مواضيع اليوم

الرواية العربية المنسية : البق و القرصان لعمارة لخوص

kamel riahi

2009-01-08 10:59:00

0

 

كمال الرياحي

 

لم يعد من الممكن إطلاقا أن نتصوّر الأدب بمثابة فن قادر أن يستغني عن أيّة علاقة باللغة.

رولان بارث

 

 

أعمال الروائي الجزائراي المهاجر عمارة لخوص صوت من الأصوات الروائية التسعينية الواعدة التي ظهرت في الجزائر والتي تبشّر بمستقبل جديد للرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، وتمثّل روايته البكر "البق والقرصان" الصادرة في إيطاليا سنة 1999 باللغتين العربية والإيطالية نصّا مهمّا أمكن له أن ينتزع شرعيّته الروائية من خلال ما حمّله به صاحبه من تنوّع أسلوبي واشتغال على اللغة وحفر في أعماق الشخصية الرّوائية والتفاتة ناقدة إلى قضايا الراهن الجزائري الدموي دون إسراف ودون أن تتحوّل فصول روايته إلى محاضر شرطة وجرد لجرائم الإرهاب كما لاحظنا في أعمال روائية أخرى استسهل أصحابها الكتابة الرّوائية وظنوا أن مجرّد سرد المحنة يكفي وحده لبناء نص روائي فلم ينتجوا غير مسوخ سرديّة ونصوص خنثى تستعصي على التجنيس لا لجودتها بل لضحالتها. فكلّما توجهت نحو جنس أدبي إلاّ وتبرّأ منها، فضلّت مجرّد خربشات حبرية ساذجة وسجلاّت أمنية غير متقنة.

 

تنهض الرواية عند عمارة لخوص كما لاحظنا في روايتيه "البق و القرصان" و"كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك ؟". على استراتيجيات فنيّة وكفاءات ومعارف ومغامرة أسلوبية شجاعة ولا تنهض على احتلاب محنة الإنسان الجزائري والتمعّش من أحزانه ودمه النازف على جدران التعصّب والتطرّف، ورغم ذلك فإنّ رواية عمارة لخوص لا تتملّص من وظيفتها النقدية الاجتماعية ولا تتبرّأ من زمن كتابتها بل هي كتابة عمق وكتابة ترمي بنفسها في قلب الأزقة والأحياء الشعبية فتنقل معاناة تلك الطبقات المسحوقة وأحلامها الصغيرة المستحيلة. لكنها مع ذلك رواية تحصّن نفسها بما يقيها خطر السقوط في الكتابة الظرفية أو "الاستعجالية" كما يسمّيها الرّوائي الجزائري الحبيب السّائح.

 

وأهمّ تلك الرهانات السردية التي شغلت الروائي في نصّه البكر "البق والقرصان" : اللغة، فكأنّنا بالرواية إجابة عن سؤال عصيّ أرّق الكاتب : بأي لغة أكتب روايتي ؟‍‍

 

سنحاول في هذه القراءة تقصّي بعض تمظهرات تلك اللغة وألوانها وطرق اشتغالها ومدى مساهمتها في تشكيل جمالية النص الروائي.

 

1ـ العامية أو "العربية الجزائرية :

 

تكتسح العامية الجزائرية النص الروائي بشكل واضح، فتخترق حواره مثلما تخترق جسمه السردي. ولابدّ في البداية أن نستبعد مسألة مهمة وهي عجز الرّوائي عن الكتابة بالفصحى لأنّه أثبت في روايته الثانية أنّه بإمكانه أن يكتب رواية خالية من أيّ عبارة عامية. ومن ثمّ يتّضح لنا أن عمارة لخوص تعمّد استعمال العامية الجزائرية لأغراض فنيّة وإيديولوجية سنحاول أن نتحسّسها في هذا القسم من القراءة.

 

يشترك عمارة لخوص مع واسيني الأعوج في النظر إلى اللغة بصفتها كائنا حيّا. فيقول في أحد مقالاته الفكرية "اللغة كائن حي، يتأثر ويؤثّر في الفضاء الذي يحيط به ويستند إلى منظومة فكرية وشبكة علاقات اجتماعية" (1). ويقف في ذات المقال رافضا استعمال مصطلح الدارجة معتبرا ذلك المصطلح ذا حمولة إيديولوجية فيقول : "إنه مصطلح إيديولوجي [الدارجة] هدفه إقصاء اللسان من فضاء التعبير، وتهميش الناطقين به وإرغامهم على السكوت، لذلك نفضّل استعمال مصطلحات مثل العربية المصرية والعربية الجزائرية والعربية السورية… إلخ"(2). ويبدي عمارة لخوص في المقال إعجابه الشديد بالعربية المصرية التي استطاعت أن تكون لغة المتديّن والفاسق ولغة الرفيع والوضيع ولغة السياسي والفلاح ولغة الجاهل والأديب.

 

ومن ثمّ ينطلق الرّوائي عمارة لخوص في استعماله للهجة الجزائرية من قناعة فكرية ترى ان رفضها يعتبر عملية إقصاء أيديولوجية. والحق أن فكرة عمارة لخوص لها ما يسندها في أدبيات الرواية فميخائيل باختين يرى في التنوّع اللساني واللهجي سمة العمل الرّوائي وعلامة دالّة عليه، فالرواية هي التنوّع الاجتماعي للغات، وأحيانا للغات والأصوات الفردية، تنوعا منظما أدبيا. وتفضي المسلمات الضرورية بأن تنقسم اللغة القومية إلى لهجات اجتماعية، وتلفّظ متصنّع عند جماعة ما. ورطنات مهنية، ولغات للأجناس التعبيرية، وطرائق كلام بحسب الأجيال والأعمار، والمدارس والسلطات، والنوادي والموضات العابرة" (3).

 

ويذهب باختين إلى أنّ اللغة الوحيدة التي تشبه "لغة الآلهة" هي لغة الشاعر لا لغة الرّوائي لأنّ الشاعر لا يحتاج لغة غيره بما أنّ نصّه أصلا نصّ مونولوجي بينما لغة الرّوائي لغة حوارية عليه أن "يستقبل داخل عمله الأدبي التعددية اللسانية والصوتية للغة الأدبية وغير الأدبية، بدون أن يضعف عمله من جرّاء ذلك بل إنه يصير أكثر عمقا" (4).

