حينما وصلتُ مدينةَ "أورفا" التركية - على بعد ثمانين كيلو مترًا من مدينة حلب، وعلى بعد خمسين كيلو مترًا من الحدود السورية - كنتُ حريصًا على الالتقاء بالسوريينَ القادمين من أرض الأوجاع، والاستماع لآرائهم، بعيدًا عن التحليلات السياسية، والتصوير الإعلامي.
سمعتُ من غيرِ واحدٍ، وكنت حريصًا على ألا أنتقيهم انتقاءً، فإن وجدتُ أحدَهم في مسجدٍ وعَرَفتُ أنه سوري استوقفتُه، وسمعت منه، وإن ذهبتُ إلى مطعمٍ ووجدتُ عائلةً ملتُ عليها، وجلست بينهم وسألتُهم، وكذا في مقاهي النت وفي الأسواق.
كنتُ حريصًا كل الحرص على ألا أناقش، بل أستمع لأعرفَ حقيقةَ ما يشعرون به؛ فوجدتُ شبهَ إجماعٍ من كلِّ مَن رأيتُ حول طغيان الأسد وقسوته، ومعظمهم نقل واقعًا مرًّا أليمًا، وحمل حسارت تنوء بها الجبال.
لم يختلفوا في هذه الجزئية، وكان حديثُهم أبلغَ من حديث الإعلام، ونقلوا لي قصصًا تقشعر لها الأبدان، لكنهم اختلفوا في أسباب ما جرى، ومَن يقف وراءه، وتخوف أكثرهم من المستقبل، وعلا ه اليأس والقنوط.
ولم يُخفِ بعضُهم قناعتَه بأن اليد الأمريكية، والأصابع الصِّهْيَونية الخفيَّة تَقِفُ وراء ما يجري، وأن مستقبلَ سوريا لن يكون كما يتمنَّى الكثيرون.
وفي مصر، ما أن تنفَّس المصريون نسيمَ الحرية حتى بدتْ سُحُب الكآبة تملأ الأُفُق في رجة إعصار، وعصف عنيد قادتْه قوى تزعم أنها ثورية؛ لتشعلَ فتيلَ الفتن أمام أول دستور تخطُّه يدٌ مصرية، وبدا المشهدُ القريب كأنه انقسام ينذر- على حدِّ تعبير بعض المحلِّلين - بعواقبَ تتجاوز الانقسام الديموجرافي إلى حدِّ الانقسام الجغرافي، وبدتْ مصر - في تصور هذا المحلل - "سودان" جديدة، وقد تلحق بالعراق إن استشرى أمر هذا الانقسام.
ولا تختلفُ تونس عن مصر، فالاحتجاجات في بعض المدن التونسية كبَّلت المشاريع، ونفرت المستثمرين، وحالت دون تطبيق البرنامج الذي أعلنتْ عنه الحكومة.
وفي ليبيا معاناة، وانقسامات، وتعثر لا ينبئ - عند كثير من المحلِّلين - إلا بدوامات عاصفة.
فهل هذه السوداوية التي يُؤمِن بها قطاعٌ ليس بالقليل تؤكِّد مقولة: "إن هذه الثورات جزءٌ من مخطَّط غربي لإرباكِ المنطقة، وإعادة تقسيمها"؛ حيث أوردتِ الجزيرةُ كلامًا بين الإدارة الأمريكية وبعض قادة الصهاينة، جرى عام 2005 حول إسقاط بشار الأسد، لكن الكيان رأى في ذلك أمرًا صعبًا؟فما حقيقة الأثر الخارجي، وأجندات التوجيه في مسارات الثورات العربية؟ وأين تتجه هذه الثورات؟ وما مآلات الثورة واحتمالات الفشل فيها؟ أم أنها مخاضٌ طبيعي وإعاقات لا بدَّ منها لكل ولادةٍ نوعية جديدة؟
الطابع الثوري وتداخل المشاريع:
ليس من الوعيِّ أن أُعلِن بأن هذه الثورات آمِنة من أي مكرٍ، بعيدةٌ عن كلِّ المخاطر، وليس من العدل - أيضًا - أن أهزأَ بدماء الشهداء وتضحيات الشرفاء؛ لأقول: إن ما يجري في منطقتنا مشروعٌ خطِّط له، وأحداث لها ما بعدها، تحرِّكها آيادٍ خفية، وأجندات أجنبية؛ لكن العقلانية في تحديدِ ماهية الثورات وقراءة ما يجري قراءةً واعيةً، تَذهَب بي إلى حيث يجب أن أكون؛ لأتفيَّأ ظلالَ القانون الثوري وطبيعتَه التي لا تتغير غالبًا؛ فالقانونُ الثوري يسمح بالتداخلات المتناقضة، ولن يستطيعَ أحدٌ أن يُوقِف فئةً جاءتْ لتشارك - بحجمها - وَفْق أجندة تحدِّدها مصالح، أو: مصالحها؛ ومن هنا أقول: إن المشاريع التي تجتاح منطقَ الثورة ومناطقها تشكِّل كتلاً متدحرجة نحو منطقة الوسط؛ أي: الحسم وتدافع الكتل يُحدِث تأثيراتٍ تجعل الرابح النهائي مَن يَحسِم الجدل بين الكتل ليحدِّد إستراتيجيات ما بعد الثورة.
وما جرى في العالَم العربي يُمكِن تفسيرُه من خلال اعتبار المنطقة العربية منطقة كادتْ تفرغ من المشاريع السياسية الفاعلة، وفي قانونِ السياسة لا وجودَ لكلمةِ فراغ؛ فكان لا بدَّ من أن تملأَ هذه المنطقة بمشروع من المشاريع العملاقة الخارجية المتدحرجة نحو المياه الحارَّة، أو منتصف الكرة الأرضية.
تحرَّكت أمريكا منذ التسعينيات من القرن المنصرم لتملأَ هذا الفراغ عبرَ احتلالِها للعراقِ، وأخفقتْ في استكمالِ رحلةِ العبور عندما فشلتْ (كوندليزا رايس) في مشروعِها الذي بشَّرت به "الشرق الأوسط الكبير" والثورة الخلاَّقة.
ثم جاءتْ (إيران) بعد أن وضعتْ لها موطئ قدمٍ في العراق، لتوسِّعَ مِن نفوذها السياسي والجغرافي في المنطقة؛ فتحرَّكتْ باتجاه منطقة الوسط من خلال "حزب الله" وبعض حركات "المقاومة"، لكن أيدولوجيتها الدينية حالتْ دون وصولِ أفكارها إلى قلوب أهل السنة.
أما تركيا، فقد خرجتْ بنجاح اقتصاديٍّ كبير، بعد عشرِ سنواتٍ من حكمِ حزب الحرية في تركيا على يد الإسلاميين، وبدأتْ أنظارُها تتَّجِه نحوَ العالَم الشرقي بعد أن أخفقتْ في جهودِها للانضمام إلى أوروبا؛ فكانتْ منطقة الفراغ السياسي في الشرق جاذبة لحلمها الضائع بعد ضياع الخلافة والإمبراطورية العثمانية.
هذه المشاريع الوافدة جُوبِهتْ بوعيٍ شعبي رفض التبعية، وأراد لنفسه الاستقلال كباقي الدول، فلم يجد إلاَّ أنظمةً دكتاتورية، لكنها مع أعدائها خانعةٌ هزيلة، تريد للشعب الخنوع والهوان، والذلة والاستكانة؛ فما حَمَت الحمى، ولا أصلحتْ ما أفسدتْ عبرَ عقودٍ، وما استجابت لصوت العقل والحكمة؛ فثار عليها الشعب ثورةَ الرافضِ الباحثِ عن الذات في ركبٍ حضاريٍّ جديد، فجُوبِه بالقنابلِ والصواريخِ والبراميلِ المتفجِّرة، من نظامٍ عربيٍّ مترهلٍ، يَعِيش في عصور مظلمة، وأفكار بدائية لا تناسب "الآي باد"، و"الآي فون"، وصرعات التكنولوجيا ومشاريع الاقتصاد العملاقة، تحرَّكتْ هذه الشعوب بطموح مشروع لنَيْل حقِّها تحت سلطة سياسية مُنتَخَبة تمثِّلها، مستقلة لا تَأتَمر بأمر أعدائها.
هكذا جاءتِ الثورة طبيعيةً عفويةً، ثورة قيمٍ وبحثٍ عن الحرية، بعد أن أَقفَل الجُبَناء فَضَاء الأمَّة، وكبَّلوا مسيرة الشمس الضاحكة، وأمطروا شعوبَهم بسُحُب العجز والكآبة والتخلف.
والحقيقة التي تؤكِّد أن الثورات تَمتَلِك مشروعيةً تبرِّئها من تُهَم التبعية لأجندات الغرب؛ أن هذه الثورات بدأتْ سلميةً خالصةً، نادتْ بالإصلاح أولاً، ثم بالحرية ثانيًا؛ فلما لم تَستَجِب النظم الحاكمة، وفضَّلت القسوة والحلول الأمنية؛ انتقلت الثورة إلى مربع الصدام بعد أن سدَّت الآفاق الحوارية أمام الشعوب.
لذا يمكننا القول:
إن ما يجري من تناقضات وتخوُّفات له ما يبرِّره؛ ذلك أن المشاريع النظيفة وغير النظيفة كلها موجودة في الساحة الآن، لكن كتلةَ الشعب هي الأكثر قوَّة ومصداقية، وإذا وجدت العقول الواعية القادرة على تحويل عالَم المشاعر الجيَّاشة إلى إستراتيجيات بنَّاءة؛ فإن ما بعد الثورة سيعني حصادًا ورديًّا، ونصرًا لا تَضِيع من أجله التضحيات.
أما التواجد المشبوهُ للمشاريعِ العابرة - أمريكية، وصِهْيَونية، أو حتى التركية والإيرانية فسيظل موجودًا، لكن أثرَه سيتضاءل، وقد يتلاشى إذا تحوَّل الفعل الثوري إلى رؤى إستراتيجية قابلة لصيرورة العملية على شكل مشروع إستراتيجي كبير، يقنع الشعوب أن التحول الحاصل يعد نهضة قومية، بل نهضة أمة.
والذي يقلِّل من التخوُّف هو نفسه الذي يخوف من الإعلام المشبوه أعني (الإسلامفوبيا)؛ فوجود الإسلام الفاعل - في الحركات الثورية - سيضمن لها ألاَّ تَنحَرِف نحو الغرب؛ لأن الإسلاميين لا يَسْعَون لمنصبٍ هنا أو هناك، بل يسعون لإقامةِ حكمٍ ينتصر فيه منهج الله ويُعِيد للخلافة الإسلامية تألُّقها، وهذا كلُّه ضد التقسيم والتفرقة، بل إن الخطاب الإسلامي يسعى لتحطيم الحدود التي بُنِيت تحت سقف القوميات المقيتة؛ فالوحدة في الإسلام وحدة عقيدة، والجغرافيا التي تجمع هي جغرافيا الفكر الموحَّد؛ وتاريخ الأمة المنتمية لدين الله.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/48213/#ixzz2Fy41LHox
التعليقات (0)