الربيع العربي .. وللحديث تتمة
بقلم: علي آل طالب
توطئة
مع انطلاقة الربيع العربي، تكون قاطرة التغيير قد انطلقت، ومن الصعوبة بمكان إيقافها بكل سهولة، ولن يكون ثمة بلدٌ محل استثناء عن ذلك. وبالإضافة إلى بعض البلدان، التي تمثل اليوم قلب عاصفة الثورات، هناك بلدان - ولطبيعة نموذج الحكم الملكي أو الأميري - ما تزال تعتد بنفسها على اعتبار بأنها بمنأى ومعزل عن مؤثرات الربيع العربي، في الوقت الذي لم يأت الحراك الشعبي؛ ليفرق بين الأنظمة العلمانية المغلقة أو الدينية المتطرفة أو الملكيات التوارثيّة، وإن تدثر بالفقر والحرمان؛ ليصبح شرارة انطلاقة الثورة، إلا أن ذلك الحراك كان مقصده الحرية والأمل والإحساس بالكرامة، فكل ذلك هو الباعث الأهم الذي يقف خلفها.
ولا غرو من أن لجوء بعض الدول إلى أخذ تدابير احترازية غير مسبوقة في قيامها بخطوات استباقية، سواء تعلق الأمر بإصلاحات جذرية أو هامشية، وبغض النظر عن طبيعية التغيير ومدى مقاربته للنموذج التشاركي الديمقراطي، قد شهد المغرب أو الجزائر وكذلك قطر وعمان وأيضا السعودية شيئا من قبيل الوعود بالإصلاح السياسي، من أجل أن يكون المواطن في تلك البلدان شريكًا حقيقيّا في صناعة القرار السياسي والتنموي. الأهم هو قراءة طبيعة المرحلة وما تقتضيه من متطلبات واشتراطات، فقد ولى وإلى غير رجعة الزمن الذي يكون الشعب بعيدًا عن دوائر الفعل السياسي، حيث لم يعد مفهوم الدولة مفهوما احتكاريًا لحزب أو قبيلة أو طائفة أو فرد ... فجميع هذه الأنماط وغيرها جاء الربيع العربي؛ ليعيد انتاجها من جديد وفق تصور آخر، بحيث يكون للشعوب دورها الفاعل والعميق في بناء الدولة، وتسيير المقومات الحيوية فيها.
سيناريوهات أهداف الثورة
لا شك بأن الربيع العربي ومن خلال رافعة الكتلة الشعبية ساهم وبصورة عميقة في تحريك المياه الراكدة بعد أن كسر طوق الرتابة والتكلس، وأعاد عناوين التغيير إلى الواجهة؛ أدى بالعالم العربي برمته للدخول في منعرج تاريخي غير مسبوق، قد تخف أو تتصاعد حدة سطوته، ولربما تتأخر نتائجه من بلد وآخر، غير أن مسيرة التغيير قد انطلقت وليس بمقدور جهة ما أن تكبح جماحها ألبتة. وقد تتعدد سيناريوهات المرحلة القادمة، بيد أنها لن تخرج عن ثلاثة، السيناريو الأول: التغيير عبر رافعة الثورات والكتلة الشعبية الواسعة. والثاني: الذهاب لإصلاح سياسي موجع تبادر إليه الأنظمة ولو كان نسبيًّا. الثالث والأخير: الانعزال والبقاء على المثال التوارثي والصورة التقليدية للدولة. مع ذلك كله ولأن العالم تتغير أدوات التغيير فيه وآخذة في طور تصاعدي وتفاعلي، خصوصًا بعد أن لعبت عناصر الميديا الاجتماعية دورًا كبيرا في خلق حالة أشبه ما تكون بتضامن الشعوب مع بعضها البعض، وبكلام أكثر دقة وبعد أن دخل العالم برمته في موجة "عولمة الثورات" صار ليس بمقدور أي دولة للاستمرار في العزلة، إذ لا يمكن رسم صورة لمفهوم الدولة الحديثة دون العناية لما يجري خارج الإطار الجغرافي والحضاري.
وبغض النظر عن التصورات العديدة، التي لم تكن تحمل في حساباتها؛ بأن ثمة ثورات قادمة ستحدث في العالم العربي أو أن حراكًا شعبيًّا قد تشهده بعض البلدان العربية بمثل هذا الحجم وفي هذه المرحلة التاريخية تحديدًا، خاصة وأن الأنظمة العربية وعلى الرغم من اختلاف طبيعة أنظمتها السياسية ومكونها الهيكلي، إلا أنها بالمجمل ونتيجة لطبيعة نموذجها التقليدي والاستبدادي، هي لا تمنح الفرصة الكافية لأي حراك ديمقراطي وتنموي أو أي شيء من قبيل المشاركة الشعبية؛ لذا ليس من المفاجأة أن يأتي الربيع العربي؛ كنتيجة طبيعية لتراكم تأريخي. وسواء كان قد أخذ صيغة مباشرة أم لا، أو جاء نتيجة دينامية الفعل و رد الفعل؛ إلا أن التغيير قادم لا محالة ولو تأخر قليلا!.
وبالإضافة لعنصر المفاجأة الذي كان سمة بارزة للثورات العربية، يجدر الإشارة إلى دراما مسلسل السقوط وتواليه، بدءًا من تونس، فمصر، ثم ليبيا واليمن وسوريا والبحرين ... سقوط أشبه ما يكون بأحجار الدومينو، مما يؤشر ليس إلى هشاشة أو ضعف تلك الأنظمة فحسب، بل ولأنها في مكونها الداخلي ليس لديها من إمكانية الثقة والقدرة على إدارة الأزمات المديدة والطارئة، ناهيك عن مستويات الفساد الإداري والمالي، الضاربة في عمق جسدها المترهل. ولأسباب عدة أيضا لم يمكن الجزم بأن الفقر وحده هو المحرض الوحيد في إشعال فتيل تلك الثورات، وهذا لا يتعارض عما هو في الواقع وما تشير له الدراسات والتقاير التي تكشف عن تفشي الفقر وارتفاع مستويات البطالة في معظم البلدان العربية. فقد أشار مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية مؤخرًا إلى أن البطالة قد بلغ متوسط معدلاتها في العالم العربي إلى نحو (١٤.٨٪) منتشرة على وجه الخصوص في أوساط الشباب، الأمر الذي يجعلها – البطالة – في صدارة التحديات التي تواجه الحكومات العربية في الوقت الحاضر.
وبغض النظر عن أوجه الاختلاف في البحث عن الأسباب التي أشعلت فتيل الربيع العربي، سواء كان الفقر أو البطالة أو الفساد .. فكل ذلك لا يخرج عن جوهر البحث عن سبل الحرية والأمل والرخاء للإنسان العربي المقهور، يدخل تونس كبلد مؤسس لربيع الثورات في عهد جديد مع الديمقراطية ومن خلال دولة مدنية، ضامنة للمواطنة وحقوق المواطنين على قدر من المساواة، فلا فرق ما بين المرأة المنقبة أو المحجبة أو السافرة أمام القانون، وهذا ما أكده المنصف المرزوقي حين أداء اليمين الدستورية أما المجلس الوطني التأسيسي. وبنسبة ما أقل لا يختلف الحال عمّا يحدث في مصر وهي قد دخلت المرحلة الثانية من انتخابات مجلس الشعب، بعد أن أفرزت النتائج في مرحلتها الأولى حاز حزب "العدالة والتنمية" ووصيفه حزب " النور" على 60% من أصوات المقترعين. ولو أنه لم تكتمل فصول الثورة المصرية بعد، لكن رهان التغيير يظل ملازمًا لإرادة ووعي هذا الشعب الذي أطاح بالحزب الحاكم طيلة عقود، هو قادر اليوم أن يواجه التحديات مهما كان حجمها.
الثورة هدم وبناء
وفي السياق نفسه إنه من المبكر الحسم بنتائج الثورات عموما، لا سيما وهي في طور الترهص، أي لم تتكامل حلقاتها بشكل واضح بعد، بكلام آخر: إن الأهداف التغييرية المرجوة من واقع الربيع العربي تظل في مجال الرهانات المفتوحة والسارية المفعول، إذ لايمكننا القول: بأن الثورات قد أدت غاياتها أو شارفت على الانتهاء ما لم تُحدث تغييرًا عميقًا وملموسًا، فالثورة يختفي في جوهرها، الهدم والبناء؛ هدم نظام ماض، وبناء نظام جديد، إلغاء نظام وليس إلغاء للدولة، وهنا يكمن وجه التباين بين ثورة وأخرى، وبين سلميّة التحرك أو عنيفيته وفوضويته، فالمشهد يختلف، إذ لا يمكن الجزم بتماهي الثورات مع بعضها البعض، فـ تونس اليوم يختلف الحال فيها عمّا هو في مصر، والعكس صحيح، إذ لا يمكن القول: بأن الثورة في مصر قد افرغت ما في جعبتها، وحققت أهدافها المرجوة، حيث إنه ما يزال نظام العسكر القديم محكمًا قبضته على معظم مفاصل الدولة، بالتالي لا يمكن حصد الثمار في مثل هذه المرحلة، فقد يطول الأمر كثيرًا.
وكما يبدو هو ديدن الثورات وامتداداتها، غير أن العبرة في النهايات كما يقول المثل، حيث مرحلة الحصاد التي لا تأتي إلا في المرحلة الأخيرة، فالثورات أو الحراك الشعبي كما يحلو للبعض تسميته كما الروايات يصعب ابتكار نهاية لها، كما يُعبّر بذلك "ألكسيس دي توكفيل"، مع ذلك كله يظل العالم العربي ونتيجة للمراحل المديدة من الانسداد السياسي؛ بأمس الحاجة إلى هذا التغيير الذي يكون خلفه الكتلة الشعبية بعد أن استأثر السياسيون وسائر الأنظمة المستبدة لاختطاف المشهد التأريخي ولفترات طويلة جدًا، ولا وجه للمبالغة إن صار الإخفاق في بناء منظومة متكاملة ترنو للتنمية والتطوير هو العنوان الأبرز من تلك المرحلة البائسة، لتأخذ الشعوب دورها الطبيعي في المراحلة الراهنة عبر التأسيس لنموذج تشاركي وديمقراطي.
كله هذا لا يعني بالضرورة أن الربيع العربي قد حقق كل ما هو بالامكان أن تحققه الثورات في صورتها المثالية، فإن كان أرسطو قد رسم مؤشر انجاز الثورة بأمرين اثنين، هما: إما تغيير كامل وشامل للدستور، أو تعديل عليه، غير أن واقع حال المشهد اليوم يدفع باتجاه أسئلة إضافية تتواءم إلى حد ما مع الطبيعة السياسية والجغرافية، وتختلف باختلاف سيوسولوجيا كل مجتمع عن الآخر، وكمحاولة لرسم مقاربة شفافة لمنجز تلك الثورات، أراني لا أجترح البراعة حين تتدفق مثل هذه الأسئلة، فهل "الثورة" تقتصر على إسقاط الرئيس أو النظام، أو سلطة العسكر، أم الثورة هي التأسيس لكتابة دستور مدني يرنو لدولة القانون والمواطنة؛ أم الثورة تعني الوصول إلى مجلس منتخب وبإرادة الشعب، أو الوصول إلى حياة كريمة؛ يرفل من خلالها المواطنون على قدر من الاحترام والمساواة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها هي على قدر من الأهمية، بل هي ما ينبغي أن ينشغل به الفضاء الاجتماعي والثقافي، للوقوف عند أهم المعاني التي من خلالها بالامكان رسم خارطة واقعية ومقتربة من هموم وتطلعات الإنسان العربي.
بالفعل لا يمكن الجزم بنجاح أي تجربة من دون ترقب نتائجها، غير أن هذا الحراك الشعبي الذي يجتاح المنطقة هو بحد ذاته يشكل بارقة الأمل للإنسان المقهور والمتنازع في حريته، وعلى الأقل في هذه المرحلة، ولو لم ترتق الثورات إلى مستويات ما تطمح إليه الشعوب العربية؛ فهذا لا يلغي حجم الدور الذي تُحدثه من تماوج ذا طابع متمرد، يؤسس إلى تغيير مستمر ومُكثف، لم تكن الفضيلة تكمن في كسر تلك الشعوب لحاجز الخوف فحسب، بل أيضًا فيما أسهمت فيه من تحطيم لصورة الكمون والرتابة التي بقيت مستحكمة طيلة عقود منصرمة.
الثورة بين التذمر والأمل
ونتيجة لما تخلفه الثورات من اختلال في التوازن يضرب مختلف مفاصل الحياة، وليس كرهًا فقد يساور البعض حالة من الامتعاض والتذمر، لما ينشأ عن ذلك من ضرر يسهم في تعطيل الحياة العامة، فيصير المواطن الضعيف هو المستهدف الأبرز، يأتي هذا في سياق لحظة التحدي والمرحلة المفصلية ما بين المحكومين والحاكم؛ فيعمد هذا الأخير للعمل بكل ما أوتي من طرق وحيل وأساليب؛ لا لشيء سوى إطالة فترة بقائه في السلطة، وقد رأينا مثل هذا الأمر كما يجري في اليمن ومصر أيضا، مما ينعكس ذلك سلبًا على حياة الناس ويهددهم في معاشهم واستقرارهم، الأمر الذي قد يؤدي بهم إلى حالة أشبه ما تكون بـ الانطفاء وانسداد الأفق، إذ لا تقتصر مثل هذه الحالة على مجتمع بعينه، بقدر ما تكون سارية المفاعيل على مجتمعات أخرى أيضا، بالتالي يكون حال تلك المجتمعات إلى الدهماء والتيه، ويلقي بها المصير إلى مفترق طريق: إما الذهاب إلى المجهول مع الثورة، وإما القناعة بالواقع مع طبيعة النظام السياسي المستبد!.
بالرغم من هاجس القلق والخشية التي يجتاح البعض منا، نتيجة لما يحدث من حالة اختلال للتوازن للتركيبة الاجتماعية وللدول، وما ينجم عنها من فوضى وانفلات، الأمر الذي يسبب تراجعًا ملحوظًا في مقومات الحياة الاقتصادية. بيد أنه لا سبيل لنا إلا أن نتفائل، خاصة وأن الماضي التقليدي للنمط السياسي لم يكن بأحسن من اللحظة الراهنة، بل كان بشعًا ومريضا في آن، بعكس حالة الحراك الشعبي التي أضافت للحياة حيوية، بعد أن انكسر شيء من الرتابة السياسية القاتلة؛ لذا لا مجال إلا أن ندع الفرصة للزمن؛ ليأخذ دوره في انضاج هذا الحراك والوصول به إلى مرحلة الدولة باعتبارها الحضاري والمستقر، ومن منطلق هذا الواقع يصبح مصير معظم الدول إما التغيير الجذري أو التطور الإصلاحي، وذلك يحقق إن الدول العربية ما بعد الثورات ليس كما قبلها إجمالا.
السعودية
twitter: @Ali_Altaleb
facebook: Ali Altaleb
التعليقات (0)