الرئيس عمر البشير سيعيد ترشيح نفسه ؛ فتذكروا قولي
في المؤتمر الصحفي الذي عقده النائب الأول لرئيس الجمهورية "الأستاذ علي عثمان طه" الثلاثاء 27 مارس الجاري .. أجاب عن سؤال حول إعلان الرئيس عمر البشير عدم ترشيحه لنشخصه في إنتخابات الرئاسة القادمة . بما يشير إلى رفض حزب المؤتمر الوطني قرار الرئيس بعدم الترشُّح .. وقال في معرض تعليقه أنه من السهل إستبدال وزير بوزير ولكن ليس من السهل إستبدال رئيس برئيس .....
ذكر علي عثمان طه هذه الفقرة (ليس من السهل إستبدال رئيس برئيس) ربما بطريقة عفوية خلال مؤتمر صحفي على الهواء مباشرة .. ولكنها جاءت برغم ذلك لتلخص بوضوح فلسفة وقناعات نظام الحكم والدولة القائم .. وأن الخيارات الديمقراطية المؤسساتية والتداول السلمي للسطلة غير واردة في هذا الإطار ظاهراً وباطنا.
المسألة ليست شخصية بقدر ماهو رأي آخر من عمق واقع ماثل أمامنا .. وبالنظر إلى جدلية مقولة النائب الأول بأنه "ليس من السهل إستبدال رئيس برئيس" . فإن الأمر لايبدو بهذه الصعوبة ... بل على العكس من ذلك نرى أن دولاً مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا ؛ وغيرها من الدول المتطورة المتقدمة وذات الديمقراطيات الراسخة والمؤسساتية تستبدل رئيسها دائما برئيس بكل السهولة واليسر والسلاسة ؛ وأن الحياة في تلك البلدان تمضي من أفضل إلى أفضل منها دائماً ...... وأن هذا يسمى "تداول للسلطة" ؛ وبحيث لايسمح الدستور للرئيس بأن يعيد ترشيح نفسه لأكثر من ولايتين متتاليتين ؛ هــذا إن لم يكن الدستور لايسمح له بإعادة ترشيح نفسه على الإطلاق بعد إنتهاء فترة الولايتين ... حتى دولة جنوب أفريقيا يجري بها ذات النظام وكذلك جمهورية إيران الإسلامية ينص دستورها على عدم ترشيح الرئيس نفسه لأكثر من ولايتين متتاليتين.... ويأمل الجميع في عالمنا العربي أن يجري تضمين هذا البند في مقدمة دساتير دول الربيع العربي.
تغيير الرئيس برئيس إذن ليس بهذه الصعوبة طالما كان هناك دستور متفق عليه ومرتكز على قاعدة ديمقراطية حقيقية ، ومؤسساتية وشفافية تسمح بالتداول السلمي للسلطة.
صعوبة إستبدال رئيس برئيس تنطبق إذن على دول مثل ليبيا أبان عهد القذافي ، وسوريا على عهد بشار الأسد . ومن قبلهم العراق على عهد صدام حسين . لكنها حتماً لن تكون بهذه الصعوبة طالما كان هناك (مرة أخرى) دستور متفق عليه ومرتكز على قاعدة ديمقراطية حقيقية ومؤسساتية وشفافية تسمح بالتداول السلمي للسلطة.
واقع الأمر فإنه وعلى العكس من السلطات المقيدة للرؤساء والحكام في الدول الديمقراطية . فأن ما يتمتع به الرئيس والحاكم في الدول الغير ديمقراطية وغير المؤسساتية بوجه عام من سلطات غير محدودة ويد مطلقة السراح في التصرف بثروات وأموال الدولة كأنها مزرعة خاصة مملوكة له .. يعطي ويمنع ، يسجن ويطلق ، يغضب ويصفح ، يرفع ويضع بإشارة من طرف أصبع السبابة لاغير . يحصل على سيول من عبارات الإطراء والمديح والتصفيق الحار والهتاف المستمر بغض النظر عن الصواب والخطأ أو إذا كان في حالة إرتقائه لمنبر خطابه أو خارج لتوّه من بيت الأدب ..... كل هذا يجعل من المستحيل علىه أن يتنازل طواعية عن كرسي الحكم الذي يكرسه كإله من لحم وشحم ودم.
---------------
على أية حال ؛ هناك كثيرون (ولهم الحق) لم يصدقوا ولم يقتنعوا جيئةً وذهابا بجدية الإعلان عن قرار الرئيس البشير عدم الترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة ... بل تبدو المسألة شبيهة بإعلان الصادق المهدي ترشيح نفسه للرئاسة خلال الإنتخابات السابقة ثم إعلانه كما كان متوقعا الإنسحاب قبل سويعات من بدء الإنتخابات بحجة الإفتقار إلى الشفافية ... والفرق الوحيد بين الإعلان عن عدم ترشيح البشير لشخصه مستقبلا وترشيح الصادق لنفسه في الماضي ؛ أن التكتيك والحركة يأتيان هذه المرة في الإتجاه المعاكس .... وأن مسك الختام سيشهد ترشيح الرئيس لنفسه وفوزه بدورة أخرى ودورات مستقبلية عديدة متتالية...
المسألة إذن لاتحتمل الحديث عن جدية من عدمها بقدر ماهي مناورة سياسية ما بين الإستراتيجية والتكتيك ..... كما ينبغي التنويه هنا بأنها ليست الأولى في تاريخ السياسة العربية المعاصرة . فقديماً تنحــى جمال عبد الناصر عقب النكسة. وكان الهدف التكتيكي هو الحصول على مصداقية شعبية تعيد إليه وإلى نظام حكمه الشرعية وحُلل البريق التي تمزقت وتلطخت تحت وقع الهزيمة الحنظلية القاسية.... ثم حدث شيء مشابه في التكتيك حين أعلن الرئيس التونسي الهارب "زين العابدين بن علي" عدم ترشيحه لنفسه ، ولكن سرعان ما أعلن تراجعه عن قراره "خضوعاً" لإرادة الحزب وطلب الجماهير ، وتعاطفاً مع (نحيب وبكاء وتوسُّـل) الشعب التونسي اليتيم ؛ الذي بدا وكأنّ نسائه قد عقمن أن يلدن مثل بن علي.
وفي البداية ينبغي الإشارة إلى مدى الثغرات في البنية المؤسساتية التي أفصح عنها ذهول وصدمة وشلل الأمانة العامة لحزب المؤتمر الوطني حال تلقيها إعلان البشير عدم رغبته في الترشح .. وهـو ما يؤكد أن حال الحزب في الداخل ليس على ما يظنه الآخرون من تماسك وديناميكية .. وهذه متلازمة تظل مصاحبة دائما للأحزاب الحاكمة الشمولية ، التي لاتطور نفسها وكوادرها وبنيتها على خلفية الفكر والقناعات والحراك الديمقراطي لتداول السلطة ؛ بقدر ما تستعيض عن ذلك بالحلول الأمنية القمعية الأسهل والأسرع فاعلية على المدى القصير. ثم وبقدر ما تستوعب وتشهد من إنضمام متسلقون مراءون وتجار إنتماءات وقتية زُرافات ووُحدانا ؛ لاهم لهم سوى المنفعة التي يأملون تحصيلها من إنضمامهم للحزب الحاكم .. والذين حتماً سيغيرون إنتمائهم 180 درجة وبأسرع من البرق في حالة فقدان هذا الحزب للحكم.
ومن جهة أخرى فإن المعضلة الدستورية الحقيقية التي تقف حجر عثرة (نظرياً) دون تمكن الرئيس عمر البشير إعادة ترشيح نفسه للرئاسة لدورة ثالثة أن دستور السودان للعام 2005م ينص على أن تكون مدة الرئاسة لدورتين متتاليتين فقط كل دورة تستمر 5 سنوات ..... وهذا طبعا (على الورق) ... ولكن الورق عند العرب شي والواقع شيء آخر .... ولن يستغرق الأمر أكثر من 5 ثوان أو 5 دقائق على الأكثر لتغيير مواد الدستور أو إعادة تفسيرها على أيدي جهابذة ترزية القوانين العرب ولافخر.
-----------------
إذن فإن الرئيس عمر البشير فهو يرغب في تحقيق عدة أهداف من خلال تكتيك إعلان عدم الترشح لولاية جديدة ، وذلك على النحو التالي:-
1) الحصول على دعم ومساندة الحزب الوطني في الهواء الطلق وبالكواريك والصوت العالي ؛ حين تتم مناشدته عبر قيادات وأمانات وقواعد الحزب في العاصمة الإتحادية والولايات لإعادة النظر في قراره عدم الترشح.
2) قطع الشك باليقين فيما يتعلق وايشاع عن طموحات النائب علي عثمان طه بالوصول إلى الكرسي العالي في سراي غوردون باشا .... ووأد كل الإحتمالات والظنون الواردة في هذا الشأن .. وبحيث يخرج البشير من كل هذا بإعتراف يعيد إليه هيبته كصمام أمان والرجل القوي والزعيم الأوحد بلامنازع للحزب الحاكم. وهو ماسيترجم بعد ذلك أهليته لرئاستة المطلقة البلاد.
3) دفع وإجبار المعارضة في الداخل والخارج على التعاطي اللفظي والنفسي بغض النظر عما إذا كان بالتحدي حيناً أو بالأسى والبكاء والتوسّل وعض أصابع الندم مع حالة كرسي الرئيس الشاغر والإحتمالات التي قد تستجد وتنشأ .
4) إرسال (E-mail) مختصر إلى كل من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي يبلغهم أن البشير وحده هو الضمانة السرمدية لإستقرار الوضع السياسي على ما هو عليه على أقل تقدير .. ولعل هذا ما يفسر الجدية والتصميم المفاجيء لحكومة المؤتمر الوطني لفرش الطريق أمام إنتخاب البشير بالكثير من ورود ورياحين إتفاقيات السلام والمشاركة في السلطة مع الحركات المتمردة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق .. وزيادة الخير خيرين بعد التوقيع على إتفاقية المصفوفة مع دولة جنوب السودان.
واستقرار الوضع السياسي في السودان وتحقيق السلام يعني لأعضاء الكونغرس ومجلس النواب وأمثالهم في دول الإتحاد الأوروبي ، راحة أبدية من القلق والصداع الذي تسببه لهم مؤسسات المجتمع المدني على مختلف أنماطها . وهي التي تؤثر تأثيراً مباشراً على قناعات وتوجهات الناخبين . فقد ظلت مشكلة جنوب السودان قبل الإنفصال ثم ومأساة دارفور الإنسانية ونازحيها من أكثر القضايا المتداولة على بساط النقاش خلال الحملات الإنتخابية في تلك البلدان بما فيها إنتخابات منصب العمدة وإتحادات الطلبة.
5) والحال نفسه ينطبق على المظهر الجديد الذي سيكتسبه الرئيس وسط رؤساء وحكام دول القارة الأفريقية والوطن العربي.
6) يبقى سيف المحكمة الجانية الدولية مسلطاً بقوة على خيارات الرئيس عمر البشير في حسابات إعادة ترشيح نفسه .... فهو حتماً يدرك أن منصب الرئاسة سيظل دائماً هو الحصن الذي يبعد عنه شبح إحتمال مثوله بالقوة أمام هذه المحكمة .. وحيث لايستطيع أحد التنبؤ بما قد يتصرف به رئيس جديد للسودان حيال الضغوط التي ستنشأ على شخصه و حكومته في مواجهة مطالبات بمثول البشير أمام المحكمة الجنائية . حتى لو جاء هذا الرئيس من صفوف عضوية الحزب الوطني.
------------------------
يتبقى بعد هذا التطرق إلى بعض ما يثار في ساحات الموروث الصوفي ووسط الأزقة السودانية الداخلية في المدن والقرى حول نبوءة تؤكد أن عهد حكم الرئيس عمر البشير ممتد حتى 35 سنة .. وبالتالي فإنه سيظل يتمتع بحكم البلاد حتى العام 2024م.
الإمام محمد أحمد المهدي (مؤسس الدولة المهدية في السودان 1885م - 1898م)
.... وبغض النظر عن قناعات البعض من عدمها ، فإن الذي نذكر به أن مسألة النبوءات هذه ليست بالجديدة . فالتاريخ السياسي الشعبي السوداني تحفظ ذاكرته صدق النبوءة التي حددت فترة حكم الإمام المهدي رضي الله عنه بأنها لن تزيد عن ستة أشهر ، وقد كان .. وهي قصة طويلة ربما لن تدخل عقول البعض وحدود فهمهم وتفسيرهم العقلي العلماني، لأنها مرتبطة بتكليف "الحضرة النبوية" للإمام المهدي بطرد الأتراك من السودان وكفى . وأن إقامة الدولة المهدية على أنقاض الحكم التركي وفق النحو الذي جرى لم يكن ضمن هذا التكليف . ولكن كان للخليفة عبد الله التعايشي دور بارز في تحويل الفكر والمسار الجهادي للمهدي إلى فكر ومسار سياسي ونظام حكم شمولي ... وكان تكليف الحضرة النبوية الشريفة للإمام المهدي قد تم بعد أن تواترت الأخبار وقتها عن إنحراف رموز الحكم التركي في السودان ؛ المالي منه عامة والأخلاقي خاصة . والذي تمثل في مصادرة أراضي الأهالي والضرائب الباهظة ، وإنتشار بيوت الرذيلة والدعارة وتعاطي الخمور على أيدي أركان الحكم أنفسهم ؛ وإستحداث ظاهرة ممارسة اللواط التي لم يكن المجتمع السوداني يعرفها في ذلك الوقت ،،، ووصول الحال إلى ذروته بعد إقامة حفل زواج بين ذكر وذكر تحت رعاية وسمع وبصر سلطات الإستعمار التركي المصري في مدينة الأبيض ..
والذي يجب أن نلفت إليه النظر أن الإمام محمد أحمد المهدي كان من أولياء الله الصالحين لاجدال في ذلك . وكافة الطرق الصوفية على إختلاف منابعها ومسمياتها (ما عدا الطريقة الختمية) تعترف له بالولاية في الطريقة السمانية.
ومن بين النبوءات الأخرى التي تتسيد الذاكرة السودانية الشعبية ما جرى من محاورة بين إحدى النساء المتنبئات والرئيس الأسبق جعفر نميري والتي أخبرته أنه سيقع وقعة تكون بداية النهاية لفترة حكمه وأن الفراغ من تشييد مسجد النيلين سيكون بداية العد التنازلي لهذه الفترة .. ظن نميري أن الوقعة محاولة إنقلابية فاشلة ولكنها دموية . ولكن الذي حدث أنه وخلال محاولته تسلق عربة القطار لتحية الجماعهر المحتشدة لتحيته على جري عادته عندما يبادل الجماهير الحماسة ويشعرهم بفتوته ولياقته البدنية . إذا بالنميري الذي كان وقتها قد تجاوز الخمسين من عمره تنزلق يده ويهوى من أعلى ويقع على الأرض فكانت (الوقعة) التي تنبأت بها المرأة تلك ... ثم أنه وبالفعل ما أن جرى الفراغ من تشييد مسجد النيلين في أمدرمان وإفتتاح النميري له في 2 سبتمبر 1984حتى بدأ العد العكسي لعهده الذي انقضى في أبريل 1985م.
ومابين المتنبئ وراميات الودع وضارب الرمل ؛ سنظل نترقب دون أن نرهق الذهن بالسؤال : "هل سيعيد البشير ترشيح نفسه" ؛ بقدر ما سيكون السؤال هو : هل سيستمر عهد البشير حتى عام 2024م أم "كذب المنجمون ولو صدقوا"؟
التعليقات (0)