الاشياء من حولي ترتجف كجسد هزيل.. والبرد يتسلل الى الغرفة مثل لص ينفذ بوقاحة ليشاطرني السرير.. والهواء في رئتي يتقلص حتى يكاد ينفد فتضيق الانفاس.. تتلاشى.. تنتحر في صدري وتتركني اصارع البرد والليل.. واتشبث ببقايا حلم عن دفء نهار مشمس..
في مثل هذا الوقت ربما تكونين قد بدأت رحلتك الطويلة الى هناك.. الى حيث ذهبت تنشدين الهدوء والدفء والنهارات المشمسة.. حيث تتلاشى الاشياء والاجساد بين الزحمة وهرولة الساعات. لا اعلم ان كنت وصلت الى (روما) ام انك ما زلت الان في الطريق.. ليس مهما ان اعرف فستصلين على اي حال.. ستلقين بحقائبك في اول فندق يصادفك.. وربما سترمين باخر الذكريات من النافذة لتذوب مع قطرات المطر..
كم حاولت عبثا ان اثنيك عن عزمك.. واقنعك بالبقاء ، وكم عملت جاهداعلى ابقائك محنطة داخل هيكل اخبئه تحت جسدي المنهك لئلا يمسه البرد ويصيبه الليل بالوحشة..الا انني اخفقت، فشلت في ذلك، ضعفت امام اصرارك وتمردك.. امام ثورتك فلملمت اشلائي وركنت الى سريري..
(( لاتحاول فقد قررت.. قررت ان ارحل.. ان اتخلص منك ومن هذا الليل الذي يحتل ذاتي ، ومن هذا البرد الذي يضطهد جسدي.. سارحل.. لا تناقشني بالامر ارجوك..
ـ ولكن. ولكن ماذا عني انا.. كيف ستتركينني وحيدا في هذا الليل.. كيف ستتخلين عني بهذه السهولة؟!
ـ هكذا تجري الامور احيانا.. فقد سئمت الحياة هنا.. سئمت المساءات العفنة والساعات التي لا تكاد تنتهي... سئمت اصوات الرصاص ،، وهي تحيل الليل الى كوابيس متواصلة ،، ومللت انباء الحرب والاغتيالات والمهاترات السياسية..
ـ والحب؟!
ـ لايعني لي شيئا.... انه هلوسة... يمارسها الحمقى ويقنع بها الضعفاء.. الحب لا معنى له وسط موت يومي يلاحقنا ويظهر علينا من كل مكان..))
جسدي لايكاد يحتمل اكثر ، فالبرد شديد هذه الليلة ومدفأتي الهرمة لا تقوى عليه.. والشمعة الى جانبي اخذت تتلاشى وسرعان ما تخبو وتتركني وحيدا مقرفصا تحت غطائي اعاني البرد والظلمة.. وسكون مرعب متواصل تقطعه بين الحين والاخر اصوات رشقات رصاص يثور من هذا الجانب او ذاك.
((سارحل الست مصدقا ساذهب الـى حيث الناس يعبثون بالالعاب النارية لا بالرصاص والقنابل اليدوية واصابع البارود... ساذهب الـى هناك لأسـتمتع بمنظر الغروب وانا اراقب الزوارق العائدة الى شاطىء دافىء.. ولتبق انت هنا.. ولكنني لن اكون جاحدة معك.. سأراسلك باستمرار وسابعث اليك باول صورة لي التقطها بثيابي الجديدة ، وحياتي الجديدة. وسأطلعك على اخباري وعلى نجاحاتي... وبالمقابل لا اريد منك ان تبعث الي باية رسـالة.. باية كلمة ارجوك لانني اعلم مسبقا ماذا ستقول وما كنت لاسافر الا هربا منك ومن كلماتك التي ما عاد لها وقع على اذني))
عقارب الساعة تسير ببطء وكأنّها تجمدت من شدة البرد.. وانا انتظرالفجر بفارغ الصبر.. انتظر الشمس لتغمر الارض بشيء من الدفء ولترفع البرد عن جسدي علني اغفو ساعة واحدة انهض بعدها وفي اوصالي شيء من القوة يساعدني على اكمال نهاري الذي سيكون مثقلا مثل باقي نهاراتي السالفة.. الا انني مازلت اسمع اصوات الرصاص وانفجارات بعيدة مما يعني ان الفجر لم يحن بعد ومازال امامي وقت طويل مع الليل والبرد..
((كم كنت تحبين الليل.. لانه الوقت الوحيد الذي كنت تمنحين فيه جسدك قسطا من الراحة، كنت تأوين الـى فراشك وسرعان ما تغطين بنوم عميق.. كان السرير بالنسبة اليك محطة تلقين فيها احمال النهار ومشقة يومك المنصرم وتعب الساعات الطوال، اما انا فقد كنت اكره الليل والنهار معا..لان الاثنين كانا يسرقانك مني.. كنت احسدك دائما لانك تنامين بهذه السرعة.. واحزن كثيرا لانك تتركينني وحدي اقلب رأسي بين افكار حمقى واحلام ساذجة.. كنت اغرق نفسي في اللاشيء.. في اللاجدوى بينما كنت تخططين للفرار.. للبحث عن ذاتك في مكان اخر.. وسرير اخر وربما مع رجل اخر..))
