الرواية والرواية الأخرى لعيد الفصح اليهودي.. بقلم دانييل هرتمان
ان خروج الشعب اليهودي من مصر زمن موسى وفرعون ليس مجرد حدث يعود الى الماضي السحيق.. بل هو ذاكرة حية لها بالغ الأثر على تشكيل نمط حياتنا وهويتنا في زمننا الحاضر.. في كل عصر وزمان يتوجب على كل شخص ان يرى في نفسه انسانا خرج من مصر.. لكن الذاكرة تظل أداة خادعة.. ذاك لاننا لا نتذكر الوقائع بشكل مجرد ومحايد بل نشارك بشكل فعال في تشكيلها.. فنحن الذين نختار القصة التي نحكيها.. وماذا نتذكر من مصر.. وما الذي نأخذه من هذه الذاكرة لصياغة الحياة اليهودية في حاضرنا...
والحكاية تحتمل اكثر من وجه ورؤية.. وكل رؤية تنفرد برواية وعبرة خاصة بها.. أما الرؤية السائدة فتصف خلاصنا من مصر باعتباره قصة تفضيل الشعب الاسرائيلي بكافة أبعادها : العبودية والمعاناة التي واجهها شعبنا في مصر، والاله الذي يتذكر عهده، ويمد لنا يد العون بمحبة ظاهرة، وينقذنا ببأس شديد، ويضمنا اليه جاعلا ايانا شعبا يعيش باستقرار على أرضه (حيث أخذ الله بيدكم وأخرجكم من فرن الحديد من مصر ليجعل منكم أمة آمنة مطمئنة في ارضها. توراة: سفر التثنية: 4 : 20)...
نفوسنا دوما تشرأب زهواً وألقاً ازاء هذا النصر.. ونشعر بالفخر والاعتزاز بعد ان أعزّنا الله وأكرمنا بهذه السيرة الكريمة.. هذه السيرة التي ظلت عونا لنا في عصور الشتات الحالكة، حين كنا ننتظر كل مرة من جديد لحظة الخلاص.. وهي التي جعلتنا نفخر بانتماءنا كجماعات يهودية حين كانت الظروف السياسية التي تحيط بنا من كل جانب تشعرنا وكأننا أصبحنا فريسة للآهات..
ومع تنامي حريتنا وتبوأنا منزلة عالية بين الامم بعد قيام دولتنا وبعد ان صرنا أمة تضاهي الامم الغربية في نظر العالم الغربي، أصبح هذا الفخر الذي لازمنا منذ أمد بعيد حافزا لسعينا الدائم الى التميز، وصار وعينا الذاتي صورة طبق الاصل لمنجزاتنا.. لقد غرست بنا المكرمة الالهية اياها شعورا بالعزة والأنفة، ونزعة جامحة الى التميز لدرجة ان أي منزلة أقل من التميز صارت تقع على طرف نقيض من اليهودية...
لكن ثمة بعد ظلامي يرافق هذه الرؤية.. فحيثما تكون الأنفة والكبرياء يكون الغرور.. وبدلا من أن يشكل تميزنا وتفضيلنا حافزا للانجازات، فانه قد يولّد لدينا شعورا بامتلاك الحق المطلق.. وقد تصبح المحبة الالهية سببا في الاحساس بالتفوق وبالتالي الاستخفاف بمن هو ليس منا...
اما هذا الاخير فله جذور في تقاليدنا.. فلطالما كانت سيرة الخروج دافعا للشعور بفضل اليهود على غيرهم.. هذا الشعور الذي وجد طريقه الى رواية عيد الفصح "هاغاداه" متمثلا بصلاة (اللهم أرنا غضبك بهم..).. (اللهم أرنا غضبك بأولاءك الذين لم يعرفوك وأولاءك الذين لم يذكروا اسمك. مزامير : 79).. عندما نسرد حكاية الفصح "هاغاداه" في عيد الفصح علينا ان نقر بهذا الجانب ايضا.. لان تجاهله سيؤدي الى تهالك نفوسنا واتلاف ارواحنا... ان تشخيص اعراض المرض لهو السبيل الوحيد الى القيام بخطوات عملية لتحسين فرص الشفاء...
هذا الشفاء الذي لا يتحصّل عن طريق تفضيل الرؤية التي تضع في محورها موضوع نجاتنا وانتصارنا، بل بابراز عناصر العبودية وسيرتنا المتواضعة كسمة غالبة على تاريخنا في مصر.. وعلى الرغم من عدم ادراج هذه الاخيرة ضمن ال "هاغاداه" الا ان ذلك لا ينفي أثرها البالغ على القضاء اليهودي.. وللمثال نذكر بان آيات من قبيل (أحب الغريب لانك كنت غريبا على ارض مصر) تتكرر، باشكال مختلفة، اكثر من 20 مرة ولا تتفوق عليها من حيث العدد سوى الآيات التي تستهلها عبارة (وقال ربك يا موسى..)..
فاذا كان البعد الاول يربطنا ببني قومنا من يهود، فان هذا الاخير يضعنا مباشرة في قائمة الشعوب المضطهدة.. فهو يضفي على كبرياءنا مسحة من التواضع.. على نحو ينزع عنا الغرور والشعور بالحق المطلق.. وبالتالي يكون الحافز الذي يدفعنا نحو تحقيق المزيد من الانجازات قد نحا منحى آخر ليس باتجاه تحقيق مكاسب ذاتية فحسب بل ، وخصوصا، باتجاه تلبية حاجات المظلومين والمسحوقين من البشر..
واذا كانت صلاة (أرنا بهم عجائب غضبك..) تحمل بين جنباتها وجها ظلاميا، فعلينا ان نتذكر ان ال هاغاداه تبدأ بعبارات من قبيل :
ها هو خبز الفقير الذي كان طعام أجدادنا في مصر... فليأت كل جائع ويأكل معنا.. وليأت كل محتاج ويحتفل معنا.. هذا العام في المنفى.. والعام القادم في ارض اسرائيل.. هذا العام بصفتنا عبيدا.. والعام القادم أحرارا في ارض اسرائيل..
حري بهذه الفقرة ان تكون جوابا شافيا ومفحما لكل ما سبق.. علما ان كلاهما جزء من روايتنا.. فعلينا ان نحدد الرؤى.. والمواقف.. في الماضي كنا عبيدا.. لكننا اليوم أحرارا.. ونملك القدرة لنختار بين الخير والشر.. وبمقدورنا ان نظهر لانفسنا وللاخرين بان الكبرياء وصفة التفضيل لا تقودان الى الغرور والى التنكر لاحتياجات وحقوق الغير.. بامكاننا تحديد الرؤية التي تعكس هويتنا كشعب.. ففي هذه ايضا يجب ان تقف اليهودية على طرف نقيض مقابل أي حل لا يكون كاملا..
الكاتب هو رئيس معهد هرتمان للسلام
يديعوت احرونوت 14.4.2011
التعليقات (0)