الرغيف المقدس (1) حرر في 4/ 6/ 1430 هـ في صحيفة عكاد الالكترونية
منذ أن كنت صغيراً دأبت والدتي حفظها الله وقبلها جدتي شفاها الله وعافاها , على تقديم هذا النوع من الخبز,أربعة أو خمسة أرغفة
تترافق مع وجبة الغداء يومياً حينما كنت في مراحل طفولتي المبكرة وإلى ما قبل الخامسة والعشرين , قل المعدل بعدها تدريجياً كما قل
التزامي بتناول الوجبات مع العائلة ..والأسباب كثيرة.
الغريب في الأمر هو أن المشهد الذي يحدث بعد الانتهاء من الوجبة التي يكون هذا النوع من الخبز احد مكوناتها لم يتغير على مر
السنين, فقد تعودت على رؤية والدتي ترمي معظم بقايا الطعام إن لم يكن كل ما تبقى ما عدا بقايا ذلك الخبز , فمهما كانت البقايا صغيرة
أوقد تبللت بمرق أو علقت بها بقيا من أرز أو دسم , إلا أنها تحرص على جمعها ووضعها في قدر أو إناء خاص ,فقد يؤكل ما تبقى فاتراً
على وجبة العشاء وقد يضاف على البقايا صغيرة الحجم قليل من مرق أو لبن أوكلاهما معاً لتصبح أكثر طراوة وهو ما يسمى(
بالمرشوش) كناية عن الرش بالمرق واللبن ويتم تناول المفحس أو المرشوش طازجاً وقد يتم تسخينه لأكثر من مرة وتناوله لإكثر من
يوم ,بل بالعكس فأني أجده ألذ في اليوم التالي بعد تسخينه , كذلك قد يتناوله كبار السن فاتراً مع قهوة الصباح .
إذاً وكما يتضح للجميع فأن رغيفنا المقدس هو" الخمير" ويصنع من حبوب الذرة الرفيعة التي يتم إنتاجها عن طريق الزراعة البعلية
"الزراعة البعلية هي إحدى أنواع الزراعة التي تعتمد على مياه الأمطار والسيول في سقاية المزروعات"
سؤال / ما هو سبب إنفراد هذا النوع من مأكولاتنا القديمة بكل هذه الأسماء وكل هذه الخصوصية ...والأهمية والقدسية؟
صدقوني ليس للأمر علاقة بالغنى أو الفقر , وصدقوني أيضاً بأن أهميته لم تهتز يوماً بارتفاع أو انخفاض السعر, وأجزم بأن الجميع من
بلاد شمر أو في بارق مروراً بمحايل وصولاً إلى سهل تهامة الوسيع يرون في الخمير الغذاء الذي تجتمع فيه الفائدة والطعم البديع.
إلا أنه بالرغم من وفرته ومعقولية ثمنه (ربما اختلف الوضع الآن) فقد استمر السلف في توريث الاهتمام والتقدير للخمير وهو الغذاء
الأساسي و الاستهلاكي الذي ينتج بكثرة ويستهلك بكثرة , وليس كالكافيار مثلاً الذي يعتبر نوع من الترفيه والبذخ لا يقدم إلا على موائد
الطبقات النخبوية ولا يتناوله إلا أبناء الأسر الأرستقراطية .
- إنني أرى .. وهل ترون .. ؟ أن هذا الاهتمام ربما يؤرخ لحقبة من التاريخ ساد فيها الجوع والمجاعات , فكان من يجد حفنة من ذرة
له ولأسرته كأنما ملك الدنيا وما فيها , ألا يفسر ذلك أن الناس رجالاً ونساء وعائلات كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر قاطعين مسافات
طويلة مستخدمين دوابهم في التنقل وقد لا يجد البعض ما يركب.. والاتجاه واحد .. " الوادي الفلاني قد سال وأرض أهل تلك الديار قد
ارتوت" والهدف .. " العمل في تلك الحقول أُجراء أو شركاء ليس في ثمن أو مال وإنما في نصيب متفق عليه مما قد تنتجه تلك الأرض
من محصول الذرة .
ألا ترون أن ما يحدث في أيامنا هذه إنما هو انعكاس لما حدث قديماً وكأنه نوع من شكر النعمة " ولان شكرتم لأزيدنكم" , أم هي وصية
متوارثة وعالقة في الأذهان منذ القدم تخبر بأن هناك مجاعات قادمة ... هذا ما أتمنى أن تشاركوني فيه الرائي وللحديث بقية ....
التعليقات (0)