في حلقة بائسة من مسلسل الهوس والتعصب الرياضي المغمس بالاندفاع العاطفي اللامدروس تجاه الاخر..أثار احتكاك معتاد وطبيعي في مثل هكذا لقاءات بين لاعب فريق الهلال السعودي لكرة القدم، ميريل رادوي، ونظيره النجراني، علي الصقور، ضمن لقاء الفريقين الأربعاء الماضي، فوضى عارمة في الملعب، تخللتها هتافات طائفية من قبل الجماهير الهلالية تجاه الجماهير النجرانية واصفة اياهم بأنهم "زيود يمنيون"، مما أثار غضبا كبيرا وجدلا واسعا ضمن الوسط الرياضي بالبلاد.
ورغم ان هذه الحادثة ليست الاولى التي تبدر من جماهير الهلال ..حيث سبق ان رددت الجماهير الهلالية هتافات عنصرية ضد نادي الإتحاد السعودي ولاعبيه مما حدا بالاتحاد السعودي وقتها الى أصدار قراراً بنقل مباراة لنادي الهلال إلى ملعب الفريق الخصم ..ولكن الخطورة انها هذه المرة تمس بصورة مباشرة بالدين والمعتقدات والانتماءات المناطقية باعتبار ان مدينة نجران الجنوبية تضم بعض الفئات المنتمية إلى الطائفة الزيدية الشيعية،ووقوعها في المنطقة المحاذية جغرافيا لليمن.
ومما يزيد من حساسية الحالة هو التقليل غيرالمبرر من قبل رئيس نادي الهلال سمو الاميرعبد الرحمن بن مساعد من خطورة هذه الممارسات رافضا اي نوع من العقوبات قائلا ان الهلال ليس جدارا قصيرا.. رغم تاكيدات الاتحاد الدولي لكرة القدم على ضرورة اتخاذ مواقف صارمة ضد العنصرية في ملاعب كرة القدم ..حتى ان رئيس اتحاد الكرة الأوروبي الفرنسي ميشيل بلاتيني دعا صراحة الى الغاء المباريات التي تتردد فيها عبارات عنصرية..حيث قال:"نريد إيقاف المباريات ولو لمدة عشر دقائق إذا سمعت هتافات عنصرية في الملعب كما يجب أن يعلن داخل الملعب أنه إذا استمرت الهتافات العنصرية، ستلغى المباراة".
وهنا قد يكون من الصعوبة بمكان الجزم بمدى الالم والدموع وانقباضات القلب الآسفة التي سببتها العبارات العنصرية الصادرة عن جماهير نادي الهلال السعودي تجاه مواطنيهم من مشجعي نادي نجران ..وقد لا يعلم الزاعقون بالكم المخيف من السحب القاتمة التي ينشرونها بحناجرهم الهاتفة بما لا يليق في افق الصفاء والوئام المجتمعي..ومدى الضرر الهائل الذي تحدثه مثل هذه الافعال اللامسؤولة في بنية وركائز المجتمع..
ان ظاهرة العصبية والعصبية المضادّة في الرياضة واستجلاب التقاطعات بين افراد المجتمع الواحد من خلالها.. والنظرة الدونية تجاه الأقليات العرقية والإثنية والمعتقدية المتآخية تاريخيا في مجتمعاتنا والمتمتعة بكل شروط المواطنة ،وتمدد تلك المعطيات من خلال التعتيم والتهوين المتواطيء وما ينتج عن ذلك من استعلاء عنصري وتنكيل وأحيانا صراعات دموية وإنكار حقوق الأخر،يعد تحت اكثر المسميات تسامحا جوهر واساس الموقف العنصري المقيت..
وهذه الممارسات تميط اللثام عن التوجه الماساوي الذي لا مخرج منه في استسهال النشر المنظم لثقافة الكراهية والتهميش والتمترس ضد الآخر والتي تعرقل المسير في الدروب التي خطها المعتاد من ايامها..وتجعلنا نتلمس بوجل شيئا فاجعا وملبدا ومحملا باحساس المواطن المغروس بقوة في هذه الارض رغم عدم رسوخها تحت اقدامه..والاستحالة المأساوية لتحقيق مثل هذا الانتماء.
ان سياسة الالحاح في التداخل مع التقاطعات المذهبية في اكثر من مكان واضفاء الاولوية المطلقة على التضييق الطائفي..والعمل على تحويل الانتماءات الوطنية والمجتمعية الى انتماءات معتقدية ..مع الاطمئنان المتكيء على التثقيف الطويل للمجتمع بانه لا يصلح له الا التمذهب كمنهج واسلوب حياة وانه من دونها لا يعد ان يكون الا حثالة او سقط متاع ..مثل هذه السياسة العرجاء تحمل معها بذور ارتدادها المدمر والكاسح الى نحور صناعها ومروجيها لتعارضها مع المسار المنطقي والحتمي لحركة التاريخ..فمن غير المعقول – الاقرب الى العبث – ان تبني مجتمعا متبنيا لفلسفة دينية معينة على انقاض قطاع مجتمعي معتنق لنفس الدين..
والعنصرية..بصفتها توكيدا زائفا واستعلائيا بصورة مبالغ بها للذات..لا بد لها ان تقود المجتمع الى دهاليز النفي والاقصاء المظلمة ..والى القهر كنتيجة لا مناص منها..وهؤلاء الذين يسلكون هكذا ممارسة فجة هم الذين يسيئون الى حرية الضمير الديني وحرمة الروح الانسانية ..وهم الحملة الاصلاء لمعاول هدم المجتمع من اساسه البنيوي الراسخ..وهم بناة ورافعي جدران الكراهية المقيتة التي تطوق المجتمع وتقسمه الى شيع وطوائف متناحرة من الداخل..الأمر الذي يحتاج الى جهود كبيرة لتطهير الشعوب من عوامل فناءها وتفككها من خلال البحث الميداني السوسيولوجي والأنتروبولوجي، واعتباره جزء اصيل من اهتمامات ونشاطات مراكز الأبحاث المتخصصة على امتداد منطقتنا العربية.
حيث ان جسامة المشكل وخطورته يحتم علينا العمل على إحراز تقدم مستمر في عملية الحداثة المجتمعية، على مختلف الأصعدة والمستويات، لكونها الضامن لصيرورة المجتمعات الحرة وتلاشى الموانع بين افرادها ..تلك الموانع المتمثلة بالعنصرية والنفي والاقصاء . وهذا ما تفتقده مجتمعاتنا العربية التي ما تزال تعيش - على المستوى البنيوي - في ظلّ اشتراطات زمن ما قبل التنوير ,رغم كلّ مظاهر التحديث المقنعة والزائفة التي نتلمس قشورها في الراهن المعاش من ايامنا..
ومثل هذه الاهداف لن تتحقق دون الانتصار للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان كائنا من كان. وظهور حركات سياسية ليبرالية ويسارية نشطة، تستطيع تحريك الشارع وتخليق حوارات بناءة حول هذه المسائل. وتبني النظريات والأفكار الجديدة التي تتمحور حول مشاكل الإنسان المعاصر ونزوع الفرد المستقل فيه الى التحرر والانعتاق.
التعليقات (0)