في سنة 1996م وصلتني رسالة عن طريق البريد العادي، وذلك بداية ظهور الشبكة المعلوماتية التي وفرت علينا جهداً كبيراً، حيث كانت الرسالة تأخذ وقتا طويلاً، يستغرق الأسبوع أو أكثر حتى تصل إلى الجهة المرسلة إليها، بينما وفر هذا المجهود الجبار علينا وقتاً وجهداً، فبكبسة زر واحدة تكون رسالتك قد وصلت لآلاف الأشخاص، وكانت هذه الرسالة التي وصلتني عن طريق البريد العادي مرسلة من شخص يزعم أنه خادم حجرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم– ويدعي انه رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم– في المنام وأوصاه بمجموعة من الوصايا كما يزعم من سمى نفسه بالشيخ احمد، ويطلب من كل شخص تصله هذه الرسالة أن يعيد إرسالها إلى مجموعة من الأشخاص، ولا يهملها، وإن أهملها ولم يرسلها فانه سيصيبه حزن شديد، وذكر أن طالباً أهملها قبل دخوله الامتحان فخرج صفر اليدين، وأن تاجراً أهملها فاحترقت بضاعته وخسر أمواله، وأهملتها أنا وقتها ومرت الأيام بي وأنا على حالي، وبين يدي الآن رسالة أخرى وصلتني عبر البريد الالكتروني وهي تحمل نفس الفكرة السابقة، وأن فتاة من فلسطين قد رأت رسول الله – صلى الله عليه وسلم– في المنام، وأن من يهمل إرسال رسالتها سيصاب بحزن شديد، ومثل هذه الرسائل باتت تصلنا كثيراً عبر الايميل وطرق أخرى، وهي تنتشر انتشار النار في الهشيم بين شبابنا، واذكر منها على سبيل المثال رسائل ما زالت تصلني منذ سنتين وأكثر، تقول: أنه سيتم حرق المصحف يوم السبت في الدنمارك، حتى أنني بت أترقب هذا السبت لأجهز نفسي للخروج، كما نخرج في كل مرة يتم فيها الاعتداء على دم مسلم أو انتهاك حرمة بيت من بيوت الله أو تمزيق مصحف أو سب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم– لأصرخ واصرخ وأقوم بواجبي، وأعود ليلاً إلى البيت مبحوح الصوت.. مقنعاً نفسي أنني قمت بواجبي، وفي اليوم الثاني أعود إلى عملي وكأن شيئاً لم يحدث، المهم أنني هذه المرة انتظرت هذا السبت، ولكن هذا السبت لم يأتي، وبقيت الرسائل مستمرة!!
وكذلك بعض الايميلات التي تصلني منذ مدة طويلة، وتقول: بأن الايميل سيتم حذفه إذا لم تقم بإرسال رسائل إلى 18 شخصاً، وغيرها من الايميلات التي باتت تصلنا بشكل شبه يومي وتخبرنا بأنه قد وقع الاختيار على بريدنا وأننا قد ربحنا ملايين الدولارات أو الجنيهات، وهي التي أوصلت شاباً سعودياً إلى عدة دول جرياً خلف هذه الجائزة الوهمية، وكلفته عشرات الآلاف من الدولارات، ولم يجنى سوى الوهم، واذكر أن صديقاً لي وصلته رسالة كهذه، فبقي ثلاثة أيام يفكر كيف سيتصرف بمبلغ كهذا، وبدأ يبني آمالاً معلناً لنفسه أنه قد ودع حياة الفقر وللآبد، سيعطي هذا وسيحرم ذاك، وأخذ بإرسال الرسائل إلى هذا المرسل يخبرهم انه مستعد لاستلام الجائزة، وجاءه الرد في البداية بأنهم سيرسلون له شهادة تقدير باسم الشركة التي انتحلت اسم شركة عالمية، بعد أن يرسل لهم جميع معلوماته الشخصية، وبعدها طلب منه أن يقوم بإرسال مبلغ من المال لكي يتم عمل إجراءات من أجل تحويل المبلغ له، ولولا نصيحتي له بأن هذا الأمر ليس سوى احتيال لكان ذهب وقتها ضحية لهؤلاء العابثين.. بل إن الأمر تعدى هذا إلى أجهزة الجوال التي باتت هي الأخرى مجالاً رحباً للنصب والاحتيال، والغريب في الأمر أن هؤلاء يرسلون مثل هذه الايميلات وبأسماء شركات وهمية تارة أو انتحال أسماء شركات معروفة تارة أخرى، وبأرقام تلفونات معروفة ومن بلدان اغلبها أوروبية، ورغم ذلك فإن هذه الأمور تتم عبر سمع وبصر هذه الدول المرسلة منها، وسكوت الشركات التي تنتحل أسمائها، مما يؤكد أن ما يجري ما هو إلا خطط مقصودة من أجل إضعاف نفسية المسلم خصوصاً، وجعله مربوطاً بالشعوذة والعيش خلف الأوهام.
