هل يمكن القول بوجود رواية في الجزيرة العربية، لها ملامحها الخاصة، التي تعكس جملة الهموم والقضايا التي تشغل الانسان في هذه المنطقة، وماذا عن الفنيات والجماليات التي تتعاطى معها هذه الرواية إن وجدت، وإلى أي حد يمكن لهذه الفنيات أن تجعل مما يكتب في الجزيرة العربية تحت مسمى رواية فعلاً وليس مجرد تصنيف لأي كتاب يعتمد السرد والحكاية؟ وكيف يمكن لهذه الرواية أن تتقدم جمالياً أكثر مما هي عليه الآن، وأن تقارب مواضيعها في شكل بعيد عن المباشرة وأن تخوض في قضايا حساسة من دون أن تفقد صفتها كرواية؟ وهل في الإمكان القول إن الرواية في الجزيرة العربية أضحت ترفد الرواية العربية في شكل عام؟ وما آية ذلك؟ وكيف يمكن دفع الآخرين إلى الاعتراف بها؟ وهل ثمة وشائج تربط في ما بين أجزاء هذه الرواية في هذا القطر أو ذاك، وهل يمكن اعتبار الطفرة الروائية في السعودية تقدماً وتطوراً ونضجاً للرواية التي تكتب في الجزيرة العربية بشكل عام؟ وأخيراً ما التحديات التي تواجه هذه الرواية؟
أسئلة كثيرة تلح على الحضور، مع قرب انعقاد ملتقى النص، الذي ينظمه نادي جدة الأدبي، وكرسه حول الرواية في الجزيرة العربية. حسناً فعل نادي جدة الأدبي، عندما خصص هذه الدورة من الملتقى السنوي، حول هذه الرواية تحديداً، ولم يجعله عائماً، الأمر الذي بالتأكيد سيوفر دراسات مهمة وأبحاثاً تستقصي جماليات الرواية في الجزيرة العربية، وانشغالاتها، سواء على صعيد المواضيع أو التقنيات الفنية. هنا شهادات لعدد من النقاد والروائيين سعوديين وكويتي وبحريني ويمني:
رواية منظومة الدول الخليجية
يقول الروائى الكويتي طالب الرفاعي: نعم، يمكن القول بشكل واضح بوجود رواية عربية في منطقة الجزيرة العربية، وأنا أقصد هنا رواية تخص منظومة الدول الخليجية، وتحمل ملامحها ونبضها وهمومها. فالكتابات الروائية الخليجية الجادة، تمثل مجتمعاتها، وتقدم صورة واضحة عن الحراك الاجتماعي المتفاعل والمحتدم فيها. ويمكن الوقوف على هذا بسهولة، من خلال أعمال الكثير من الروائيين الخليجيين، في السعودية والكويت والبحرين وعمان والإمارات.
وأعتقد أن الزمن قد تجاوز التشكيك بوجود الرواية العربية في منطقة الخليج، من خلال أسماء روائية تنتمي لهذه المنطقة، وأثبتت وجوداً روائياً عربياً مشهوداً، أمثال: إسماعيل الفهد ورجاء عالم وتركي الحمد وعبده خال، وليلى العثمان وأميمة الخميس وطالب الرفاعي ويوسف المحيميد وبثينة العيسى وميس العثمان ومحمد حسن علوان ووليد الرجيب وليلى الجهني وبدرية البشر، وغيرهم الكثير.
أما عن الفنيات التي تتعامل معها هذه الرواية، فهي بالضرورة فنيات ومتطلبات جنس الرواية، إن من خلال الشكل أو المضمون، مع التأكيد على وجود البيئة الخليجية كمكان، وخصوصية المجتمع الخليجي بحراكه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، كثيمة حاضرة في هذه الأعمال. ثم ان الحكم بمدى أحقية أي عمل أن يكون رواية، هو حكم سهل وواضح، للنقاد والدارسين أولاً، ولجمهور التلقي ثانياً، بعيداً عن التطبيل والنفاق الإعلامي والصحافي الكاذب والرخيص. نعم، هناك وشائج تربط أجزاء الرواية في القطر الواحد، وتتمثل هذه الوشائج أساساً في كونها تنطلق من المكان نفسه، وتستخدم الواقع الاجتماعي كجذر لأعمالها، وبدرجات متفاوتة. ما يجعلها في مجملها تشكّل أجزاءً للوحة كبيرة ملونة. وربما امتدت هذه الوشائج لتشمل مشهد الرواية العربية من منطقة الخليج. أما الطفرة الروائية السعودية، فأنا أرى أن ذلك أمراً طبيعياً، في ظل تغيّر الواقع الكوني الإنساني، وانفتاح العصر، وثورة المعلومات والاتصال وعصر الإنترنت، وأن الزمن قادر على غربلة هذا الإنتاج الروائي وإبقاء الجيد وإقصاء الرديء.
