إليها ..
إلى أمي …
وإلى كل أمهات العالم…
وبدون إستثناء.
الرجال لا يبكون ..
ومتى كان البكاء ضعفا؟
بل متى إرتبط البكاء بالنساء؟
البكاء ، يا أمي، كما الضحك، كالإنشراح ، كما القلق ، مشاعر إنسانية لا علاقة لها بالجنس ذكرا كان أم أنثى . “الرجال لا يبكون” من قال هذه الكلمات البليدة، الخالية من الإحساس والشعور. “الرجال لا يبكون” مخطىء من قال هذه الكلمات وآمن بها للحظة من الزمن ، بله لردح من الوقت.
حين بكيت تلك اللحظة، ولم أتمالك دموعي ، أمام الجميع ، أمام عائلتي الصغيرة، والزوار الدين ملؤوا الغرفة الصغيرة ، لم أحس بالخجل ، لم أحبس دموعي ، بل جعلتها تسح على خدي ، هكذا بحرية.ولما أحس بالخجل وأنا لم أقترف جرما ، بل تركت نفسي ، هكذا، على سجيتها ، أعطيت لذات نفسي كامل الحرية ، في أن تنفجر ، أن تصرخ دموعا حبيسة بقلبي العليل, هكذا كنت وما زلت أعتقد الحياة ، التلقائية والعفوية، أضحك حين أحس برغبة شديدة إلى الضحك ، وأترك نفسي على سجيتها حين أحس بالإختناق والغضب ،لا أعتبر البكاء ضعفا والإبتسامة إنتصارا ، فالفرد منا كتلة من المشاعر والأحاسيس الإنسانية المتناقضة.
الطبيب ، حين حدثني بلغة الواثق من نفسه ومن إمكانياته الذاتية ، لكي يزرع في الثقة بدوري “أن لا تخف، فأنت لست وحدك ، لست الأول ولا الأخير الدي سيجري عملية جراحية على قلبه ” الإبتسامة لم تفارق شفتيه ، كلماته مختارة بعناية ، عيناه موزعة بيني وبين ملفي الطبي الذي يحمل بين يديه، تحدث عن تقدم الطب ببلادنا وبأن أصعب العمليات الجراحية أجريت بنجاح بالمستشفيات المغربية، وكانت معظمها تحت إشراف أطباء مغاربة وبإمكانيات أقل ما يقال عنها أنها “متخلفة “بالمقارنة بما عرفه المشهد الصحي بأمريكا وأوروبا . رغم كل ذلك قام الفريق الطبي بعمليات ناجحة شهد لها الكل داخل وخارج الوطن.
ضاعت كلماته المتبقية ، بين دموعي، وصور من ذكرياتي الماضية، صور إنتالث على ذاكرتي، هكذا ،في لمح البصر.
صور من الماضي البعيد ، من الطفولة البريئة ونزق المراهقة وعنفوان الشباب وبداية الشروع في النضج …تحدث الطبيب طويلا عن ظروف إجراء العملية وعن نسبة نجاحها ، كان يحاول جاهدا أن يضعني في الصورة ، قبل أن تتكلف الممرضة بنقلي إلى غرفة العمليات، متعبا كنت ، فقد طال بي العهد في المستشفى ، بين التحاليل الطبية وكشوفات الطبيب ، حتى أنني كدت أنسى كل شىء ، فالفترة التي قضيتها في غرفة الإنعاش والأجواء الطبية من آليات وتجهيزات معقدة ،لا تحتمل الخطأ والإهمال ،لأن ذلك يعتي أوتوماتيكيا الموت. كادت تنسيني من أنا ولما وجدت فوق هذه البسيطة.
لست أنكر أنه كانت لي أحلام تمتد إمتداد زرقة البحر ،”لكنها الظروف ” كما جاء على لسان المطرب الشعبي، كانت وراء تواجدي ها هنا ، أن تجد نفسك على حين غرة ،بين أفراد لا تجمعك معهم إلا غرفة صغيرة معقمة ضد الميكروبات
والتعفنات ، ولكل أحلامه وقصته مع المرض والموت والمعاناة . وصمت طويل لا تكسره إلا الآهات والدموع.
لغة الصمت كانت مشتركنا ، ففي أحايين كثيرة تبدو الكلمات تافهمة ، بليدة ، لا تعني أكثر مما تقول .
“القلب”"العملية”"الطبيب الجراح”"مصاريف العملية”"الله” كلمات متقاطعة ولا شيء ، غابت ملامح الدكتور أمام الدموع التي ملأت وجهي ،”ليس أمامك إلا الامتثال لأوامر الطبيب المعالج ،أما مصاريف العملية لا شأن لك بها فقد تكفل بها المحسنون والأهل والجيران والمقربون منك ، وهذا قدر الله ليس لك إلا الخضوع له وأن تمد يدك إلى خالق السموات والأرض ، فهو القادر على شفائك ، هو قادر على كل شيء ،…”كلمات أمي كانت مختارة بدقة و عناية ، أعرف في قرارة نفسي أنها تغالب دموعا سخينة بداخلها ، ولكنها تكابر أمامي ، لم يكن أمام أمي بدورها إلا الامتثال لأوامر الممرضة ، فوقت الزيارة قد أنتهى ، وظروفي الصحية لا تسمح بكثير كلام ، لحظتها كنت متعبا لدرجة الموت من كثرة التحاليل والكشوفات الطبية بحثا عن سر هذا الداء المجهول.
ممدد أنا فوق السرير ، عار كما ولدتني أمي ، الفريق الطبي يحوم حولي ، على رأسهم الطبيب الجراح ، كخلية نحل ، لكل موقعه ومكانته، بين الحياة والموت كنت ، تحدث إلي الطبيب طويلا ، والابتسامة لا تفارق شفتيه ، عن القضاء والقدر ، عن الحياة والموت، كلمات لا تشبه كل الكلمات ، لها رمزيتها ودلالاتها ، في قرارة نفسي ، كنت أقرأ سورا من القرآن الكريم ، وأطلب من العلي القدير المغفرة والتوبة عن كل الخطايا والذنوب التي إرتكبتها في حياتي الماضية ، ولاشيء ، لم أعد أذكر تفاصيل ما حدث ، فقد كنت من عداد الموتى ، الدكتور حين مدني الله بعمر جديد لم يصدق “معجزة إلاهية،أنت معجزة” مشدود أنا إلى آليات وتجهيزات معقدة ملء ذاتي ، “إنها معجزة، العملية إستغرقت وقتا طويلا ، أشياء كثيرة حدتث أثناء إجرائها ، وقد وثقنا كل هذا في شريط تسجيلي …”الطبيب لم يكن وحده بل كان إلى جانبه العديد من الأطباء في تخصصات أخرى ، طيلة مكوثي في غرفة خاصة جدا ، يمنع إرتيادها وهي وقفا على الأطباء والممرضات والمكلفة بالنظافة.
زارني العديد من الأطباء ، حين علموا أنني “المعجزة” ، الأصدقاء والأهل والجيران لم يصدقوا عودتي إلى الحياة ومن جديد ، الكل إنتظر موتي واعتبره أمرا متوقعا إلا أمي ، وحدها من كانت تؤمن بأنني سأعود إلى الحياة وإلى بعث الإبتسامة من جديد بين جدرانه ، فسنة بكاملها بين المصحات الطبية والمستشفيات العمومية كانت كافية لتنسى العائلة الصغيرة الإبتسامة البريئة والضحك ملء القلب ، كان أمامي لائحة طويلة من نصائح الطبيب والممرضة حتى يتسنى لي إعادة ولو جزء بسيط من صحتي التي لم تعد تحتمل القلق والإنفعال والغضب أو حتى القيام بأبسط مجهود عضلي بله فوق الطاقة ، أمامي متسع من الوقت لأصحح أخطائي لأعيد ترتيب أوراقي من جديد ولأكون أنا أنا .
“حمدا لله على سلامتك”صوت لا يشبه كل الأصوات أستطيع أن أميزه من بين آلاف النبرات الصوتية ، إ نه صوت أمي ، وحدها من كانت تدعو الله أن يميد في عمري وأن يمنحني عمرا جديدا ، ولا تفارق ردهات المستشفى وتسأل الأطباء والممرضات عني وعن أحوالي وتطورات صحتي ،لا يهنأ لها بال ولا يغمض لها جفن إلا بعد الإطمئنان علي ، أمي ياأجمل الأمهات بل يا أعظمهن ، ما من وقفت إلى جانبي في أصعب الأوقات ، و في أحلك الظروف ، تمدني بقوة الجأش وصلب الإرادة ، لأعود أنا أنا ، وتعود معي البسمة المغتصبة لعائلتي الصغيرة ولأهلي والأقربين إلي ، الإبتسامة التي إفتقدوها طيلة فترتي المرضية التي إمتدت بإمتداد تاريخ الجرح .
إليك أمي وإلى أمهات كل العالم ، وبدون إستثناء ، تحية إكبار وإجلال .
أوراق عن تجربتي المرضية إخترت لها من العناوين “لا أريد أن أموت”.
التعليقات (0)