 

إنّ المتأمّل في رواية "البق والقرصان" يلاحظ أن مقولة صعوبة اللهجة الجزائرية على المتلقي العربي مسألة مغلوطة تماما، إنما مرجعها إلى ذهنية إيديولوجية بقيت أسيرة ثقافة "المركز والمحيط" وما الصعوبة الآنية التي قد تعترض القارئ إلا نتاجا لطغيان اللهجة المصرية على بقية اللهجات العربية بفضل تفوقها الفني في مستوى صناعة الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزية وقد أثبتت لهجات عربية أخرى اليوم، بفضل ثورة الاتصالات الرقمية، أن بإمكانها الوصول إلى المتلقي العربي لو أعطيت فرصة التواجد إعلاميا ونمثل لذلك باللهجات السورية والأردنية والعراقية والخليجية التي تقبّلها المتلقّي العربي والمغاربي تحديدا دون عناء بعدما عُرضت بعض مسلسلات وأفلام وأغاني تلك الأقطار على الفضائيات.

 

إنّ العربية الجزائرية في "البق والقرصان" لهجة سلسة لا تمثّل عرقلا أمام المتلقّي لمتابعة قراءة النص، فلا اعتقد ان عبارات من نحو "علاش" و"كيفاش" و"واشي" و"يا وخذي" و"ما عليش" و"ولفي"… ستحول دون سيولة التلقي بقدر ما تجذّر العمل الروائي في بيئته وتعطيه عبقه الخاص، خاصة أن أصل تلك العبارات عربي، ولا أعلم إن كان المتلقّي سيصدّق مليكة البلوندا فتاة المبغى إن تحدّثت بلغة عربية قحة وهي تشتكـي "علاش يـا ربّي ؟ واش عملت حتى ترفض توبتي ؟ الجميع يحتقرني، أنا خْماج، خْمَاجْ، خْمَاجْ ؟ حتى عزرائيل تعفّف من روحي المتعفنة، واش نعمل ؟ " (ص 30).

 

إن اللهجة المحلية من شأنها أن تكشف عن هوية متكلّمها ومستواه الطبقي الاجتماعي ومستواه الثقافي.

 

ونلتقي بـ"المحكية المحلية" في مستوى المتناصات الغنائية التي أثّث بها عمارة لخوص نصّه الروائي و نمثل لذلك بهذه المقاطع :

 

[1] "… عليك بالهنا والضمان / والضمان / ما بقيت نديرك في بالي / في بالي / ما بقيت ندير فيك الأمان / الأمان / يا اللي ظنيتك عزالي / عاهدت نفسي في هذا الزمان / وعظمت الله العالي / ما توجدي حتى إنسان يشبهني ويكون بحالي / ولو تقطعي بحور ووديان / ما بقيتش تشوفي خيالي…" (ص 14).

 

[2] "… نهواك / ومازلت نهواك / نهواك نهواك / والحب يقوى / والحب يقوى حتى يوم القيامة / أنا عندي قلب / بعدك ما بقلوش يحب / غيرك ما نديرو في بالي / ما بقيتش نحب / يا قلبي ما بقالك تقرب / يا اللي ظنيتك غزالي / تعيا وتتعب / لا لا لا لا لا لا…" (ص 64)

 

فماذا يفعل الرّوائي بهذه المقاطع الغنائية ؟ هل يترجمها إلى العربية لكي يُرضي العرب العاربة وورثة سيبويه ؟!!

 

إنّ الرواية لا تتردّد في أن توظف كل أنواع الخطابات بما في ذلك الأغنية الشعبية وتسمح "بأن تدخل إلى كيانها جميع أنواع الأجناس التعبيرية سواء كانت أدبية (قصص، أشعار، قصائد، مقاطع كوميدية…) أو خارج – أدبية (دراسات عن السلوكيات، نصوص بلاغية وعلمية، ودينية، إلخ) (5).

 

والرّواية عندما توظّف الأغنية الشعبية توجّه عملية التلقّي إلى ذاكرة بعينها فنحن على حدّ عبارة الروائي عمارة لخوص "لا نملك ذاكرة جماعية واحدة بل إن ذاكرتنا كخريطة العالم العربي مليئة بالحدود والتأشيرات"(6). لذلك تشاهد احتفالات شعب عربي ومهرجاناته في الوقت الذي يمكنك أن تشاهد فيه مجزرة شعب عربي آخر. ومن ثمّ فمسألة الهوية كما يراها لخوص مسألة نسبية إن لم نقل ثقافة وهم أو "لعبة وهم".

 

2ـ لغة الأرقام والأعداد :

 

الأرقام العددية […] جزء من النظام العلامي المكتوب الذي توخاه الإنسان في تدوين اللغة وإن لم تكن جزءا عضويا في جهازه اللغوي ولم يكن لها بالتالي ما للحروف من تأثير في نظام التواصل ونسق التخاطب.

 

د. عبد السلام المسدّي

 

ما وراء اللغة.

 

يبدو الحديث عن الأرقام والأعداد في نصّ سردي أمرا غريبا بحكم أن النصّ السردي يقوم أساسا على لغة الحرف، غير أن العودة إلى مفهوم "الحوارية" الباختيني الذي يربط الجنس الروائي بطبقات الكلام وتنوّعه في المجتمع، يصبح السؤال عن حضور الأرقام أمرا مشروعا إذ ترشح الحياة اليومية بها مما حوّلها في هذا الزمن المعلوماتي إلى فضاء مشفّر رقميا.

 

لقد تضافرت الثورة المعلوماتية والاتصالية مع التفكير المادي واستفحال ثقافة السوق لتؤسس حياة يومية جديدة نطلق عليها بقليل من المجاز عبارة "حياة رقميّة".

 

والحق أن العودة إلى الرّواية بصفتها جنسا أدبيا زمنيا يجعل حضور الرقم فيها يكتسب مشروعية أخرى، فالرّواية "تعارض الفنون المكانية كالرسم والنحت وتعدّ قبل كل شيء فنا زمنيا مثل الموسيقى تماما"(7) ومثل السينما، فنا زمنيا خالصا والزمن لا يقاس إلا رقميا.

 

ويبدو أن عمارة لخوص كان شديد الوعي بخطورة الرقم في تشكيل الخطاب اليومي، الاجتماعي، من جهة وتشكيل النسيج الروائي من جهة ثانية، إذ نهضت لغة الأرقام في "البق والقرصان" أحد المميّزات الخاصة للرّواية، فلم يتردّد في إثبات ما يناهز عن المائة رقم وعدد في نصّه وخيّر أن يرسمها رقميا لا حرفيا وهذا ما يدفعنا إلى تلقيها بصفتها ظاهرة فنيّة واستراتيجية كتابة.

 

وتتوزّع تلك الأرقام والأعداد على كامل النص الروائي الذي تحول أحيانا إلى مغازة كبرى تتدلى من جوانبها بطاقات الأسعار. فالحذاء بـ"2500 دينار" والسروال بـ"1200 دينار" والموز بـ"200 دينار" والحلوى ب120 دينار وزجاجة الريكار بـ900 دينار والبارابول بـ2500 دينار والكومبيوتر بـ25 مليون والطابع البريدي لأنقلترا بـ7 دنانير ولسويسرا بـ3 دنانير…

 

تعكس هذه الأرقام والأعداد والأثمان الصورة الاقتصادية للإنسان الجزائري الذي يركض وراء حاجاته اليومية التي تحوّلت إلى مجموعة من الأرقام حال بينه وبين تلبيتها واقع الإفلاس والبطالة والأجر الزهيد في أحسن الأحوال.

 

لقد تحوّلت تلك الأرقام إلى محفّزات للحركة، فالشخصية الروائية تحتاج رقما لتشرب الخمرة وتحتاج رقما لترسل رسالة وتحتاج رقما لتشاهد القنوات الفضائية وتحتاج رقما لدخول المبغى حتى تحوّلت بدورها إلى رقم متغيّر أوتوماتيكيا مع كل رغبة وكل حاجة.

 

كما تبدو الأرقام، أحيانا، في لبوس الحلم، مثل حلم حسينو الـPirate الشخصية الرئيسية بالفوز في اللوطو حتى أصبحت حياته رهينة رقم : "خبطة واحدة في اللوطو تكفي وزيادة، تلزمني 6 أرقام صحيحة بين عشية وضحاها أخرج من الغرقة كما تخرج الروح من البدن المعلول، خروجا بلا رجوع" (ص 7)

 

إن حالة اليأس التي استفحلت بالإنسان الجزائري – والعربي عموما – جعلته أسير الأحلام، أحلام الفوز باللوطو بعد أن فشل في تحقيق حاجاته نتيجة إخفاقات الإدارة السياسية في الخروج من الأزمات الاقتصادية من ناحية ومساهمتها في مزيد تردّيها بالنهب والسرقة والرشوة من ناحية أخرى لذلك انفتحت رواية لخوص على كل الآفات الاجتماعية التي يتخبّط فيها الإنسان والمكان : المرض، البطالة، الرشوة، العجز، الاختلاس…

 

تذكّرنا بعض أجواء رواية عمارة لخوص، برواية التونسي حسن بن عثمان "بروموسبور" (القواعد الخمس للفوز بالرهان الرياضي) والتي يظهر فيها عبّاس (الشخصية الرئيسية) يتوعّد أقرباءه بالانتقام منهم إذا ما فاز بالرهان الرياضي ويقرن بن عثمان بوضوح تعاطي هذا الرهان بمسألة تعجيل الموت حين يقـول الرّاوي : "من المفارقات الغريبة أن عبّاس حين تبنّى فلسفة تعجيل الموت صار شغوفا بتعاطي الرهان الرياضي على مقابلات كرة القدم، التي تعقد دوريا، كل أسبوع وتسمى "بروموسبور" "(8).

 

إنّ ارتباط الإنسان بالقمار والرهان يشي بأنه انسحب من الحياة السويّة التي يؤثثها الفعل والإرادة ليدخل مثل حسينو الـPirate في منطق اللامعنى واللاجدوى في مجتمع عاطل وتزداد أزمة حسينو حين يعلم أنه مهدّد بفقدان وظيفته في La grande poste ومن ثم تحول الرهان على الوهم والاستقالة من الحياة الرهان الوحيد، فالمجتمع يعلن إفلاسه بـ"تفريخه" للملتحين و"المزطولين" والإرهابيين والشاذين. وتعلن الإدارات والمصانع إفلاسها بتسريح عمّالها، لتنهض أرقام اللوطو السحرية المنقذ الوحيد للإنسان في مجتمع يرزح تحت فساد النظام والإدارة.

 

أمّا التمظهر الثالث للغة الأرقام والأعداد فيبدو في تلك العمليات الرياضية التي احتضنها النص الروائي، حيث أقحم عمارة لخوص في روايته مجموعة من عمليات الضرب والقسمة كنّا نحسب أن ليس لها مكان إلاّ في مؤلفات الرياضيات والهندسة، غير أننا بعد أن أمعنّا النظر فيها وجدناها تخترق حياة الشخصية الروائية في كل تفاصيلها، إذ حددت تلك العمليات الحسابية علاقات حسينو الـPirate بالله وبالعائلة وبالمكان وبنفسه وعمره، فعندما كان حسينو يركب التاكسي متّجها إلى مليكة البلوندا : فتاة المبغى، تدخّل المتلحي، الذي يركب معه السيارة، متحدّثا عن عقوبة الزاني قائلا : "الزانية والزاني يجلد كل منهما مائة جلدة…" (ص16).

 

حوّل حسينو الـPirate – بسرعة – قول المتلحي إلى عملية حسابية ساخرة : " لم يكتف بشتمي ولعني، الآن يحاول ببرودة قتلي جلدا. مائة جلدة للمرة الواحدة، هذا كثير… كثير جدا. أشحال من مرة ضاجعت مليكة البلوندا ؟ العملية بسيطة جدا، أربع مرات في الشهر 4 × 12 × 100 جلدة سنويا. الحصيلة ثقيلة جدّا. هل سيتحمّل جسمي الهزيل كل هذا الجلد ؟ الفاتورة غالية جدا" ( ص ص 16-17).

 

ويختلق حسينو الخلاص بالسرعة نفسها، وبعملية رياضية افتراضية "ولكن، واش هذا التمنييك ؟ يوم الحساب لم يحن بعد، القيامة لم تقم " (ص 17).

