بعد قراءات متأنية كان لابد لي أن أتناول أحد الشخصيات السودانية التي لايمكن تجاوزها ودار حولها الكثير من الجدل وعلامات الإستفهام الحيرى لما لها من تأثيرها في تاريخ السودان وإنعكاساتها علي شخصية الإنسان السوداني الحالي. هذه الشخصية أتهمت ودمغت بمزاولتها لأنشطة لاتمت للأخلاق وحقوق الإنسان بصلة ناهيك عن حرمتها وهي تهمة الإتجار بالعبيد التي الصقتها به زورا وبهتانا دول الإستعمار لؤاد مشروعة الإسلامي الطموح الذي سبق قيام دولة المهدية والذي أعتزم أقامة أركانه في جنوب وغرب السودان (دارفور) ودولة تشاد الحالية . . ولما أنطوي عليه هذا المشروغ ولما رأت فيه دول الاستعمار تهديدا مباشرا لمصالحها وحركتها الإستعمارية في القارة كان لابد لها من اجهاضه وتأليب الناس عليه . ومما يؤسف له ان الكثيرين من أهل السودان المثقفين منهم والمؤرخين والسياسيين انطلت عليهم الحيلة والخدعة الغربية فصدقوا الفرية وصدقناها معهم . فألصقنا بأنفسنا وبتاريخنا دون وعي منا تهمة الإتجار بالعبيد .
وفدت عائلة الزبير الي السودان من صعيد مصر بعد خروج عائلته من بغداد بعد سقوط الدولة العباسية علي يد المغول وينحدر الزبير ود رحمة من سلالة جميع بن جموع بن غانم العباسي فكانت قبيلة (الجميعاب) التي استقرت علي ضفاف النيل نسبة الي (جميع) وفي وقت لاحق أتجه بعض افراد قبيلته والرعاة منهم الي كردفان سعيا الي المراعي وعرف هؤلاء (بالجموعية) نسبة الي جدهم (جموع) ولد الزبير بالقرب من الجيلي في العام 1831 فحفظ القرآن يافعا ونهل من العلوم علي أئمة وعلماء عصره ثم أتجه الي التجارة وكان له عدد من الورش (النسيج-الحدادة) الصغيرة يتاجر في أنتاجها. أشتري الزبير مجموعة من العمال وقام بتدريبهم علي إدارة أعماله وورشه فضمن لنفسه انتاجا وفيرا انتعشت به تجارته وبدأ بتسيير قوافله التي كانت تحمل الذهب والنحاس وريش النعام وسن الفيل وجلود الحيوانات الي مصر وتعود الي السودان محملة بالملابس والخرز والسلع الإستهلاكية والسلاح والذخيرة . ولتأمين قوافله التجارية لجأ الزبير الي تدريب اتباعه علي استخدام السلاح فكان يؤمن لعماله سبل الحياة الكريمة وخصص لهم الاعطيات حتي يضمن ولائهم . سعي الزبير الي تعويق تجارة الرقيق بين السودان ومصر بشراء مجموعات المهنين والمقاتلين المرسلة الي مصر وجعل منهم قوة محاربة منظمة أطلق عليها (البازنقر) لان العرب كانوا يطلقون علي الزنجي (زنقر) ويري البعض أن أصلها (بازنجي) أي الزنجي العظيم تم اطلاق هذا الاسم علي جنود الزبير بهذا الاسم لاستمالتهم ورفع معنوياتهم ولاتزال هذه الكلمة مستخدمة حتي اليوم بعد أن تم بعض الابدال فيها فأصبحت (زنقد) وجمعها (زناقد) إلا أنها أخذت في التلاشي والانقراض .
لما كانت مناطق شمال ووسط السودان وشرقه تخضع للحكم التركي المصري ارتأي الزبير ان يقيم دولته بمنأى عن مناطق نفوذ الاتراك تجنبا للصدام معهم مما يقوض حلمه . فتوجه بجيشه تلقاء الجنوب حتي توغل في بحر الغزال فتمت له السيطرة علي بحر الغزال وجنوب دارفور وخضعت له القبائل في هذه المنطقة الشاسعة وأتخد من (ديم الزبير) عاصمة لدولته.