كما أنني أرى في هذه الفورة الروائية السعودية، شأناً جيداً سواء داخل المملكة أو الساحة الخليجية أو الساحة العربية، فما الضرر من إصدار العديد من الروايات، وبمختلف النكهات، فوحده الأدب الحقيقي والمبدع، قادر على الصمود، وما غير ذلك فإن مصيره إلى زوال.
عدم الوصول إلى القارئ
ويؤكد الناقد حسن النعمي: ما من شك أن للرواية في الجزيرة العربية حضوراً بيناً، ولعل من أهداف ملتقى قراءة النص لهذا العام هو الذهاب بعيداً، في محاولة استكشاف جماليات وخطابات الرواية في الجزيرة من خلال نخبة من الأقلام المحلية والعربية. وتختلف مقايسس الجودة الفنية من رواية إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.
ولا يمكن التأكيد على جودة مطلقة لكل ما ينكتب في جنس الرواية. فهناك أنصاف كتاب، ومنهم مدعو كتابة، وبين هؤلاء من يقدم نفسه كاتباً يستحق القراءة والمتابعة. وحقيقة هناك العديد من الأعمال المنسوبة للرواية ضعيفة، خصوصاً في الرواية السعودية التي أصابتها طفرة استثنائية بعد عام 2000. وهذا أمر طبيعي لأسباب بعضها يتعلق بالإعلام، وبعضها يتعلق بغواية الرواية ومفهوم قدرة الرواية على قول كل شيء من دون مراعاة أحياناً لاشتراطات الفن الروائي. وهو ما جعل العديد من الصحافيين والشعراء يهجر حرفته لكتابة الرواية وبصورة أحياناً رديئة. من جهة أخرى، فالإبداع لا سقف له، ولا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يصل إليه. أما تقاطع الجمالي مع الموضوع أو مضامين الخطاب فهي مهمة شاقة حقاً.لأن من ضرورات التعبير الروائي التجويد الجمالي، فلا يجب أن ينجرف الكاتب إلى مباشرة مفرطة تحت دواعي الكشف وهتك المستور. فطبيعة الأدب من حيث شكله وجمالياته مقدمة على مضامينه، ونظرية الأدب تذهب بعيداً في التأكيد إلى أن أهم وظيفة يقدمها الأدب عموماً هي أن يكون أميناً لطبيعته. فالوفاء للجماليات قيمة بذاتها على الكتاب الاعتناء بها والانحياز إلى طبيعتها. وما من شك أن الأدب في الجزيرة العربية عموماً والرواية خصوصاً، جزء مكمل للصورة الأكبر في الأدب العربي. غير أن المشكلة تكمن في عدم وصولها إلى قارئها العربي بشكل جيد من ناحية، وعدم حرص القارئ العربي الناقد على وجه الخصوص على التعرف عليها. فأين هي المشكلة؟ لا شك أنها مشكلة مزدوجة يتحملها الطرفان. ومررت بتجربة غريبة خلال التحضيرات لملتقى قراءة النص الذي ينظمه نادي جدة الأدبي في شهر آذار (مارس) 2009 عن الرواية في الجزيرة العربية. فقد اتصلت بالعديد من النقاد العرب واعتذر معظمهم بحجة أنهم لم يطلعوا على الرواية في الجزيرة العربية، ولم يستجب للدعوة سوى ناقدين، هما الناقد الدكتور سعيد يقطين والناقد الدكتور عبدالله إبراهيم. ماذا يعني ذلك؟
تشابه وتكرار في مستويات عدة
ويرى الناقد صالح زيّاد إنه: تتشارك منطقة الجزيرة العربية في العطش إلى التعبير وفي الرغبة في تمثيل الواقع الثقافي الاجتماعي من زوايا الموقف تجاه المرأة التي لا تزال ترسف في قيود التجهيل والدونية وتعاني من مركزية الذكر واستبداده، والموقف تجاه المطلقات بأنواعها ومستوياتها، والموقف تجاه الآخر الإثني والديني والجغرافي، الذي ألفت منطقة الجزيرة بنسب متقاربة توارث قدر من التوحش منه والجفاء له وعدم القدرة على تقبله أو الحوار معه. إضافة إلى ما يصطرع به زمن المنطقة الثقافي والاجتماعي من تحولات وانكسارات عميقة تُخْرِج إنسانها من حياة الانغلاق والإلف والرتابة وتقذفه في مدار قلق وتوتر وأسئلة تجاه أشياء عدة ألفتها الأجيال واستسلمت لها.
ولا شك أن ثقافة الجزيرة العربية لا تنفصل في هذه الوقائع والمعاني عن الثقافة العربية في مجملها، لكنها تأخذ خصوصية كمية ونوعية من درجة التقليد فيها، ومن مقدار انفتاحها على العالم، ومن توارث سلطات زمنية أو ثقافية أو اجتماعية لا تسمح للفردية بالبروز ولا للكينونة بالمسؤولية الوجودية. وقد تبادل الفقر الطبيعي والثقافة الأسباب والنتائج التي أسهمت في زيادة رقعة الجهل والأمية لمدى زمني طويل، ومن هنا يأخذ المثقف العربي من أبناء الجزيرة العربية خصوصية بيئية تعظِّم في إنتاجه أشواقه إلى معان معينة بقدر ما تؤكد مواضيع وتقنيات وأساليب محددة. والرواية في الجزيرة العربية، سواء في السعودية أم في دول الخليج واليمن -إجمالاً- لا تحتوي على أسماء كثيرة كبيرة إبداعياً، على رغم كثرة الأسماء التي تكتب الرواية لا سيما في المملكة. وإذا استثنينا عبدالرحمن منيف فليس في الجزيرة العربية كلها اسم روائي في مستوى نجيب محفوظ أو الطيب صالح، وليس لدينا اسم يشبه امتياز إبراهيم الكوني أو حنا مينه أو غسان كنفاني أو ربيع جابر أو سليم بركات... إلخ
وبالطبع فليس هناك صفة محددة للرواية الجيدة، والرواية بطبيعتها جنس أدبي مفتوح على الابتكار المستمر، ولهذا يصف الناقد ميشيل ريمون الرواية بأنها «جنس بلا قانون». ولعل أبرز ما يمكن أن يكتشفه القارئ العادي من صفات الضعف في الرواية هو التشابه والتكرار في مستويات عدة، ودخول نغمة خطابية وتوجيهية مباشرة. ويبدو أن صعود الفكر النقدي في المجتمع وتبلور مفهوم ناضج للذات في علاقتها بالعالم، وهما المهاد الذي يلد فيه وعليه جنس الرواية، لم يبلغا في مجتمعات منطقة الجزيرة العربية الدرجة التي تتحول بما يكتب فيها من رواية إلى هم الابتكار السردي والعمق والقدرة على الاختلاف. وأعتقد أننا لابد أن نعتد بأسماء سعودية ويمنية وخليجية حققت درجات جيدة من الابتكار والتميز ومن الجرأة أو القدرة على البساطة والولوج إلى مناطق غنية بالاكتشاف ومن زوايا مدهشة ومشوقة، وسأذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، رجاء عالم وتركي الحمد من السعودية وزيد مطيع دماج من اليمن وإسماعيل فهد إسماعيل من الكويت وفاطمة الشيدي من عمان وغيرهم.