 

لقد استحال الخطاب الديني والعقاب الإلهي إلى رقم، وإن كان يوم القيامة فعلا يوما رقميا بامتياز حتى سُمّي بـ"يوم الحساب"، أليس في ذلك اليوم ستجرى أكبر عمليات الحساب الممكنة (جمع وطرح وقسمة…) و"من عمل مثقال ذرة خيرا يره ومن عمل مثقال ذرة شرا يره".

 

أمّا عملية القسمة التي خمّنها حسينو الـPirate حول منابه في بيت العائلة فتبدو عملية حسابية ساخرة وخاسرة مثل الأولى : "غرفة نوم ثلاث أمتار × مترين، مطبخ مترين × مترين، مرحاض متر × متر. هذا البيت بحجم القبر وليس ملكي الخاص، على افتراض أن أخواتي البنات فريدة ونعيمة وفتحية سيتنازلن على نصيبهن في التركة، فإنّ مساحة البيت ستقسم على خمسة، 11 متر مربع ÷ 5 عندئذ سيكون نصيبي مترين وعشرين سنتمتر " (ص 68).

 

كشفت عملية القسمة هذه عن حالة الاختناق التي تعيشها الشخصية الروائية فالفضاء الذي تمتلكه، فعلا، في الدنيا لا يختلف عن فضاء الآخرة، كلاهما قبر ومن"ثم فهي تعيش آخرتها في دنياها".

 

أما العملية الحسابية الثالثة فهي أكثر العمليات درامية ويتمثل موضوعها في برنامج إعالة الأم كما خطّط له سليمان شقيق حسينو الـPirate " قدّم سليمان اقتراحه، التكفل بالعجوز بالتتابع 12 شهرا تقسّم على ثمانية، 365 ÷ 8 عمله كمحاسب في السونطراك مكّنه من إجراء القسمة بسرعة فائقة، وقال "كل واحد يتكفّل بالعجوز 45 يوما في السنة حتى…" (ص 41).

 

فضحت هذه العملية مدى تغلغل التفكير الرقمي المادي في بنية المجتمع الجزائري حتى مسّ العلاقات الأكثر حميمية، العلاقات الأسرية، وتزيد زلّة اللسان "حتى…" من تعميق الشرخ الذي أصاب العلاقات الدموية، فكأننا بالابن سليمان ينتظر موت أمه مريضة السكر وضغط الدم والروماتيزم ليتخلّص من عبء ثقيل، وهو الأمر الذي جعله يراجع القسمة من جديد "12 شهرا ÷ 6 ".

 

هكذا تكون الأرقام قد أجهزت على بنية المجتمع و على أدق تفاصيله لتجعله مجتمعا رقميا، تجاريا، انتهازيا، وأفرغته من مضامينه الروحية والعقدية والحضارية لتحوّله إلى تجمّعات وحشيّة بدائية تركض وراء الخبز المدعّم والتناسل المرضي، وهذه في الحقيقة ليست صورة المجتمع الجزائري فقط بل هي صورة نموذجية للمجتمعات العربية مشرقا ومغربا، تلك المجتمعات التي استقالت من الفعل الحضاري المنتج وانقلبت إلى مجتمعات استهلاكية تنخرها الأميّة وتعيش على حافة الدنيا تمخّخ ذاكرتها الخاوية.

 

يختم عمارة لخوص عملياته الحسابية بعملية العمر المسكوب في طوابير الانتظار، عمر بلا معنى ولا طعم : "أنت وحيد يا مسكين، وحيد كالميت في القبر، فلتبدأ رحلتك مع الدموع، الدموع وفيّة لأمثالك التعساء، عشت في هذا العالم… في هذه الدنيا أربعين عام ! أربعون عام ! اشحال من شهر ؟ 40 × 12. احسب يا حسينو احسب، 480 شهر، اشحال من يوم ؟ اشحال من أسبوع ؟ اشحال من ساعة ؟ اشحال من دقيقة ؟ اشحال من ثانية ؟ لا أقوى على الحساب […] أريد أن أرقد، النوم هو الدواء " (ص 108).

 

هكذا تلتفّ الرواية على نفسها لتعود إلى الفجيعة الأولى، بلوغ حسينو الـPirate سن الأربعين وهو بعد يتقلّب في عزوبيته وفقره ومهدّد بالطرد، وحيدا يتدلّى في عزلته المميتة، وكوابيسه المرعبة.

 

ولا يفوتنا، هنا، أن نذكّر برواية "معركة الزقاق"(9) لرشيد بوجدرة الذي أقحم فيها جملة من المعادلات الرياضية الصعبة التي بقيت عند عدد كبير من النقّاد مجرد طلاسم لم يتمكّنوا من فكّها.

 

في حين أن ما وظّفه عمارة لخوص يبدو جزءا مهمّا من نسيج النص ويمكن فكّ شفرته وكشف دلالته دون أن يكون المتلقّي في حاجة إلى معارف رياضية معقّدة، لأنّ الروائي إنما كان يتقرّب باستدعائه تلك العمليات الرياضية، من حركة المجتمع وأنماط تفكير الأفراد داخله إذ "في الرواية – كما يقول باختين – الإنسان هو أساسا، إنسان يتكلّم، والرواية بحاجة إلى متكلّمين يحملون إليها خطابها الإيديولوجي الأصيل، ولغتها الخاصة"(10) لذلك فهي لا تتردد في تشكيل نسيجها من "كرنفالية" الشارع مثلما لا تتردّد في الاستحواذ على خطابات الأجناس الأدبية الأخرى وعلى لغات العلوم الصحيحة.

 

3ـ الأجنبي والهجين :

 

تباغتنا ثنائية اللسان في "البق والقرصان" ونحن بعد على عتبات النص، فبينما كتب على الغلاف الأوّل اسم الكاتب وعنوان النص وجنسه الأدبي بلغة عربية "عمارة لخوص، البق والقرصان، رواية" يقدّم لنا وجه الغلاف الثاني مادّة الغلاف الأوّل باللغة الإيطالية «Amara Lakhous .LE CIMCI E IL PIRATA,Romanzo » وما إن نفتح الكتاب حتى تأتينا المفاجأة الثانية، حيث احتوى الكتاب على النص العربي وترجمته الإيطالية معًا في طبعته الأولى.

 

إنّ طباعة نص واحد في لغتين يطرح عدة أسئلة منها : كيف سينظر المتلقّي الإيطالي الذي لا يتقن العربية إلى النص العربي ؟ وكيف سينظر المتلقّي العربي الجاهل بخصائص اللغة الإيطالية إلى الترجمة الإيطالية للنص ؟ ومن جهة أخرى، كيف سيتعامل الإيطالي العارف باللغة العربية مع الترجمة الإيطالية والعكس صحيح ؟!!

 

نعتقد أنّ الصنف الأول أو أحادي اللغة الإيطالي أو العربي سينظر إلى النص الآخر بصفته رموزا لسانية جوفاء أو أيقونة مبهمة ومع ذلك ففي المسألة شيء من الفائدة والمعرفة بشكل اللغة وهندستها وإن كانت الدرجة الصفر للمعرفة.

 

أمّا الصنف الثاني وهو العارف باللغتين فسيعمد إلى المقارنة بين النصّين والبحث عن مدى كفاءة المترجم في نقل النص الأصلي ومناخاته إلى الإيطالية وفي ذلك فائدة كبرى.

 

وتؤكّد عتبة نصّية أخرى تلك الثنائية اللسانية لنص عمارة لخوص وهي عتبة التصدير، حيث اختار الرّوائي أن يصدّر روايته بنصّين واحد فرنسي للفيلسوف ورائد التفكيكية جاك داريدا والثاني عربي, حديث نبوي للرسول محمد :

 

Le symbole ? Un grand incendie holocaustique, un brûler tout enfin où nous jetterions, avec toute notre mémoire, nos noms, les lettres, les photos, les petits objets, les clés, les fetiches, etc.

 

Jacques Derrida.

 

 

"رُفع القلم عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل"

 

الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

 

وتتواصل رحلة لغة الآخر في النص الروائي حيث خيّر عمارة لخوص أن تنفتح روايته بكلمة فرنسية هي « Bordel » والحقّ أن هذه الكلمة تمثّل صدمة للمتلقّي العربي في مستويين أوّلهما المستوى اللغوي حيث ينطلق هذا القارئ بكلمة أجنبية وثانيهما المستوى الحضاري الذي تخترقه دلالة كلمة Bordel، فيتساءل عن سرّ هذه العتبة، وعن مصير تلك الرحلة – رحلة التلقي – التي سيخوضها. هل ستكون الرّواية مبغى فعلا ؟!! وأيّ مبغى ؟!!

 

يبدو أنّ الرّواية قد حدّدت اتجاهها من خلال تلك الكلمة البدئية، حيث لم يتردّد عمارة لخوص في انتهاك كل المقدسات والمحرمات بما في ذلك المحرّم الجنسي، فتحرّرت لغته الرّوائية من كل "تابو" أخلاقي ليستعمل عبارات جنسية دقيقة تذكّر بنصوص محمد شكري.

 

وتعرف لغته الإباحية ذروتها أثناء تصادم الشخصية مع الآخر، فتنهال عليه بشتائم اقتطفها الرّوائي من أفواه الشطّار والعاطلين، فتنقلنا تلك العبارات إلى أعماق الشارع الجزائري وإلى شريحة اجتماعية معيّنة هي شريحة المهمّشين والمغيّبين، فنصبح أمام لغة الحياة اليومية بدون مساحيق وبدون عمليات تجميلية فتتطابق لغة الشارع/ الواقع مع لغة الرّواية/المتخيّل.

 

وتكشف تلك الكلمة البدئية (Bordel) عن أحد الأمكنة التي تدور فيها الأحداث ونوعية الشخصيات التي سترتادها. فكانت الكلمة "تبشيرا" بوجود شخصية مثل "مليكة البلوندا" أو "خيرة الكحلوشة" وأخرى مثل حسينو الـPirate، واحدة تعرض جسدها بمقابل وآخر يركض وراء شهوته كل خميس. ويشي اسم الشخصية الرئيسية بتلك الثنائية اللغوية، فحسينو كنيته الـPirate، وقد حافظ الروائي على الكنية في لغتها الفرنسية ولم يترجمها بـ"بقة" حتى يعكس حياة الشارع الجزائري مزدوج اللسان.

 

وتحضر اللغة الفرنسية ساعة في الحوار لتكون لغة التواصل اليومي مثلما هو الحال في ذلك المقطع الذي يظهر فيه حسينو والعلجاوي في المطعم يطلبان من النادل الغداء (انظر الرواية ص 98)، أو على شكل أمثلة تستشهد بها الشخصية الروائية حتى تعبّر عن مواقفها الأيديولوجية، كقول حسينو الـPirate :

 

“تحدّث عما شئت إلا Les bordels"، في هذا المقام يقول الفرنسيون ne touche pas à mon gazon (ص 16). أو قوله مخاطبا ذكره النائم : "اليوم يومك يا شكوبّي، الحذر معك مطلوب، إنّك لا تطيق الاستفزاز ياك هكذا ؟ أنا أفهمك كما أفهم نفسي أو أكثر، ولكن،ne réveille pas le chient qui dort كما يقول الفرنسيون"(ص 8)

 

هكذا تكون اختراقات اللغة الفرنسية للنص العربي مدروسة، كما أن اللغة الفرنسية تكاد تكون حاضرة في أعمال جلّ الرّوائيين الجزائريين مثل واسيني الأعرج وأحلام مستغانمي…

 

وما يؤكّد ما ذهبنا إليه من أنّ استعمال العبارات الفرنسية لم يكن مجانيا، إنما كان لأغراض فنية هو محافظة المترجم الإيطالي للرواية عليها في لغتها الأصلية واكتفائه بترجمتها إلى الإيطالية في الهامش (انظر الترجمة الإيطالية للرّواية). ونرجع تلك الهوامش إلى جهل المتلقي الإيطالي باللغة الفرنسية إذ الإيطالي لا يكاد يتقن غير لغته وهذا أمر معروف، أما الجزائري فتمثّل الفرنسية جزءا كبيرا من ذاكرته، إنها لغة الشارع اكثر مما هي لغة المتعلّم والمثقّف.