لم يغب عن ذهن الزبير الخطر المحدق بدولته جراء توغل الاستعمار الاوربي الي داخل القارة فاراد ان يستند الي قوة تمكنه من الأبقاء على دولته فعرض علي السلطان العثماني ان تتم الفتوحات باسمه وتحت العلم العثماني المصري وتأكيدا لجدية عرضه ارسل له مبلغ خمسة عشر الف جنيه عن طريق واليه في مصر إلا أن سلطان تركيا أهمل عرض الزبير بإيعاز من خديوي مصر وقوي الاستعمار وأياديه وإن كان قد قبل الجزية . إلا ان الزبير أنطلق بمواهبه الفذة في توطيد دعائم حكمه فتزوج ابنة زعيم قبائل بحر الغزال وأوعز لمعاونيه وافراد جيشه علي الزواج من الدينكا والفرتيت دعما لسلطته . جلب الزبير رجال الدين وحفظة القرآن والحرفيين والمهنين لنشر الاسلام بين القبائل الوثنية وتعليم ابنائها سبل كسب العيش الكريم وتطوير حياتهم . حقق الزبير الأمن والاستقرار فأنضم إلي جيشه أشد مقاتلي كردفان أمثال الزاكي طمل وحمدان ابو عنجة ويونس ود دكيم الذين أصبحوا فيما بعد من أشهر القادة في دولة المهدية ومعهم عدد كبير من عرب الرزيقات تكونت منهم قوة عسكرية شكل منها الزبير اربعة وحدات مشاة مقاتلة شكلت أول جيش نظامي بالسودان في تلك الفترة . اقتبس الزبير نظم وطرق تدريب الجيش التركي أعانه علي ذلك صديقه رابح فضل الله بما أكتسب من خبره عندما كان ضابط صف بجيش الخديوي فبلغ الجيش مبلغا متقدما في التنظيم فأنشئت له فرقة موسيقي عسكريه وأصبح له زيه الرسمي ورتبه.
كما انشأ الزبير معهدا دينيا لتعليم علوم الدين واللغة العربية قام علماء من الأزهر بالتدريس فيه . فأصبحت حاضرة دولته في مصاف مدن السودان الكبري وقتها . كما اهتم الزبير بالزراعة والصناعة فانشأ مزارع جماعية جلب لها البذور من شمال السودان ومصر . واسس بيتا للمال تأتي موارده من تجارة الوارد والصادر والضرائب المفروضه علي التجار والوافدين . لم يفرض الزبير نظام الضرائب المباشرة علي رعايا دولته مما اكسبه حبهم وولاءهم .
ظلت سلطنة دارفور حتي العام 1874 عصية بعيدة المنال عن الحكم التركي المصري الذي أراد ضمها لتكون جزء من امبراطوريته إلي ان استطاع الزبير اقناع الإدارة التركية بفتح دارفور وضمها الي أرأضي السودان باسم السلطان التركي . فتحركت قوتان نحو دارفور الاولي قوامها 3600 من جنود الحكم التركي من الشرق صوب دارفور . والثانية فقوامها 10000 من قوات الزبير تحركت من الجنوب ليلتقي الجيشان علي مشارف دارفور . اتجه الزبير بقواته الي ان وصل دارفور بينما تأخر وصول الجيش التركي فدارت العديد من المعارك بين قوات الزبير وجيش سلطان دارفور (ابراهيم قرض) الذي قيل أنه تكون من ثلاثين الف مقاتل دارت معارك بالغة العنف والضراوة بين الجيشين كانت آخرها معركة (منواشي) التي استشهد فيها السلطان (ابراهيم قرض) وكان النصر فيها حليف الزبير بما أمتلكه جيشه من اسلحة نارية ومدافع فدخل عاصمة السلطنة (الفاشر) دون قتال في العام 1847 وجلس الزبير علي سدة الحكم في دارفور.
كانت الجيش التركي يتحرك ببطء مقصود لخطة مرسومة وضعها حكمدار السودان وهي ان لا يخوض الجيش التركي المصري اي معركة فترك الأمر للزبير يقاتل وحده فإن كتب له النصر جاء الحكمدار لإحتواء الغنيمة وإن خسر الزبير وحاقت به الهزيمة اصبحت دارفور هدفا سهل المنال للقوات الزاحفة بعد خروج جيش السلطنة من معاركه مع الزبير ضعيفا ومنهكا فيصبح بذلك لقمة سائغة يسهل التهامها .
كانت هذه أولي المؤمرات الخسيسة علي الزبير ودولته التي أراد لها أن تكون بناء شاهقا . أغري فتح دارفور شهية الزبير فتقدم بجيشه غربا لضم ديار التامة و المساليت وفتح مملكة (وداي) فاصدر السلطان التركي اوامره للزبير بالتوقف عن ذلك. لم يكن الزبير علي علم بما جري في مؤتمر المائدة الأفريقية بين الدول الأوروبية وتركيا. فلم يعد ممكنا أن تقف مكتوفة الايدي أزاء الخطر الذي يقوض أحلامها في استعمار البلدان الأفريقية فكانت بريطانيا وفرنسا أكثر الدول عداء للزبير ومشروعه.
لم يجن الزبير ثمرة جهاده الطويل فما ان استقرت ركائز حكمه علي بحر الغزال ودارفور ارسل إليه خديوي مصر برقية ماكرة يدعوه فيها الي مقابلته من أجل التفاكر حول تشكيل حكمدارية يكون الزبير حاكما عليها فاجتمع الزبير بمجلس حربه للنظر في أمر البرقية فاجمع المجلس علي عدم مغادرة الزبير للقاء الخديوي . لأنه أشتم رائحة المكر والغدر إلا ان الزبير رأي رأيا مخالفا وهو ان يسافر لمقابلة الخديوي . نصب الزبير أبنه سليمان خليفة له وغادر الي مصر وبصحبته قافلة قوامها ثلاثة آلاف بعير يقوم علي حراستها الف وخمسمائة من الفرسان .
اجتمع الخديوي ورجال دولته بالزبير اكثر من مرة لإقناعه بتوزيع قواته علي الوحدات الحكومية بالسودان إلا أن الزبير رفض هذه الفكرة تماما فما كان من الخديوي الا تحديد أقامته وفرض حراسة مشددة علي قصرة ومنعة من الإتصال بمعارفه وجنوده الذين تم اشراكهم في حروب لاناقة لهم فيها ولا جمل ( حرب القرم والمكسيك).
رأي الخديوي ومن وراءه بريطانيا ان تصفية قوات الزبير الحربية تتطلب قدرات أكبر من قدرة الجيش التركي المصري لذا لابد من استخدام الحيلة والدهاء فأوعزت بريطانيا لسلطان تركيا وخديوي مصر أن يتولي (غوردون) هذه المهمة بما حققه من نجاحات في الصين فتم تعينه حكمدارا علي السودان .
أرسل غردون جيشا لجب لتصفية جيش الزبير بقيادة (جسي الايطالي) فأذاقه سليمان ابن الزبير مرارة الهزيمة (في شكا) 1878م. وأدمي منخريه وهو يحاول مناطحة الصخرة الصماء. تم نفي الزبير بعد ذلك إلي جبل طارق بحجة انه حرض ابنه علي مواصلة التمرد والعصيان وجهز غوردون قوة اخري وفر لها كل أسباب القوة لأنجاح مهمته في القضاء علي جيش الزبير أوكل قيادتها لجسي إلا أن جسي قد دارت عليه الدائرة مرة أخري في معركة حامية قادها رابح فضل الله في منطقة (دارا) . لجأ غردون الي حيلة يوقع بها سليمان فأرسل إليه رساله مزورة بخط ابيه الزبير يطلب فيها من أبنه الذهاب الي الخرطوم لان الخديوي قد عفي عنهما واعتزم تعينه حاكما علي السودان لذا فعليه بالاسراع الي الخرطوم وانتظار أوامره واوامر الخديوي . تحرك سليمان بعد أن عين رابح قائدا علي جيشه مع عدد قليل من اقربائه تحرسهم قوة صغيرة من الجيش التركي بقيادة جسي الموتور المملوء غيظا وحقدا علي سليمان وما أن سار سليمان لعدة ايام اصدر جسي أوامره بوضعه في الاغلال هو من معه ثم أصدر أمره لقواته بتصفيه سليمان وأتباعه .
وقع خبر مقتل سليمان علي الزبير كالزلزال المدمر فوقع فريسه لمرض استمر ثلاثه أشهر وقضي علي ركائز الصداقه بينه وبين غوردون . أفلت رابح فضل الله من مكر الإنجليز وأتجه بقواته وعتاده الي أقصي الغرب وأخذ يخضع السلاطين والقري والبوادي واضعا نصب عينيه أهداف صديقه الزبير في ان يقيم للاسلام دولة في مجاهل افريقيا فطوي بجناحيه البلاد فبلغ (سلطنتي كانم والباقرما) ووقفت قواته علي ضفاف نهر (الشاري) .
هنا قرر القائد المحنك الذي قهر المستحيل وذلل الصعاب ان تستجم قواته وترتاح من عناء السفر الطويل والجهاد فاقام لقواته معسكرا اطلق عليه (انجمينا) أصبح لبنة وقصبه لدوله اسلامية وعاصمة لإمبراطورية سودانية وراء الحدود وهكذا تحقق الحلم ونمت في رحم افريقيا دولة ازدهرت وذاع صيتها.
الا ان دول البغي والإستعمار كشرت عن انيابها متربصة بالدوله الوليدة التي كان يراد لها ان تبلغ الكاميرون فما كان لها أن تبقي طويلا والخير دوما يخسر مواقع له في كل حين . ارسلت فرنسا جيشا عظيما مزودا بالعدة والعتاد بقياده الجنرال ( لامي) للقضاء علي رابح وقواته ودولته فنشبت معركة في العام 1900م . هلك فيها الجنرال لامي واستشهد فيها رابح وخلق كثير من قواته واتباعه .
حاول الفرنسيين طمس المجد الذي شاده رابح فكان ان غيروا عاصمة دولته من (انجمنيا) إلي (فورت لامي) تخليدا لذكري قائدهم الهالك واصبحت تشاد مستعمرة فرنسية ترسف في أغلال العبودية والقهر . ألا ان اسم رابح ظل محفورا في افئدة ووجدان أهل تشاد رمزا للفداء والايمان فما كان من أهل تشاد بعد ان نالوا استقلالهم وحريتهم إلا ان أعادوا الاسم القديم لعاصمة دولتهم وبقيت ذكري رابح وسيرته خالدة في العالمين ويكفي هذا القائد العظيم الذي شاد للاسلام دولة في أحشاء افريقيا ان وضعه أعداؤه في مصاف ابطالهم القوميين فاطلقوا عليه لقب نابليون الاسمر.
اما الزبير قائده ورفيقه في الجهاد فقد اطلق سراحه في عام 1903 فعاد الي الخرطوم واستقر بالجيلي حتي وافته المنية في 1913م.
التعليقات (0)