تحليل طبقات العزلة :
يؤكد الروائي االيمني وجدي الأهدل إنه: لا يمكن لأحد أن ينكر الأهمية الفائقة للرواية التي تكتب في الجزيرة العربية، هذه البقعة الجغرافية التي تعد الأكثر انغلاقاً على نفسها في عالم اليوم. فن الرواية لديه ميزة تفكيك هذا الانغلاق التاريخي، وتحليل طبقات العزلة التي تغلف مجتمعاته. ماذا فعل الروائيون المنتمون للأقطار السبعة في الجزيرة العربية؟ لقد قاموا بتدوين كل تلك الأشياء البسيطة والصغيرة المنسية سهواً أو عمداً، ووثقوا التفاصيل النفسية الدقيقة التي غفل عنها التاريخ.
إن رواية «ساق الغراب» تقدم مكاشفة إنسانية عميقة لعالم قديم شيده الأسلاف بأرواحهم ودمائهم، وقد تقوض بفعل حدث تاريخي طارئ. الملمح نفسه يتكرر ولكن من زاوية رؤية مختلفة، ومعالجة فنية متمايزة، نجدها في روايات: «تبكي الأرض يضحك زحل» للعماني عبدالعزيز الفارسي، «الحزام» للسعودي أحمد أبو دهمان، «الهيرات» للبحريني عبدالله خليفة، «قنص» للسعودي عواض شاهر العصيمي، «المكلا» لليمني صالح باعامر ، «الأوصياء» للسعودي فهد المصبح.
ونلاحظ أن ثيمة «العادات والتقاليد» تنهض عند هؤلاء الكتاب كاستراتيجية لبناء النص الروائي. نشعر ونحن نقرأ هذه الأعمال، أن مؤلفيها يخوضون حرباً شرسة للفوز بهويتهم، والاتصال بجذورهم الضاربة في أعماق الأرض.هناك ملمح خاص آخر للرواية في الجزيرة العربية يتمثل في ثيمة «صعوبة الاندماج الاجتماعي». وبما أن سكان الجزيرة العربية أتى معظمهم من الأرياف أو الصحارى، فإنهم عندما سكنوا المدن، ظلوا يحملون بين جوانحهم تلك الأبعاد والمسافات التي تفصلهم عن غيرهم، فعاشوا في عزلتهم الخاصة، على رغم التجاور الجغرافي اللصيق في المدن. تفصح رواية «بنات الرياض» للسعودية رجاء الصانع فقدان التواصل الاجتماعي الحميم بين أفراد مجتمع المدينة، واقتصار الفرد على الاتصال بمحيطه العائلي المحدود. ومما له دلالته، أن رواية «بنات الرياض» قامت في بنائها الروائي على مراسلات البريد الإلكتروني. ونجد الثيمة نفسها في رواية «طعم أسود رائحة سوداء» لليمني علي المقري. تتكلم رواية المقري عن طائفة الأخدام التي تعاني من التمييز العنصري، وفصلها فصلاً تاماً عن بقية السكان، ومنع رجالها ونسائها من الاختلاط بالمجتمع اليمني.. وهي ظاهرة غريبة وما زالت مستمرة حتى اليوم، هناك أشكال أخرى لثيمة (صعوبة الاندماج الاجتماعي) يلعب عليها الروائيون.. فمثلاً تناقش رواية «تصحيح وضع» لليمني أحمد زين وضع العمالة المهاجرة ووقوعها في هامش لا إنساني.
وكذلك رواية «نباح» للسعودي عبده خال التي تشتغل على ثيمة (صعوبة الاندماج الاجتماعي) في شكل علاقة حب مستحيلة بين شاب سعودي وفتاة من اليمن. وتأتي ضمن هذا السياق رواية «المحاكمة» للكويتية ليلى العثمان، اذ نجد نموذجاً تقدمياً للمرأة في الجزيرة العربية وقدرتها على التفوق والإنجاز. إن ثيمة «صعوبة الاندماج الاجتماعي» تظهر بصورة أكثر وضوحاً في الأعمال الروائية المكتوبة بأقلام نسائية. أعتقد أن تحليلاً أوسع للنصوص الروائية، سيقودنا بكل تأكيد إلى اكتشاف المزيد من الملامح الخاصة (الثيمات) التي تميز الرواية في الجزيرة العربية
هلا الجهني-جده-الحياة
http://aljsad.net
التعليقات (0)