وبات الكثير من شبابنا يشغل نفسه عبر هذه الشبكة بإرسال رسائل تصلنا ليل نهار، تنقل من خلالها أحاديث مكذوبة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم– كمثل هذا الحديث الذي ليس له أصل في كتب الحديث، "من أكثر من الصلاة عليّ سوف لا يجد السوء والأذى ساعة الاحتضار" وأخرى تنقل قصصاً تخالف الشرع، وتعنون تلك الرسائل "بالحمد لله الذي وصلتني هذه المعلومة" وتذيل بحديث لرسول الله – صلى الله عليه وسلم– ودعوة إلى عدم وقوف هذا الايميل عند جهازك، ودفعه لإخوتك ليكون صدقة جارية لك، دون أن يكلف أحدنا نفسه بالتأكد من نقله وخصوصاً أنه وبمجرد كبسة زر يتبين له صحة الحديث من ضعفه، أو عدم وجوده بالكلية، لأن المطلوب من الإنسان المسلم أن يدعو إلى الله على بصيرة، فلا ينقل إلا ما هو ثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم– واضعاً نصب عينيه أنه من كذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم– عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ولا عذر لأحد في هذا، فالمجال لتخريج الحديث متاح للجميع، وأن لا ينقل أخباراً كاذبة غير موثقة، وأن لا ينقل ما من شأنه أن يشيع الفوضى في المجتمع المسلم، ويضعف نفسيته، ويوهن عزمه. ويقال أنه لما دخل المسلمون الفاتحون مدينة القسطنطينية، كان القساوسة يتناقشون فيما بينهم، من الذي آتى قبل الدجاجة أم البيضة، ولهذا ذهب هذا مثلاً، وبات يطلق على الحوارات التي لا فائدة منها ولا نتيجة، بأنها حوار صليبي أو حوار الطرشان. ورغم هذا التطور العلمي إلا أننا نجد الكثير منا يتفاعل مع هذه الرسائل ويعمل على نشرها، لدرجة يخيل فيها أن هؤلاء الذين يقومون بنقلها قد أصابهم غسيل دماغي، وأي غسيل هذا، إنه غسيل وبشكل جماعي!! يهيئ لصاحبها أنه إذا ما تقاعس في هذا، فإنه سيصيبه ما أصاب قوم نوح أو قوم لوط ، وما نهاية الاتحاد السوفيتي عنه ببعيد.
نحن لسنا ضد إي عمل صالح، بل نحن من نشجع على هذا، ولكننا ضد أن يعتقد الإنسان بأن ما يقوم به من أمور تخرج عن إطار الشرع بأنها عمل صالح، فهنا المشكلة، وفي هذا يقول عز وجل:" وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ" الزخرف36-37، وهناك الكثير من الأمور التي يمكن أن نفعلها ونستفيد بها في دنيانا وآخرتنا، فمثلا لو قام أحدنا بإرسال تفسير آية من أحد التفاسير المعروفة كتفسير القرطبي أو ابن كثير في كل يوم يرسل آية وتفسيرها إلى أصدقائه، أو إرسال أحاديث لرسول الله – صلى الله عليه وسلم– من الصحاح مع تفسيرها، أو محاضرات لأحد الشيوخ الأفاضل، أو معلومة دينية أو علمية أو ثقافية، بدل أن نقوم بإرسال قصص وآثار لا صحة لها، تعمد بالإنسان إلى الكسل، والإهمال، أو نشر إشاعات كاذبة، تزيد الأمة وهنا على وهن، وفي النهاية لا يمكن أن تصل بنا سوى إلى السراب..
وما يجب علينا فعله: أن نعود أنفسنا على السير بشكل علمي من خلال المعرفة والفهم، وما يتوافق مع الدين والعقل، لا من خلال الشعوذة والخرافات والنصب والاحتيال، خيراً لنا من أن نعمل أعمالاً نلبسها لبوس الدين، والدين منها براء. وبهذا نكون قد حصلنا – بإذن الله – على الحسنات التي كنا نروم الحصول عليها، وذلك بعد أن وضعنا الأمور بطرقها الصحيحة والسليمة، بدل أن نقوم بأمور نعتقد أننا من خلال فعلها نقوم بسن سنة حسنة، ولكنها على العكس من ذلك تكون وبالاً على صاحبها ويكون قد سن بها سنة سيئة يكون عليه وزرهاً، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
والجهل لا يفضي بالإنسان إلا إلى التيه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ما نعانيه من أزمة في الوعي، فإذا كان هذا حال شبابنا، فأي معرفة سنحقق على أيديهم؟! لكي نضع أرجلنا في بداية الطريق الصحيح لا بد أن نتعلم أولاً كيف يمكن للإنسان المسلم أن يحترم عقله وتفكيره، لا أن يكون إمعة، إن أحسن الناس أحسن وإن أساء الناس أساء، ثم نسعى بعدها إلى أن نقوم بتعليمه العلوم التي تخدمه في صعود سلم المجد، وتصلح له دينه ودنياه، وتزيده علماً وثقافة، لتصل به إلى معرفة متفتحة ومدركة، وبهذا نكون قد افدنا واستفدنا وكسبنا الحسنات وبالطريقة الصحيحة، بدل أن نقوم بنقل الشعوذة والدجل ونشر الإشاعة، والذي سيعطي انطباعاً عما نعانيه من ضحالة في التفكير، وما نعيشه من أزمة في الانتماء، وما نعانيه من فقدان لهويتنا كمسلمين. ولن نبقى عندها إلا متخبطين نجري خلف سراب، " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" الزمر9. وفي الأخير لنتوقف عن نشر مثل هذه الرسائل وليكون لسان حال الواحد منا: أعاهد الله أنني لن أرسل هذه المعلومة لأحد.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين
احمد النعيمي
Ahmeeed_asd@hotmail.com
http://ahmeed.maktoobblog.com/
التعليقات (0)