مواضيع اليوم

الراية. (قصة قصيرة من الواقع العربي)‎

صفاء الهندي

2014-06-04 22:29:18

2

 بعد منتصف ليلة شتاء باردة، كان الشاب (سالم) ذو الثمانية والعشرون عاما يتنقّل في الغابة من مكان الى آخر جائعا مُنهك القوى صكّت اسنانه وتداخلت اضلاعه من شدة البرد. يبحث عن مكان دافيء يأويه ويقيه البرد. 

جلس منزويا بين شجرتَين صغيرتين، إلتحف الحشائش النامية بينهما وقال مصبّرا نفسه:
لابد ان اتحمّل .. سويعات وتُشرق الشمس. 
كان يرتدي جلبابا قديما، لافّا رأسه ووجهه بــ (يشماغ)* كان قد سرقه من القرية القريبة من الغابة عند مروره بها مساء الأمس، لم يكن ظاهرا منه سوى عيناه الزرقاوان. ينتعل بسطارا عسكريا عتيق مخلوع الكعبَين.
لاكَ ورقة من الغصن القريب لعلّها تطفيء نار جوعه.. 
لفظها.. 
 آه انّها مرّة.
لكنّه استساغ طعم الحشائش .. 
 نعم هذه اقل مرورة. 
فكّر بنفسه وحالة وكيف كان وأين اصبح الآن؟ تاه في مهامه التفكير .. تقاذفته امواج الخيال .. 
)
اكل الكثير من الحشائش) دون ان يدري طالما هو غارق في التفكير ..
هوّمت عيناه.. النُعاس يقتله.. غفى قليلا رغم شدّة البرد.
عاد ذلك الحلم القديم يُراوده مرّة اخرى .. إرتَعش .. تمتم بكلمات.. همهمة.. رفس برجليه.. أقضَّ مضجعه.. إنتفَض بقوّة وصاح.. 
 لا.. لاتُطلِقوا النار.. نهضَ خائفا مرعوبا.. 
 يال هذا الكابوس لايفارقني ابدا.
**********************
سمع صوتا، ربما تمتمة او صوت ضرب على الارض..
 من اين هذا الصوت ؟ تساءل عن مصدر الصوت .. زحفَ ببطء ناحية الصوت.. كان الصوت خلفه مباشرة وقريبا منه. إختلسَ النّظَر من بين الاشجار..
 ياربّي ماهذه المصيبة ؟ قالها في نفسه ..
كانا رجلَين يضربان الارض (بمساحيهما)* بقوة وشيخٌ كبير يجلس على الجانب وهو يبكي ومعه أمرأة ترتدي خمارا اسودا يغطي وجهها. وكانت مكتوفة اليدَين والرجلَين تتوسل وتبكي بمرارة ..
رأى سالما هذا المنظر المهوّل..
 ياالله ماذا اصنع، مَن هؤلاء، ماذا يفعلون، وماهي قصّتهم، لم هذه المرأة معهم، ماذا يريدون منها، من يكونون، ولماذا هم يحفرون ؟. كانت هذه التساءولات والاستفهامات تدور في رأسه. لايعرف ماذا يصنع ؟ هل يتدخّل ويسألهم، هل يصمت ويبقى يشاهد فحسب ؟.
 ربما هناك جريمة سوف تُرتكب.. لابد ان اتدخّل لأمنع وقوعها، ولكن ربما يقتلونني اذا تدخّلت ؟ ما هذا.. انا ايضا مجرم فلماذا اهتم.. انا لص سارق لكنّي لست بقاتل ؟. 
كانت عيناه مشغولتان بهذا المنظر، تارة ينظر الى الرجلين وهما يحفران حفرة.. وكانا يتعرّقان رغم البرد القارص. صامتَين لم ينبسى ببنت شفة منذ ان رآهما حتى الآن. 
تصحبها تساءولات تدور في ذهنه حول هذه المصيبة.. مازالت المرأة تبكي وتتوسّل تارة الرجل العجوز وتارة تتوسل الرجلَين الآخرَين .. لكنهما لن يلتفتى لها قط، هما مشغولان بأتمام الحفرة. 
كان سالم يرى هذا المنظر، حتى انه رآها تتوسل العجوز.. لكن العجوز يزداد بكاء كُلّما توسلته المرأة. 
 لمَن تُحفر هذه الحفرة ؟ هل هي للمرأة ؟ أم للرجل العجوز ؟ أم هي لكِلاهما.. مَن الذي يريد الرجلان دفنه في الحفرة ؟ اثارت سالم هذه التساءولات.. لابد ان يعرف ؟ دفعَ الفضول بسالم ان يتدخّل حتى يفهم ويعرف القصة. واخيرا قرر التدخّل: 
 توكّلت على الله . خرجَ عليهم من بين الأشجار ودنى منهم ..
 السلام عليكم. قالها وهو يرتجف من الخوف.. نظر الرجلان أليه بأندهاش: من اين جاء هذا ؟ نظر الرجلان احدهما الآخر وعيناهما تقدح شررا كأنهما تخاطرا ففهما المطلوب.. إنقضّ الرجلان على سالم بسرعة وربطوه بحبل كان معهما ورموه بجانب الحفرة. حاول ان يتكلم معهما ويفهما.. لكنهما لم يلتفتى أليه ورجعوا الى الحفر.
**********************
مرّ شريط حياة سالم امام عينيه كــ البرق. غير معقول هل هكذا ستكون نهايتي ؟ تساءل سالم وهو يخاطب نفسه .
قال أحدهما لأخيه:
 يجب ان نحفر حفرة أخرى لهذا الشيطان. وأشار بيده نحو سالم. فرد عليه الآخر:

-        ندفنهما سويا .

فردَّ عليه اخوه:
لايجوز دفن جثّتَين بحفرة واحدة ..
فردّ عليه ساخرا والدموع تترقرق في عينيه :
 وهل يجوز القتل ؟. صمت الثاني مطرقا برأسه الى الارض.
كان سالم يرى ويسمع هذا الحوار الذي دار بين الاخوَين، ورأى أنّهما شارفا على الأنتهاء من الحفرة الأولى. بدأ احدهما بحفر الحفرة الأخرى .. وتيقّن سالم ان هذه الحفرة ستكون هي قبره..
اطرقَ برأسه الى الارض لحظات يفكر كيف يتخلّص من هذه الورطة التي ورّط نفسه بها.. ثم رفع رأسه، نظر الى المرأة وهي تبكي بكاءا يقطع القلب، ثم نظر الى العجوز، ثم إلتفتَ الى الرجلان وسألهم قائلا :
هل انتم عازمون على قتلي ودفني ؟. اجابه احدهم

- إن نعم.
فسألهم سالم مرّة اخرى متهكّما غير مُبالي بعد ان ايقن بالموت :
هل ستقتلونني اولا ثم تدفنونني .. أم تدفنونني وأنا حي ؟.
وقع سؤاله هذا كــ الصاعقة على رؤوسهم .. وهما ينظران أليه بدهشة، فقال له احدهما: 
 سيّان . وصمت الآخر ولم يحري جوابا..
فقال لهم :
اذن مادمتما عازمان على قتلي.. فلي أليكما طلب . قالا له:

- ماهو طلبك ؟.
قال :
 اودّ ان اعرف ماهي قصّتكم ثم بعدها اقتلوني. قالوا له :

- وما يفيدك سواء عرفت قصتنا او لا ؟
فقال:
 الفضول يدفعني وهو مَن ورّطني بهذه الورطة، ولكن مايهمك ألستم بعدها تقتلوني ؟ أذن اخبروني القصّة قبل قتلي.
قال احدهما للآخر :

- اخبره..
قال:

 - بأختصار : هذا اخي الكبير وهذا الرجل العجوز هو ابينا وهذه المرأة هي اختنا، ونريد قتلها ودفنها لأنها (متهومة) والقضيّة قضية (شرَف) و (غسل عار) هل فهمت ؟. 
اطرق سالم برأسه قليلا ثم واتته فكرة فقال لهم :
 - 
لدي فكرة تنقذكم من العار اولا ومن الجرم الذي سترتكبونه بحق اختكم وبحقي انا ثانيا.
رفع الرجل العجوز رأسه منتبها. وأنتفضت المرأة وهي تدعو السماء لأنقاذها..
فقالوا له: 
 وماهي فكرتك ؟.
قال لهم :
 انتم لاتعرفونني وانا لااعرفكم ولااعرف اسماءكم ولا تعرفون اسمي وحتى لم تروا وجهي، فأنا كما ترَون الآن لازال وجهي ملثّما بهذا اليشماغ، فلم لا تطلقون سراحي وسراح اختكم، فآخذها وأتخذها زوجة لي وأذهب بها بعيدا عنكم وأقٌسم لكم بأغلض الأيمان أنّكم لن تروا وجوهنا الى الأبد.. وأذهبوا أنتم وعلّقوا رايتكم وقولوا للناس أنكم قد غسلتُم العار* ؟ 
**********************
بعد اثنتي عشرة سنة :

صاح رجل عجوز من داخل الدار :
 مَن الطارق ؟.
فرُدّ عليه :
 ضيوف..
فتح الرجل الباب قائلا :
 اهلا وسهلا ومرحبا بالضيوف تفضلوا..
دخل الضيوف الدار وكانوا رجلا كهلا في الاربعين من عمره ابيض البشرة ذو عينَين زرقاوين يرتدي الزي العربي (العقال) يلتحف عباءة عربية سوداء خفيفة تسمّى (بشت) في المجمل يبدو رجلا وقورا، ودخلَت معه زوجته وولده الكبير وأسمه احمد وعمره عشرة سنين، وولده الأصغر واسمه محمود وعمره سبعة سنين. أُدخلَت الزوجة على النساء، وأدخل الرجل وأبناءه الى غرفة الضيوف. 
**********************
على العشاء مع الضيف :

مُدَّ السماط ووضعوا الطعام وحان وقت الاكل، أمر الضيف ولده الكبير احمد ان يذهب ليجلس بجوار ابن الرجل العجوز الاكبر وكان ايضا اسمه احمد، وأمر ولده الصغير ان يجلس بجوار ابن الرجل العجوز الاصغر. فأنتبهوا المُضيّفون الى حرَكَة الضيف هذه.
وقال الضيف لهم :
 ياجماعة الخير بودّي ان اقول شيء.. ولكن اولا أطلب أمان الله ورسوله .
فأستغرب المُضيّف الرجل العجوز وابناءه من الضيف وقال له :
 لك أمان الله ورسوله ياضيف، تكلّم وقل ماعندك .
فقال الضيف لمُضيّفيه :
 انا ذلك الرجل الذي اعطيتموه أبنتكم في تلك الليلة التي اردتُم فيها قتلنا ودفننا قبل اثنا عشرة سنة..
فذُهِلَ الجميع وأختُطِفت ألوان وجوههم فصمتوا وكأن الطير قد حطّ على رؤوسهم ولم ينبسوا ببنت شفه. فأومأ له العجوز :
 أن أكمل.. 
وأستطرد الضيف :
 تزوّجت ابنتكم على سنّة الله ورسوله (ص)، فوجدتُها طاهرا كما انجَبَتها أُمّها.. وهذان ولَدَيَّ منها، وقد اسميتهما احمد ومحمود على اسماء اخوالهما. فأزداد ذهول المضيّفين.. ولكن هذه المرّة فرحا وسرورا وغبطة.

 

على العشاء مع الزوجة  :

 

كانت الزوجة ترتدي الاسود من قمّة رأسها وحتى الاخمص تعتمر عصابة سوداء وخمار اسود، وثوب اسود وعباءة سوداء وقفازَين اسودَين.

لم تكن تنوي الزوجة نزع القفاز من يدها حتى وهي تأكل كما لم تنزع الخمار من قبل عن وجهها، لكن إلحاح المرأة العجوز جعلها تنزعه حتى تستطيع ان تأكل بشكل مريح.

مدّت يدها لتأكل فرأت العجوز الوشوم على يد الزوجة فأجهشت بالبكاء... سألَتها الزوجة:

-        لم تبكين ؟

قالت:

-        كانت لي ابنة قد (توفيت) منذ زمن، عملت لها بيدي نفس هذه الوشوم..

 فلم تستطع الزوجة الصمت والتحمّل اكثر من هذا فصاحت وأجهشت هي ايضا بالبكاء.. وقالت:

-        أُمّاه انا ابنتك .

وعُلّقَت الراية من جديد .

 

 

 

اليشماغ/ لباس عربي.
جمع مسحاة/ آلة يدويّة تستعمل للحفر. 
عند قتل المرأة (غسل العار) تُعلّق الراية على سطح الدار.

 

 

 

صفاء الهندي





التعليقات (2)

1 - إيضاح

رياض الشرفي - 2014-06-05 20:24:16

اخت صفاء .. اعتقد ان هناك خلل في طباعة النص، فهناك جمل متداخله!

2 - رد على الاخ رياض

صفاء الهندي - 2014-06-10 14:39:17

شكرا اخي الفاضل فحصت النص فلم اجد تداخل تقبل تقديري

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !