مصطلحات جديدة من قاموس البلاغة الخطابية اللافتة للرئيس الامريكي اوباما سيتعين على المحللين الستراتيجيين العرب مكابدة تفسيرها واستخلاص المعاني المضمرة خلفها والاهم, المقاصد الحقيقية لالقائها وفي هذا التوقيت بالذات..فبعد ان سفح الكثير من الوقت والعسر في اجترار عبارة "الانسحاب المسؤول"كأشارة لخروج القوات الامريكية من العراق سيكون التحدي الآن فهم المغزى الكامن وراء عبارة"النهج الرزين"الذي وعد رئيس القوة الاعظم في تبنيه كاسلوب في التعامل مع البرنامج النووي الايراني..
فبعد كل هذا الحديث عن الاستعدادات لضرب المنشآت النووية الايرانية من خلال هجوم اسرائيلي محتمل وبعد كل الاجراءات التي اتخذتها دول المنطقة لتهيئة الارضية الملائمة لاغراء الدول الكبرى في اتخاذ ومباركة هذا الخيار..تأتي تصريحات الرئيس الامريكي التي يصف فيها من"يدقون طبول الحرب"بـ"الخفة" مفاجئة للكثير من الجهات التي كانت تراهن على الدالة التي يملكها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو على مراكز القرار في الولايات المتحدة في الحصول على الضوء الاخضر من واشنطن للانتقال بالعلاقة بين طهران والمجتمع الدولي الى الصدام العسكري المباشر..كما ان توقيت هذه التصريحات مع رسالة كاترين آشتون التي بعثت بها الى المفاوض الإيراني سعيد جليلي عارضة فيها باسم القوى الكبرى استئناف المحادثات مع إيران حول المسألة النووية قد تطرح العديد من التساؤلات عن مستوى وطبيعة الجزء المعتم من المفاوضات الذي يشغل الجزء الاكبر مما يدور تحت الطاولة وفي الغرف المغلقة نصف المضاءة..
وهذه الضبابية..وهذه العتمة..مضافة الى الموافقة السريعة لطهران-بعد طول تمنع- في السماح لمفتشي وكالة الطاقة الذرية الدولية في زيارة المواقع العسكرية المحظورة قد تشي بالكثير مما يدعم الشكوك بوجود ملامح صفقة ما يمكن ان تكون قد ابرمها الغرب مع نظام يقبع على مسافة دقة قلب من الاشتباك مع الولايات المتحدة لما يقارب الثلاثة عقود ومتهم بقتل جنود ومدنيين امريكيين في لبنان والعراق وإفريقيا وجنوب شرق آسيا، وبتهديد المصالح الغربية في مناطق قوس النفط، المُـمتد من مضيق هرمز إلى ساحل بحر قزوين..
والسؤال الاهم هنا هو عن ماهية عناصر هذه "الصفقة الكبرى" التي من الممكن أن تبرمها واشنطن مع نظام آيات الله متجاوزة فيها حلفاءها في المنطقة ؟مع الاخذ بنظر الاعتبار تأسيسية المسعى الامريكي في انجاز مهمة احتواء الشرق الأوسط الجديد. والترويج المستمر على خيار الضغط السياسي المتعاظم،والحصار والعقوبات الاقتصادية فضلاً عن تحشيد الجيوش والأساطيل الحربية ضد طهران.
من الواضح هنا ان الإدارة في واشنطن ومن خلفها اوباما وجدت نفسها مضطرة إلى التكيّف مع الوقائع على الارض والمعطيات التي أفرزتها عملية التغيير في العراق وتداعيات الربيع العربي. وخصوصا تلك التي ساهمت بتورم الدور الايراني وتموضعه كفعل مضاد امام الوجود الأميركي الواسع النطاق والمكثف في المنطقة. أما مفهوم التكيّف المفترض من جانب الإدارة الديمقراطية للبيت الابيض، فذلك ما يمكن أن يطرح على صورة تساؤلات معقدة حول ما إذا كانت الحرب السياسية المحتدمة بين أميركا وإيران ستصل في المدى المنظور إلى تسوية تاريخية قاعدتها الاعتراف بشبكة المصالح الكبرى لكل منهما؟
ومثل هذا التساؤل سوف يسلسل بالضرورة تساؤلاً آخر قد يتحاشى الكثيرون طرحه في الوقت الراهن ، يتعلق بالدول العربية المهتمة بالشان الايراني، وما إذا كانت الصفقات الكبرى الآتية ستكون على حساب حجم حضورهم ووزنه في المنظومة الإقليمية الجديدة.خصوصا ان التصعيد المتقادم للصراع ولد معطيات دينية وأيديولوجية وفلسفية ترتب عليها إضفاء صفة فوق سياسية على طبيعة العلاقات العربية-الايرانية مما لا يمكن معه الحديث عن اي صيغة مقبولة للتعايش ما بين ضفتي الخليج المأزوم.
والتساؤل الاهم هنا سوف يكون عن مدى قابلية الدول العربية منفردة او كمؤسسات وتجمعات ومجالس على الوجود الحي والفاعل والمؤثر في عولمة رأسمالية لا تعير وزناً إلا للمصالح المشتركة,ومدى جدوى الاستمرار بالمقاربة الوجدانية للامور التي لا تحتمل الا التعاطي وفق المفاهيم الدولية الحديثة القائمة على الفكر المؤسسي ,والتي لا تستحضر الانتماءات الدينية أو القومية او العرقية كمحددات للشعور بالتقارب .
كما ان هذه الظروف قد تشير الى خطل المراهنة العربية المزمنة على الثغرات السياسية التي قد يتيحها تعدد مراكز واركان القرار الايراني من الولي الفقيه، الى مجلس الخبراء، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس الشورى، والحكومة كمعوق امام اتخاذ الحكم الايراني خطوات تجاه التقارب مع الغرب,بسبب التمظهر السياسي التقليدي الذي يتجلى من خلال التوازن والمطابقة بين الغاية ووسائل تحقيق هذه الغاية، سواء تعلق الأمر بالسياسات الخارجية وخطوط التواصل الإقليمية والدولية، أو ما يتعلق بوسائل الحفاظ على استمرارية التشبث بالسلطة من خلال الدمج التام والتكامل مابين مراكز القرار في الدولة..فبعد التجرع الشهير لكأس السم نرى تصدر رفسنجاني عملية اعادة بناء الدولة ببراغماتية مبنية على علاقات اوروبية متميزة ,ولكن الوجود الامريكي في العراق جعلهم يقدمون الاصولي المؤدلج أحمدي نجاد، لقراءتهم الصحيحة للفرص الإقليمية الهائلة الذي يقدمها لهم التشدد امام هذا الوجود مقابل اسراع بعض الحكام العرب الى حلق لحاهم كفعل استباقي لحلاقتها من قبل الولايات المتحدة الامريكية.
ان اكتفاء العرب بسياسة التوسل باضفاء صفات فلسفية على الصراعات الدولية والاقليمية وتحميلها شحنات قومية او دينية تقلل امامنا كثيرا من هامش التحرك نحو مقاربات اكثر واقعية وتخلق ارضية ممانعة تاريخية تجاه الحلول التي يمكن التوصل اليها من خلال تأسيس منظومة علاقات اقليمية ودولية متوازنة.ومحاولة الاستفادة من الدروس التي تلقيناها بسخاء كمجتمعات ودول والمرشحة لان تكون اكثر عنفا اذا لم نعتمد على المقاربات الواقعية الحية المعتمدة على المصالح والمشتركات ما بيننا كدول اقليم ومع دول العالم. وقد نجد انفسنا قريبا معنيين بتفسير عبارة الرئيس اوباما التي تقول ان"الذين يدقون طبول الحرب عليهم مسؤولية توضيح تكلفة العمل العسكري وفوائده".
التعليقات (0)