الصباح يكاد ينبلج وينهي اخر مشهد للبرد والظلمة.. نهضت من سريري.. تناولت سيجارة ورحت افرغ الدخان بشراهة في جوفي.. فاحسست بعروقي تتمزق.. تتمزق ببطء وكدت حينها اسمع جسدي يلعنني بشدة وسخط .. فتذكرت كم كنت تكرهين السجائر وكم كنت تنصحينني بان اقلع عن التدخين وفي كل مرة كنت اصمت فتنظرين الي باشمئزاز كاي امراة تنظرالى رجل تعوزه الارادة وينقصه ما يكفي من الشجاعة للسيطرة على نفسه ورغباته.. الا انك لم تفهمي ابدا بان ثمة هاجسا في داخلي لا اقوى على البوح به كان يدفعني الى ادمان التبغ.. والى الابد..
خرجت من غرفتي منهكا مثل كل صباح وذلك الشعور بانني نسيت شيئا ما ورائي يخالجني ولا يكاد يفارق راسي المتصدع.
الشوارع في المدينة توشك ان تختنق بالسيارات والناس، والارصفة بدأت تجف بعد ليلة طويلة عانت فيها من الندى والبرد، والشمس اخذت تستجمع قواها بين بقايا الغيوم.. دخلت الى مكان عملي، جلست الى مكتبي واخذت احدق طويلا بالموقد الى جانبي.. الموقد المطفأ ابدا.. الساكن مثل ميت..
((كم اتمنى لو اننا الان نجلس الـى هذا الموقد وقد توهجت فيه بضع جمرات.... نرتشف القهوة ونتحدث سويا على ضوء شمعة صغيرة خافتة.... تصوري كم ساكون سعيدا وانا احدق بعينيك السوداوين فيما تهمسين انت في اذني.. تهمسين وانا صامت استمع اليك تعزفين لي سمفونيتي المفضلة..
ـ كم انت ساذج.. تحلم باشياء لا مكان لها بيننا.. يا عزيزي.. هذه الحياة التي تتحدث عنها لم تخلق لنا.. لم تخلق لاناس لا يعلمون متى يموتون وفي اي زقاق وعلى يــد من.. هـذه الاحلام ممنوعة علينا.. مادمنا نغفو مسـاءً على صوت عبوة ناسفة ونستيقظ في الصـباح على نبأ انفجار سـيارة مفخخة التهمت اجسـاد عشـرات الابرياء...
ـ ولكن مازلنا نقوى على الحب.. ومازال امامنا بصيص من الامل لان نحيا بشكل سوي، وان يعشق بعضنا البعض ونتحدث عن الحب والغزل والعناق وو..
ـ ارجوك لا تكثر من الكلام.. اجّل الحديث في الموضوع الى وقت اخر.. الى زمان اخر..))
افرغت قدح الشاي في جوفي.. ثم نهضت من مقعدي ورحت اتخطى في المكان....
ـ صباح الخير
ـ صباح الخير
ـ سمعت بآخرالاخبار؟
ـ لم اسمع شيئا. ماذا هناك؟
ـ عثروا على سيارة مفخخة قرب احد المشافي، ضبطوها قبل ان تنفجر ببضع دقائق.
ـ ههه.. وما الجديد في الامر؟!!
((ـ حبيبتي يقولون ان عبوة ناسفة انفجرت صباح اليوم في احد شوارع المدينة.. واسقطت ثلاثة عشر قتيلا..
ـ الم اخبرك... الم اقل لك بان هذه الفوضى لن تتوقف ابدا.. فالموت والدماء تحاصرنا من كل مكان... واجسادنا المتعبة لاتقوى على المطاولة وليس امامنا سوى الاستسلام او الهرب.... فالاشياء من حولنا تتناثر تتهرى مثلما تتناثر الشوارع والمحال واجساد الناس بانفجار عبوة ناسفة او سيارة مفخخة.. ومثلما يتمزق جسد هذه المدينة في كل يوم..
_ آه.. كم انت يائسة.
ـ انا لست يائسة انـا واقعية فلو كنـت يائسة لمنّيت نفسي باحلام فارغة ، مثلما تفعل انت.. والحمد لله الاحداث تؤكد صحة قراري كل يوم.. تثبت بانني على صواب..
ـ انت تهربين..
ـ لا.. انا اتشبث بالحياة.. ادافع عن حقي المشروع بالبقاء.. انت لا تفهمني.. تريد لنا ان نبقى نحن الاثنين قابعين تحت وطأة اليأس ننتظر اللحظة التي يتمزق فيها جسدانا بشظية حمقاء او رصاصة قذرة.. ياعزيزي ارى ان من الحماقة ان يموت الانسان بهذه الطريقة..))
الوقت يمر بسرعة قطار فقد رشده.. وعقارب الساعة تسير على عجل نحو ليل جديد.. وبرد آخر.. انها الثالثة بعد الظهر، وفي مثل هذا الوقت من كل يوم اعتدتِ المجيء الى العمل.. رميت قلمي على المنضدة واخذت انظر الى النافذة.. اتخيلك تدخلين وتجلسين الى جانبي وانا احدق فيك طويلا، اراقبك وانت تتحدثين وتمازحين الاخرين، تخبرين الزملاء في العمل عن فنجانك وكيف تنبّأ لك بحياة افضل.
((انا سعيدة جدا.. اليوم..
ـ حبيبتي... اتمنى ان تكوني سعيدة طوال حياتك.... ولكن اخبريني ما سر سعادتك المفاجئة؟!
ـ الفنجان.. تصور قارئة الفنجان اخبرتني بانني ساسافر قريبا.. ربما بعد شهر أو أقل.. سأرحل أخيرا.. سأغير ثيابي.. وحياتي.. والى الابد.
ـ امازلت تصدقين المنجمين والعرافات؟
ـ ولم لا..؟
ـ انهم منجمون..؟!
ـ الحياة ياعزيزي.. رهان كبير.. وضربة حظ لايدركها الا هؤلاء.. سأسافر.. اتسمعني فلا تحاول معي.))
انكببت على اوراقي ثانية. وغرقت في روتين ممل بليد.. فلم اعد اشعر بالاشياء والاخرين من حولي..
ـ امازلت جالسا هنا؟!
ـ ماذا في الامر؟
ـ انهض فثمة خبر مهم يبثه التلفاز..
كان الجميع متجمهرين حول الجهاز الذي بتّ اكرهه من كثرة ما يبثه من اخبار قذرة.
نظرت في الشاشة، كان وزير الداخلية يتحدث في مؤتمر صحفي.. يخبر الصحفيين بصوت اجش ونظرات حادة بان معلومات وصلته عن تسلل مائة ارهابي عبر الحدود وانهم يخططون الان لتنفيذ عمليات ارهابية وكان يدعو الناس الى اتخاذ الحيطة والحذر وببساطة شديدة كان يدعوهم الاّ يخرجوا من بيوتهم ، وان يمنعوا اطفالهم من الذهاب الى مدارسهم ، بان يفرغوا الشوارع حتى يعقد(السيد الوزير) مؤتمرا اخر يعلن فيه بان الارهابيين افرغوا ما بجعبتهم وعادوا الى اراضيهم سالمين!!
عدت ادراجي الى مكتبي فيما استمر الاخرون بالضجيج والتعليق على تصريحات الوزير واسئلة الصحفيين..
((هل قرأت الرسالة التي كتبتها لك؟!
ـ قرأتها.. ولكن على عجل
ـ انت دائما تفعلين ذلك
ـ وماذا تنتظر .. هل تعتقد انني ساحفظها عن ظهر قلب.. هل تظن بانني كنت سأخبئها تحت وسادتي ، وانام لكي احلم احلاما وردية.. انت بائس جدا..
ـ اشكرك
ـ على ماذا تشكرني.. ياعزيزي لم اكد ان افرغ من رسالتك حتى سمعت صوت انفجار ضخم وقع بالقرب من المقهى التي كنت فيها. فضج الجميع من حولي وامتلأ المكان باصوات الرصاص وسيارات الاسـعاف ، الم اخـبرك بانـك اقدمت على الحـب في زمن المـوت والاوقات الحزينة)).
ـ استاذ.. موظف البريد احضر لك هذا الظرف ، وقبل ان يكمل موظف الاستعلامات جملته شممت عطرك ينبعث من داخل الظرف رايت صورتك تفترش غلافه وضحكاتك تصدح منه ، تخترق مسامات الورق وتستقر في اذني، ثم تخترق روحي بقوة.. تناولت الرسالة وفضضت الظرف على عجل.. انها بالفعل رسالة منك.. انها الرسالة الاولى.. الحمد لله.. لقد وصلت بسلام..
بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزي.. اعلم انك لست على مايرام.. اما انا فبخير.. انا سعيدة اكثر مما تتصور لقد وصلت الى (روما) في وقت متأخر من الليل.. الحياة هنا مختلفة تماما فكل شيء على عكس ما تركته لديكم.. الناس هنا مختلفون ، والاشياء مختلفة ، والوقت كذلك. استأجرت شقة صغيرة. ولكنها تفي بالغرض فهي كافية للملمة جسدي واغراضي.. وغرفة نومي تكفي لشخص واحد (لا تقلق) .. عدني الاّ تكتب لي اي شيء واية رسالة مثلما اتفقنا، وسأواصل انا الكتابة اليك..
المخلصة
طويت الرسالة.. وخبأتها في جيبي.. لئلا ينتبه اليها احد.
ـ استاذ.. الا تغادر فقد غادر الجميع.. والدوام انتهى ولم يبق في البناية سوانا..
خرجت.. اخط طريقي بخطىً ثقيلة.. والشمس حينها شارفت على الغروب.. والحرارة اخذت تنخفض.. ولم يبق لي شيء افعله سوى ان اذهب الى غرفتي النتنة.. الملم جسدي واندسّ في سريري الذي سبقني اليه البرد والظلام.
التعليقات (0)