الرحيل إلى جسد البهاء
بقلم: البشير عبيد
كانوا قبل قليل قادمين من بساتين الرؤى و صاروا بعد يومين ذاهلين تماما. لم نكن ندرى لم كل هذا الذهول و ضوء القمر ساطع على مياه النهر، و أخر من تبقى من أصدقاء الأمس البعيد تاهت خطاه في المنعطفات و لمست تضاريس الحنين. لا يخاف القتيل من سطوة القاتل، و الكاهن لترهبه نواقيس الكنائس. يكتبون الصفحات التي تدعي الاستنارة، و يتوهمون البحث عن المشهد الأخر و هم غائبون عن بهاء الكرنفال، و يتناسون دروس الماضي القريب. دائما يتناسون ما قاله الأسلاف القدامى، و لا ترهبهم رهبة المقابر و أنين النساء الطالعات من أعماق الدهاليز. ربما لا يعرفون أن ورائهم تلالا و أولادا و أزهارا و أحلاما لم تتحقق و مدنا تتأهب للابتعاد عن غيمات الضواحي. ربما لا يعرفون أن الأجساد المتعبة لا تخاف من القلق القادم، و الأطفال الذين لا يلعبون بالدمى في ساحات المدارس، يحفظون الأناشيد و يتأنقون تأهبا لمقدم أحد الأصدقاء القابعين في القبو. بعضهم ترجى لو يصبح البحر الساخن ماء زلالا ليغسل الشوارع و الأزقة و البيوت، و تباغت أصوات الدفء صقيع الأبدان المترهلة، و تبث إحدى الإذاعات خبر انبهار الفصول بالألوان، و ارتطام جدار الحياد بصخور الرهبة. السماء خالية في هذا الصباح الشتائى من أي رذاذ مفاجئ أو طيور معاكسة للريح. المقاهي المكتضة بالهاربين من أسئلة الحاضر و المستقبل تصير أكثر هدوءا بعيد الغروب، و المسافة بين الجسد و القناع تزداد اتساعا، و الأرض الحبلى بالهائمين و العطشى تزداد انفتاح على أشرعة الشروق. أحد الجالسين في مقهى »فسيفساء « يسأل الراجل الغامض : ما العمل ؟ فيوجبه على الفور : عابر سبيل.
- الهواية ؟
- تصفح الجرائد القديمة و الذهاب كل مساء إلى ينابيع الرؤى.
- إلى أين أنت ذاهب ؟
- راحل إلى مشهد الغيم و تأخذني خطاي إلى المدائن التى تعرفوا منام المزارعين و عشاق موسيقى الجاز.
- كيف تنام وحيدا في الغرف المظلمة ؟
- معي حبري و صمتي و الفاكهة. و كل الطيور تعرفني و الحافلات و القطارات تتذكروا وقع أقدامي. جسدي لا يخاف من المجهول.
- كيف صرت تتجول في التخوم بلا امرأة فاتنة أو سجائر أو نبيذ باريسي ؟
- هذا ما فعلته بى المنعطفات. لست خاسرا في النهاية. وحده التاريخ يعرف من سيبقى راسخا في ذاكرة العالم.
لا شيء يشبه جسد الليل
و لا أحد ينحني أمام ملكوت البياض
الكون غيم كبير يغطى تفاصيل الحكاية
و الشوارع ابتعدت عن هدوء الشرفات
نسير فرادى إلى هدوء النهر حاملين الحقائق و المعاطف و الأزهار. ليس مهما أن يباغتنا الثلج الكثيف و تترقب مجيئنا جموع الأمهات الحاملات سلال الثمار و كتب المسائلة. ليس مهما إطلاقا أن يدعى لصوص المدينة أن أسلافنا لا يفقهون من الدنيا سوى الصراخ و العويل و عبادة الماضي. ألم يكونوا مغرمين إلى حد الهوس بمتابعة معارض الفنون التشكيلية و قراءة النصوص المشاكسة بمقولات السائد. ألم يكونوا أكثر إصرارا من ذي قبل على الخوض في كل المسائل بلا حرج أو خجل من يحبوا البحر لا بد أن يتحمل مرارة الملح. أن تكون جريئا و عنيدا و بعيدا عن الربوة، حتما ستصلك اليوم أو غدا شرارة النار. ربما تحترق و تصير رمادا صالحا لتأثيث المتاحف، و قد تنام على سرير حديث تحت ضوء شموع البوادي. أسلافنا القدامى لا يخافون من غياب القمر و كثافة الظلام و انحصار الضياء في دوائر ضيقة. يحبون صهيل الخيول و هدوء الخيام و متعة الجسد بقراءة النثر و الشعر. هل اختفت غرناطة من ذاكرة البعض و صارت المدن غائمة. وحده الضباب يلف العالم بلا موعد سابق. الرياح تأتي في أوانها و الرذاذ يبلل ما ترسخ في القلب. يأتون من بوابات الماضي غير مكترثين بالصمت المطبق على الصدور و الانتظار الذي لا تخفيه العيون. لا تخيفهم شرفات الكئابة و الجموع الغفيرة تتقدم باتجاه بياض المنعطفات. ماذا ستقول عنك بنات الحي العتيق و السماء بلا أفق أو شمس أو طيور مهاجرة. لا أحد بإمكانه مواصلة المشوار طالما عازف الناي توقف عن العزف و ذهب صامتا إلى كيانات الصقيع.
الرجل القادم من الضواحي، لا تخيفه العواصف، و لا تمنعه الرياح من الاستمرار في العناد و النهل من المعارف و الأفكار و الرؤى، فالأقاليم بطبعها في حاجة أكيدة لرجال من هذا الطراز، لكي تتواصل المسيرة و يسير الكائن الباحث عن سماء و هواء و فتيان هائمين، ليعلن أمام الجميع أن لا أحد بإمكانه احتضان الأسئلة القابعة في الرأس سوى المدن العتيقة العابقة بالدفء و الحنين و الباحثة بدورها عن مشروعية تاريخية و حضارية لديمومة الحياة و استمرارية الخصوبة. هل علم البعض أن طائر الفنيق يحلق دائما خارج الزمان و المكان تفاديا لضربات الجلاد و إمعانا في النهل من ثقافات العالم. وحده هذا الطائر يرحل إلى جسد البهاء، حيث الصفاء و النقاء و براءة المشهد و حرارة الروح و انفتاح الضمائر على الأحلام و الانكسارات و الهواجس. الصحف و الكتب الباهتة لا تعنيه.. ما يهمه هو السفر و طرح التساؤلات الوجودية أمام الجموع الغفيرة، لعل أحد الأولاد يباغته بجواب فصيح يفسر له تداعيات المشهد الجنائزي.
ربما كانوا خائفين من الغيم
و صاروا اليوم حالمين بالمدى
فهل بعد عقود سنسأل أحفادهم
عن السر الكامن في الملكوت
و النور الطالع من الصفحات..
التعليقات (0)