمقراطية أو مخاض ديمقراطي في ظلّ القصف والدماء والدموع والأنظمة الشمولية،فالديمقراطية لا تُخصب في مناخ من الفوضى والكبت وتشترط قدرا ضروريا من الحرية والأمن والحوار...لكنّ التجربة الديمقراطية العربية الجديدة التي أعنيها-وكما يتهيأ لي أنها تتبلور وتنمو لتنضج-هي مغايرة للمألوف...
لكي نحدّد ما نعنيه على وجه الدقة تبدو لنا العراق ومصر بصدد تشكيل نموذجين عربيين للفعل الديمقراطي على غاية الأهمية من حيث خصوصية التجربة التي يخوضانها راهنا وانفراد كل منهما بنحت مسار جديد ومشوق للنضال الديمقراطي العربي في ظروف وأحداث متباينة في البلدين...
لنركّز على:
-المخاض الديمقراطي في العراق:الاحتلال والإذلال والفتنة الطائفية والتشرّد هي التي تبدو طاغية في المشهد العراقي،وهي التي ننشغل بها ونُسهب في نقل ومتابعة مشاهدها وآثارها وتحليل أبعادها والتنديد بها،وهي فواجع وكوارث لا يمكن بأية حال تجاهلها أو تجميل وجهها الذميم،لكنّها،مع التفجيرات والهيمنة الأمريكية،مكنت من رواج للديمقراطية قولا وفعلا وهو ما كان غائبا في عهد ديكتاتورية صدام حسين التي احتكرت حتى العنف والقتل لتنفرد وحدها بممارسته دون سواها ضدّ من تعتبرهم خونة وأعداء نظامها،هذا النظام الذي أمّن،والحق يقال،قدرا وافرا من مناخ الاستقرار والأمن للشعب العراقي،لكنه مناخ مقام على نظرية بث الخوف والرعب بقبضة حديدية..
ولئن كنا نتفهم دوافع العراقيين التي تقول:"ديكتاتورية صدام ولا ديمقراطية أميركا"،فإنّ المشهد لا يمنعنا من القول أنّ المؤشرات تفصح على أنّ ديكتاتورية صدام وأمثاله قد ولّت من العراق دون رجعية وأنّ أميركا سترحل من العراق عاجلا أم آجلا وأنّ الديمقراطية هي الباقية ،ذلك أنّ الشعب العراقي الذي كان مجبرا على تحمّل الغزو الأمريكي وأفعاله الشنيعة يدرك أنّ نظام حكمه الوطني الصدّامي الراحل برّر الاحتلال بنرجسيته واضطهاده لشعبه وشعب الكويت،وأنّ أميركا لا تستطيع ألا تُجمّل صورتها في العراق بالديمقراطية وألا تُروّج لها وألا تقبل بممارستها...ويهمّ الشعب العراقي وهو يكتوي بلظى الاحتلال أن يستفيد من مأساته بالتحوّل إلى طرف أساسي فاعل في صياغة حاضره ومستقبله،وليس من الإنصاف رمي هذا الشعب العظيم بالقصور على تحيّن الفرصة من رحم أوجاعه ومخاضه العسير،فالاحتلال بشرّه يضع المهيمَن عليه أمام رهانات من أهمّها بالنسبة للشعب العراقي ليس استرداد سيادته على بلاده بطرد المحتلّ،فحسب،بل استرداد السيادة بمعنى أن يكون سيّد قراره،وهو معنى جديد لمفهوم الاستقلال لم يكن مبلورا بالقدر الكافي إلا بعد تجربة "الحكم الوطني" بقمعه واستبداده...
والسؤال:كيف تكتمل سيادة شعب على وطنه؟..
والإجابة لم تعد محلّ جدل لدى الشعوب التي جربت الإذلال الاستعماري والإذلال الوطني،فهي تعني لديها اليوم رفض الوصاية الاستعمارية الأجنبية ورفض الحكم الاستبدادي الوطني في آن واحد ودون تأخير أو تقديم لواحد على الآخر،أي-بالنسبة للعراقيين- مقاومة الاحتلال وإرساء النظام الديمقراطي معا وبخط متوازي،في جبهة نضال قد تختلف فيها المسارات لكنّ الهدف واحد ومفهوم السيادة الوطنية لا لبس يشوبه...
إنّ العراقيين الذين يقاومون الاحتلال الأجنبي بكلّ ما أوتوا من قوّة حتى بأجسادهم المفخخة هم مظهر من مظاهر تحرير الإرادة الشعبية يُمارسونها "عنفا ديمقراطيا" تبرّره الهيمنة الأجنبية وفضائحها في معتقل "أبي غريب" وغيره وفي وقائع الاغتصاب وقتل الأبرياء...هكذا العنف الشعبي الذي لم يكن ممكنا في عهد الحكم الوطني الاستبدادي أضحى ممكنا في عهد الاحتلال الأجنبي.اا
أما العنف الطائفي بين أبناء الشعب الواحد فهو آفة كريهة لكنها عرضية ما كان من اليسير تجنّبها في ظلّ الفوضى وحسابات التحريض النفعي الرخيص الداخلية والخارجية...ومتى خفّت حدّة الفوضى اختفى المحرّضون أو تقلصت قدرات إيذائهم...
أي نعم،العراق احتلال وفواجع وفتن،ولكنّ العراق،أيضا هو إرادة شعبية محرّرة من الكبت والخوف...إننا لنندهش،في ظلّ ما يتراءى من قتامة المشهد أن تتحرّر الكلمة لدى العراقي لتنفجر غضبا واحتجاجا على الاحتلال وعلى حكامه الوطنيين،دون رهبة ولا خوف،إنّ الكلمة في العراق لم تعد معتقلة،أو تكاد،الكلمة الحرة الجريئة تملأ صفحات المكتوب وتخترق رصاصاتها الفضائيات ومواقع الأنترنات ويتسلّح بها الشعب في الشوارع والمقاهي ومنابر السياسة...أما الممارسة الديمقراطية بمعنى التداول على السلطة،فهي في ظلّ الاحتلال البغيض،ليست مستردّة بل هي مستحدثة بعاداتها الجديدة على المجتمع العراقي الذي يقبل عليها بشراهة ونهم رغم الإرهاب والدمار ومكائد المستبدين والاستعمار...
إنّ الممارسة السياسية الشعبية في العراق غدت حقيقة والديمقراطية حاجة حياتية لا تقلّ عن الحاجة إلى تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي...
ما كنا نتمنى للعراقيين هول ما حلّ بهم لكنهم فتحوا أعيننا على أنّ مصابهم الجلل شكّل مخاضا عسيرا من أجل السيادة الوطنية دحرا للاحتلال وتكريسا للديمقراطية...
-المخاض الديمقراطي المصري:لا وجه للمقارنة بين الوضع السائد في العراق وذلك السائد في مصر...لكنّ هذه الأخيرة تشدّ الانتباه بطرافة تجربتها الجديدة مع الديمقراطية،والحقيقة أنّ هناك عناصر عديدة جديرة بالاهتمام والتحليل بدءا بطبيعة النظام المصري الذي أتاح هامشا مهما من "ديمقراطية التنفيس" وأقام المؤسسات التي تجعله مُقرا بالديمقراطية معترفا بفضائلها ساعيا لركوب موجتها بأسلوبه،وصولا إلى حراك المجتمع المدني ونضالاته المتعدّدة،دون إغفال ثقل تنظيم الإخوان المسلمين وغيرهم من الإسلاميين الذين راجعوا أفكارهم وعدّلوا أوتار نضالهم مع ما يتلاءم والزحف الديمقراطي...إلا أنّ الذي يعنينا في هذا السياق هو هذا المنحى المبتكر،غير المألوف،في طرح مفهوم لتداول السلطة انطلق بما يُشبه الاستشارة الشعبية حول الأسماء "النجوم" الجديرة بالترشّح لرئاسة الجمهورية أفضى إلى حصر المسألة في عدد محدود من الشخصيات المصرية المعروفة وانتهى إلى بروز شخصية وحيدة تجاوبت بدورها مع الرغبة الشعبية في الترشح لهذا المنصب السيادي الأعلى في هرم السلطة...هذه الشخصية،كما هو معلوم،هي التي تحمل اسم محمد البرادعي،المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية والحاصل على جائزة نوبل للسلام...خطف الرجل الأضواء من الوجوه السياسية المعروفة في مصر وحوّله الشارع المصري إلى نجم وأودعه آماله في التداول السلمي على الحكم...وبصرف النظر عن موقف السلطة الحاكمة في البلاد التي تعارض هذا الترشح بتعلّة موانع دستورية،فإنّ الرجل وأنصاره الكثيرون من أحزاب المعارضة وتنظيمات المجتمع الأهلي والمثقفين وسائر قوى المجتمع المصري انطلقوا في حملتهم الانتخابية وتعبئة أكبر قدر ممكن من الرأي العام المصري لفائدة هذا الترشح،وفضلا عن وسائل إعلام مصرية وعربية وعالمية تُروّج لهذا الترشح وتتناقل أحداثه،فإنّ الشبكة العنكبوتية انخرطت بقوّة في هذا الحدث المثير المشوّق...
ولعلّ أبرز ما يثير الاهتمام في هذه التجربة الديمقراطية الجديدة هي:
تعويلها على شخصية مصرية بارزة لها حضور عالمي.
الترشيح للرئاسة بتزكية شعبية.
الإيحاء بأنّ الإرادة الشعبية قادرة على أن تصنع الحدث السياسي ودفع السياسيين والأحزاب والتنظيمات الأهلية على الانخراط فيه.
تحويل شخصية البرادعي إلى نجم سياسي في حين أنّ النجومية غالبا ما لا تنسحب على السياسيين...
يبدو المخاض الديمقراطي المصري بلا وجع ظاهر،لكنه مخاض واعد...
الحقيقة أنّ العالم العربي دخل فعلا عصر الديمقراطية،دون أن ننتبه لذلك أو نقدّر حجم التحوّل الهائل الذي حدث سريعا في العلاقة بالديمقراطية،فهي مفهوما ومصطلحا وشعارا كانت غائبة أو تكاد في البيئة العربية إلا لدى نخب محدودة العدد متواضعة العدّة،كانت محرّمة ومطاردة ومنبوذة فتحوّلت إلى شعار ترفعه الأنظمة العربية وتجهد نفسها على التدليل على اعتمادها وترويجها ساعية قدر جهدها على احتكارها...
أجل على احتكار "الديمقراطية".ا..فهي التي تضبط أصولها وقواعد ممارستها وتروّج لها،وهذا-في حدّ ذاته- تحوّل لا يجب إغفاله أوالتقليل من أهميته بذريعة أنّ الأنظمة العربية تستعمل الديمقراطية قناعا تحاول أن تستر به بشاعة وجهها الديكتاتوري وأنيابها المتوحشة،وواجهة زينة وتجميل...إنّ مجرّد اقتناع الأنظمة العربية بأنه أصبح لا غنى عن الديمقراطية حتى إن استعملوها واجهة للزينة وعبثوا بشرفها يُثبت أنها تسللت إلى الفراش العربي وأصبحت تقضّ مضجع حكامه الذين قد يقدرون على الاعتداء عليها اليوم وتدنيس كرامتها لكن إلى حين...فالديمقراطية قادرة على الثأر لكبريائها المهدورة في عالمنا العربي...
التعليقات (0)