 

 

4ـ محاكاة الأصوات والتقطيع النبري :

 

لا يمكن للقارئ أن ينتهي من قراءة رواية "البق والقرصان" دون أن ينتبه إلى تلك المقاطع اللغوية التي تعمدها عمارة لخوص في نسج نصّه السردي وهي محاكاة الأصوات والتقطيع النبري، وأهمها صوت الشخير الذي كان يقطع دعاء حسينو الـPirate أو تلاوته للقرآن قبل النوم ونمثّل لذلك بقوله :

 

" اللهمّ إنّي أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك […] وألجأت ظهري إليك. لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، آمـ…نت بالـ…كتا…ب الـ…ذي… أنز…لت وبالـ… نـ…ـي، الذ…ي خر…خر…خر…خر …خر…خر…خر…خر…خر…خر…خر…خر…خر…خر " (ص 74).

 

وقس على ذلك ما ورد في الصفحة 38 والصفحة 116، ومن دلالات تكرار هذا التقطيع الروتينية أو الرتابة التي تعيشها الشخصية والتعب الذي تحسّ به، إذ الشخير من أعراض الإرهاق الشديد.

 

وتحضر المحاكاة الصوتية في أشكال أخرى مثل صوت قرع الباب "طقطق طقطق طقطق" (ص ص 66، 68)، وتكشف تلك الطرقات الكثيرة والمتكرّرة عن حجم الضيق الذي يعانيه حسينو من جيرانه الذين يظهرهم طول الطرقة الواحدة أناس لحوحين متعبين ومتطفلين، ومن ثم فإن هذا الطرق المستمر على بابه جعل بيته منتهكا، وفقد الفضاء بعده الأساسي بصفته فضاء للسكينة والراحة والاستقرار. ألا يعلن الإنسان "دائما عن حاجاته إلى إقرار وجوده والبرهنة على كينونته من خلال الإقامة في مكان ثابت سعيا وراء رغبة متأصّلة في الاستقرار وطلب الأمن للذات ؟" (11).

 

وينقل لنا عمارة لخوص أحيانا صوت المنبّه فيفتتح يومه بضجيج صاخب مثلما هو الحال في يوم السبت 29 فبراير، حيث ينفتح الفصل بهذا المقطع : "تر ررررررررررررررررررررررررررررر… الـ…مـ… نـ….بّه … جرس المنبّه ! السادسة والنصف ! حان موعد النهوض " (ص 75).

 

يذكّرنا هذا المقطع، الذي حاكى فيه لخوص صوت المنبّه بمحاكاة الروائي القواتيمالي ميقال انخل استاريوس صوت الجرس في روايته "السيد الرئيس" حين نقرأ في مطلعها : " دنغ دانغ دونغ، دنغ دانغ دونغ!"

 

ترددت رنّات أجراس الكاتدرائية كالأزيز في الأذن، تدعو الناس إلى الصلاة، كالارتداد القلق من الضياع إلى الظلمة ومن الظلمة إلى الضياء. "دانغ دانغ دونغ، دنغ دانغ دونغ دانوغ، دانوغ دونغ دانغ دنغ، دنغ دانوغ دنغ دونغ دانغ… دانونغ… (12).

 

وتمثّل محاكاة صوت المنبه في رواية عمارة لخوص أخطر التقطيعات التي احتفلت بها الرواية لأنه وظّف ذلك توظيفا دالا، إذ ارتبط الصوت المزعج والصاخب بالحدث الخطير الذي تدور حوله الرواية وهو انقضاء أربعين عاما من حياة حسينو الـPirate. لقد كان هذا الصوت بمثابة إعلان الطوارئ أو صوت صفارات الإنذار وكان اكتشاف حسينو لسنّه كمن اكتشف قنبلة في فراشه : "29 فبراير، 29 فبراير… عيد ميلادي، عيد ميلادي الأربعين ! اليوم بلغت الأربعين، مستحيل… مستحيل.. مستحيل.. مستحيل، 29 فبراير! مستحيل… في 29 فبراير الأخير كان عمري 36 عاما ! 29 فبراير.. لا يتكرّر كل عام، أريد أن أبكي، لن أبقى هنا، إلى وين ؟! لا أعرف، لن أبقى في هذا المكان لحظة، إني أختنق.." (ص 104).

 

وفي الرواية أشكال أخرى للمحاكاة الصوتية مدارها القهقهات المحمومة والغثيان والتألّم… وتشي كل تلك المقاطع الصوتية بالفضاء المتوتّر الذي تتحرّك داخله الشخصيّة. وتخدم تلك المقاطع الخطاب الرّوائي الذي نهض على التداعي الحرّ ولغة الهذيان والكوابيس. ويمكن قراءة تلك المقاطع من وجهة نظر جمالية باعتبارها إحدى استراتيجيات التجريب التي التفت إليها عمارة لخوص ليشكّل فضاء نصّه وهذا ما تؤكّده ظاهرة لغوية أخرى هي لغة التنقيط.

 

5ـ لغة التنقيط :

 

إنّ التنقيط أعلق بالنثر منه بالشعر وهذا ما يؤكّده أراغون حين يقول : "الشعري هو ما لا تنقيط فيه وكل ما فيه تنقيط هو من النثر(13)، والحق أن العرب لم يعرفوا التنقيط إلا متأخرا فهو ليس جزءا أصيلا من ثقافتهم، تلك الثقافة التي تبدو ثقافة شعرية أكثر منها ثقافة نثرية، ثقافة مشافهة لا ثقافة تدوين. وحتى عندما نزل القرآن فقد نزل منجّما وعندما دوّن لم تكن جمله منقّطة تنقيطا لغويا بل مقسّمة إلى آيات وسور برموز خاصة مثل الدائرة المحلاة والأرقام التي تتوسّطها مشيرة تارة إلى رقم الآية وطورا إلى بداية الأجزاء والأحزاب. ومن ثم فالتنقيط شكل وافد على اللغة العربية وليس نابعا من صلبها.

 

ولعلّ هذا ما دفع بعض الروائيين المنشغلين بالتراث السردي القديم إلى التخلّي عن التنقيط ولو جزئيا مثل الروائي حبيب السائح في روايته "تلك المحبّة" التي عاد فيها إلى الجملة العربية المدوّرة.

 

أمّا عمارة لخوص فقد اعتمد في روايته "البق والقرصان" تنقيطا سريعا من خلال الجملة القصيرة وهذا ما أضفى على الرواية إيقاعا سريعا أشبه بصوت القطار على السكة أو بالحركة المجنونة في شوارع المدن المكتضّة، فالشخصية المشوّشة ذهنيا والتي تستقبل صباحها بعد رحلة ليلية مع الكوابيس تندفع إلى الحياة بعشرات المهمّات والواجبات وعشرات الأماني والأحلام، ويذكّرنا وقوف الرّاوي عند تفاصيل التفاصيل بنصوص روّاد الرواية الجديدة في فرنسا وخاصة آلان روب غريي الذي ينشغل بنقل تفاصيل يومية تافهة شبيهة بما يقدّمة الراوي في رواية عمارة لخوص حين ينشغل بحركات حسينو وحاجاته اليومية كاستحمامه وحيرته أمام ملابسه ونقل أسعار المشتريات. وكل ذلك في إيقاع سريع تؤكده تلك الجمل القصيرة الخالية من "الفاصلة"، ويمكننا أن نلاحظ هذا التأثر بإيقاع الرواية الجديدة عند صنع الله إبراهيم وخاصة في روايته "أمريكا نلّي".

 

أمّا الظاهرة الثانية للتنقيط فهي حشد مجموعة لا متناهية من نقاط التعجب والاستفهام (!!!!! –؟؟؟؟؟؟) وتعكس تلك النقاط حجم الحيرة التي يعيشها حسينو والمواطن الجزائري عامة في فضاء أصبح عصيا على الفهم، فلا أحد يعرف سببا ولا معنى لانهيار اقتصاد دولة نفطيّة. وتكثر حزم نقاط التعجّب والاستفهام أثناء الحوار مما يعكس حجم المسافة التي تفصل بين الأنا والآخر في ذلك المجتمع الذي دخل حالة كافكاوية يصعب فيها التواصل، فكل فرد فيه يتحدّث لغة لا يفهمها غيره، واحد يتحدث لغة الحرام وآخر يتحدث لغة الأرقام وتنشط تلك الحزم الاستفهامية والتعجبية في الجزء الأخير من الرّواية الذي أدخلتنا عالم الكوابيس المبهمة.

 

ونجد ظاهرة أخرى للتنقيط تتمثل في النقاط المتتالية (…..) وتظهر هذه النقاط على امتداد الرواية ولكنها تشتدّ في مقاطع معينة مشيرة إلى مادة الصلاة و الى تكرّر هذا المقطع خمسة مرات بعدد الصلوات في اليوم : "الله أكبر، الحمد لله رب العالمين، الرحمان الرحيم ملك يوم الدين......................................................................

 

..............................................................................................................

 

..................................................................................... السلام عليكم ورحمه الله،

 

السلام عليكم ورحمة وبركاته " (انظر ص ص 57، 62، 74)

 

 

 

يمكن قراءة هذا التنقيط في مستويات عديدة فيحيلنا من ناحية إلى أن "كل صفحة هي عبارة عن مشهد"(14) كما يقول ميشونيك وهذا ما يحول ذلك المقطع بنقاطه المتتالية إلى شكل أيقوني دال على الصلاة. ومن ناحية أخرى يشير ذلك المقطع إلى أن "كل صفحة هي عبارة عن إيقاع(15) فنلتفت من خلال تلك المقاطع إلى زمن القراءة في مقابل زمن الأحداث، فزمن القراءة أقل بكثير من زمن الأحداث حيث يُختزل زمن الصلاة في تلك النقاط المتتالية التي يمسحها المتلقي مسحا بصريا في لحظات ويقفز عليها القارئ المستعجل بعد أن يكون قد حلّ شفرتها منذ اللقاء الأول. وترتبط هذه المقاطع ارتباطا وثيقا بشكل آخر من اللغة المستخدمة في الرواية، لغة المقدّس.

 

6ـ لغة المقدّس لبناء المدنّس :

 

ترشحُ رواية "البق والقرصان" بعشرات النصوص الدينية : سور وآيات قرآنية وأحاديث نبوية، آذان وأدعية وابتهالات… وتعمّد الرّوائي عمارة لخوص تغييب النبر الخطي لهذه النصوص خلافا لتلك الأغاني الشعبية التي ميّزها بنبر خطي كبير. فكيف نقرأ هذه المفارقة في التشكيل البصري لكل من المتناصات القرآنية والمتناصات الغنائية ؟

 

يخطر لنا أن التفخيم الخطّي للمتناص قد يكون تكريما وتقديسا له، فالرّاوي يقدم الأغنية باعتبارها نتاجا ثقافيا نموذجيا، ومن ثمّ فقد أفضى هذا التفخيم على المدنّس قدسية من خلال عشق حسينو الـPirate لأغاني الراي، هذا الفن الذي هاجمه المحافظون واعتبروه فنّا هابطا يحرّض الشباب على الخطيئة وارتكاب الكبائر.

 

ولكن هل تغييب حدود النص الديني بتوحيد نبر خطّه مع الخط الذي كتب به السرد والحوار يمسّ من قدسية هذا النص ؟

 

تبقى هذه الملاحظة معلقة ! غير أننا يمكن أن نجد لها ما يسندها لو راجعنا تلك المتناصات الدينية وبحثنا في طرق اشتغالها حيث تبدو طريقة عرض مادة الصلاة، التي سبق أن نظرنا فيها، طريقة مستفزّة للمسلمين وخاصة المتشدّدين منهم. ذلك أن الروائي يقطع النص القرآني ليضع النقاط المتتالية، وقطع تلاوة القرآن أو قراءته يعتبر أمرا مكروها.

 

وتنهض تلك المشاهد التي ربطت فيها الشخصية الروائية بين النص الديني والمحرّمات دليلا آخر على نيّة تدنيس المقدّس أو التوسل بالمقدس لبناء المدنّس. فكلّما نهض حسينو الـPirate من نومه إلا واستعوذ من الشيطان وتلا سورا من القرآن حتى لو كان سيأخذ طريقه إلى المبغى. مثلما فعل يوم 27 فبراير الذي خصّصه لزيارة فتاة المبغى مليكة البلوندا. وينحرف، في موضع آخر، بالنص الديني من وظيفته المعلومة ومن فضائه الخاص (صلاة الاستسقاء مثلا) إلى التفكير في القمار فتبدو الصورة كاريكاتورية لرجل يصلي ويدعو الله من أجل الفوز باللوطو ضمن جماعة تصلي صلاة الاستسقاء من أجل أن يدفع عنها ربها الجفاف ويرزقها بالغيث، لكن يبدو أن حسينو اختصر الدعاء في طلب المال مباشرة اذ هو ضالتهم جميعا.

 

" صلّيت مع المصلين في الشهر المنصرم صلاة الاستسقاء، لكن نيتي لم تكن صادقة إذ تحينت فرصة الدعاء لأشتكي إلى الله حظي التعيس في اللوطو، توسلت وتضرّعت إليه أن يكتب لي التوفيق كي أحصل على 6 أرقام صحيحة…" (ص 10).

 

تنهض شخصية حسينو الـPirate شخصية مركّبة يتجاذبها المقدّس من ناحية والمدنّس من ناحية أخرى، فهو يصلّي منذ نعومة أضفاره ولا يكف عن تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار والاستعاذة من الشيطان ولكنه، في المقابل، يرتكب كل الكبائر (الزنى والقمار والخمرة).

 

وليس حسينو الـPirate الشخصية الروائية الوحيدة التي كانت تحمل الشيء وضدّه (المقدس والمدنّس) ف"الحاجة فضيلة" مثلا زارت بيت الله وقبر الرسول أكثر من مرة ولا تفوتها صلاة ولا تفارق الآيات القرآنية لسانها غير أنها حوّلت بيتها إلى مبغى تشغل فيه العاهرات معتبرة نفسها منقذا رحيما.

 

لقد انحرف الخطاب الديني عن أداء وظائفه التقليدية ليصبح أداة من أدوات الربح غير المشروع وارتكاب الكبائر والخطايا، وهذه الصورة التي يقدمها عمارة لخوص للإسلام هي صورة رمزية لراهن الإسلام في الجزائر وفي العالم حيث انقلب الإسلام في أيدي الجهلة والمتطرّفين إلى واجهة يتدارى خلفها المنحرفون. وما حسينو الـPirate إلاّ صورة لذلك الإنسان العربي المسحوق الذي لم يعد يميّز بين ذلك الركام من الخطايا في ظل تلك التناقضات الكبرى التي تمرّ بها الأمة، فتحوّل إلى شخصية معقّدة تقف حائرة في مفترق طرق لا تدري أين تتّجه ! فيمرّ الزمن ويسرق عمرها وهي بعد في مكانها تدور على أحزانها معصوبة العينين مثل جمل الساقية.

 

هكذا كانت اللغة في "البق والقرصان"، لغة حيّة بانفتاحها على لغة الحياة اليومية وحيّة بتنوّعها اللساني وحضورها البصري وتشكّلها السيميائي وضروب اشتغالها داخل النص في مستواييه الفني والدلالي، حتى ينتزع روائيّته بجدارة ويثبت أن صاحبه يمتلك من المؤهلات ما يمكّنه من أن يجترح لنفسه مكانة في المشهد الرّوائي الجزائري والعربي. وهذا ما أكّده نصه الروائي الثاني "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك ؟" الذي أدخل للرواية العربية الجزائرية مناخات جديدة قد تساهم في انتشالها من محنتها الفنية وتضخّ فيها دماء جديدة بأسئلتها المعاصرة.

 

ويبدو أنّ عمارة لخوص قد اختار طريقا صعبة للانتشار العالمي من خلال تورّطه في المشهد الثقافي الإيطالي باحثا ومبدعا، فهل ستغري تجربته الروائي المغاربي فينعتق من أسر اللغة الفرنسية والفضاء الباريسي ليلج أرض امبرتو ايكو ويرضع من الذئبة ؟!!

 

وهل سينجو بسهولة من عضّها ؟!!

 

أسئلة أجابت عن بعض جوانبها رواية عمارة لخوص الجديدة "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك؟".

_____

 

هـوامش :

 

عمارة لخوص، كاتب جزائري من مواليد الجزائر العاصمة عام 1970 خريج معهد الفلسفة يقيم في إيطاليا منذ سنة 1995 أين ناقش رسالة ماجستير ويعد الآن رسالة دكتوراه في الانثروبولوجيا، يشرف على مجموعة بحث (جسور، عرب المتوسط) التي تدرس مشاكل المنطقة العربية المتوسطية، كانت له تجربة إذاعية في الجزائر قبل أن يهاجر إلى إيطاليا، يكتب الرّواية، والمقالة باللغتين الإيطالية والعربية، يشتغل بوكالة الأنباء الإيطالية ADNKRONOS، صدر له في الرواية :

 

البق والقرصان، دار أرلام ARLEM، روما، إيطاليا، 1999.

 

كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك ؟، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2003.

 

1. عمارة لخوص : الهوية والوهم (الهوية الإسلامية والهوية العربية من منظور أنثروبولوجي)، مجلة الاختلاف، العدد 2، سبتمبر 2002، ص 56.

 

2. المرجع نفسه، ص 55.

 

3. ميخائيل باختين : الخطاب الرّوائي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان، الرباط، 1987، ص 33.

 

4. المرجع نفسه، ص 59.

 

5. المرجع نفسه، ص 78.

 

6. انظر عمارة لخوص : الهوية والهم، ص 56.

 

7. Roland Bourneuf, Réal Ouellet, Lunivers du Roman, CERES, Tunis 1998, p. 146

 

8. حسن بن عثمان : بروموسبور، تونس 1998، ص 15.

 

9. انظر رشيد بوجدرة : معركة الزقاق، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص ص 13 و29.

 

10. ميخائيل باختين : الخطاب الروائي، ص 89.

 

11.حسن بحراوي بنية الشكل الروائي .المركز الثقافي العربي ,الدار البيضاء1990ص53

 

12.5ن "كل صفحة هي عبارة عن إيقاع"(ميقال انخل استورياس : السيد الرئيس، ترجمة ماهر البطوطي، دار الحضارة العربية، القاهرة، 2004، ص 7.

 

H. MESHONNIC, Critique du rythme, Anthropologie historique du langage, Verdier, 1982p300, .13

 

.14المرجع نفسه، ص 302.

 

.15المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !