الرئيس أبو مازن: الرجل الذي حاول أن يحرر الاحتلال من عقدة الاحتلال
الكاتب: عيسى قراقع
لم أقرأ خطاب الرئيس الفلسطيني المتلفز يوم 5/11/2009 والذي عبر فيه عن عدم رغبته في ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة القادمة من منظور شخصاني بقدر ما رأيت فيه خطابا سياسيا جريئا ومكاشفة واضحة للشعب الفلسطيني حول مصيره ومآل التسوية السياسة التي وصلت الى طريق مسدود بسبب المواقف والإجراءات الإسرائيلية التي تنسف أية عملية سلام عادلة ومتكافئة بين الشعبين.
خطاب الرئيس كان يعبر عن تمسكه بالبرنامج السياسي والوطني الذي أعلن في برنامجه الانتخابي قبل خمس سنوات وتبنته اللجنة التنفيذية ل م ت ف والقائم على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة في حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشريف وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
خطاب الرئيس كان بمثابة إلقاء المسؤولية على المجتمع الدولي والأطراف الدولية الراعية لعملية السلام بتحمل مسؤولياتها أمام فشلها الذريع بإقناع حكومة اسرائيل بالمبادرات السلمية الدولية التي تدعوها الى إنهاء احتلالها للشعب الفلسطيني ووقف حربها الاستيطانية المخيفة في الأراضي الفلسطينية وسياستها العدوانية المتواصلة على حقوق الشعب الفلسطيني.
خمس سنوات استطاع فيها الرئيس أبو مازن أن يسقط (ذريعة اللاشريك) من القاموس الاسرائيلي ويثبت أن الشعب الفلسطيني جدير بالحياة وقادر على الالتزام بما اتفق عليه وبناء مؤسساته المدنية والأمنية وتكريس الحياة الديمقراطية والتعددية السياسية في المجتمع الفلسطيني رغم وجود الاحتلال و بجدارة أثارت استغراب الجميع.
المعركة التي قادها الرئيس أبو مازن كانت معركة سياسية وأخلاقية وإنسانية وقانونية استهدفت بالدرجة الأولى العقل الاسرائيلي الذي تربى على الخوف من الآخرين وعلى العسكرتارية والسيطرة والعدوان في محاولة لتحرير الاحتلال من عقدة الاحتلال وإقناع قادة اسرائيل أن السلام ممكن على هذه الأرض المشتركة.
رغم كل الجهود السلمية التي بذلت على مختلف المستويات وصل الرئيس أبو مازن الى قناعة أن حكومة إسرائيل وقادتها لا يملكون الإرادة لإقامة السلام العادل والحقيقي مع الشعب الفلسطيني وأنهم ما زالوا يفكرون من فوهة البندقية ويعيشون مأزق هويتهم القومية وأسرى لأساطيرهم الخرافية، المنافية لمبدأ الحوار والتعايش والسلام.
لقد مشى رئيس السلطة طويلا على درب الآلام لبلوغ السلام الحقيقي والعادل الذي يوفر لشعبه وللآخرين شروط الحياة الإنسانية والوطنية وقبل مبدأ التعايش المتكافئ على أرض وطنه التاريخي مقدما المعونة الأخلاقية لمجتمع الجلادين في إسرائيل كي يعيشوا أسوياء وطبيعيين بلا مسدسات وأغلال وهواجس مختبئين وراء جدار وحواجز ومعسكرات.
لقد اكتشف الرئيس أنه يفاوض قادة وصفوا أنفسهم بأنهم مجانين خلال العدوان الوحشي والدموي على قطاع غزة، وأن أمامه بلطجية غرقوا في الدرك الأسفل من الانحدار الخلقي والفساد الأمني عندما ألقوا قنابل الفسفور على السكان المدنيين وارتكبوا جرائم حرب فظيعة.
لقد انتصر الإسرائيليون عسكريا وحققوا ما أسموه ( بالردع ) ولكنهم فشلوا تماما في أن يكونوا آدميين وعاديين وتحولوا الى آليين لا يجيدون سوى إطلاق النار وهدم البيوت واعتقال الناس وإذلالهم وحتى ملاحقة الفلاحين في حقول الزيتون.
اكتشف الرئيس أن دولة فلسطين المفترضة تضاعف فيها الاستيطان بنسبة 61 % منذ عام 2008 وعدد المستوطنين ارتفع الى 600000 مستوطن وأن حكومات إسرائيل تتسابق في رصد الموازنات للاستيطان وإقرار مشاريع البناء بشكل محموم وغير مسبوق وخاصة في القدس مما يقوض أية إمكانية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
إذا كان الفكر الصهيوني خاليا تماما من الشعب الفلسطيني فان برنامج نتنياهو خاليا من المسألة الفلسطينية إذ لا يوجد مصطلح الحقوق الفلسطينية في هذا البرنامج وكل ما يعرضه سلام اقتصادي في ظل استمرار سيطرة الاحتلال، وعندما تغيب من الرؤيا الإسرائيلية الحدود السياسية فإنها تغيب في نفس الوقت الحدود الأخلاقية.
بين يدي الرئيس أبو مازن تقارير أممية كثيرة صادرة عن الأمم المتحدة إضافة الى وثائق خطيرة صادرة عن المؤسسة الأمنية الاسرائيلة جميعها تدل أن حكومة اسرائيل تسعى الى تكريس احتلالها للأراضي الفلسطينية بخلاف قرارات مجلس الأمن والقوانين الدولية.
بين يديه تقرير من مكتب تنسيق الشؤون الانسانية التابع للأمم المتحدة الذي تحدث عن ازدياد عدد الحواجز العسكرية في الضفة الغربية ليصل الى 630 حاجزا يعيق الحركة في الضفة والقدس الشرقية ، وان 65 % من الطرق الرئيسة في الضفة الغربية والتي تؤدي الى 18 تجمعا سكنيا فلسطينيا مغلقة أو مسيطر عليها من قبل حواجز الجيش الاسرائيلي .
بين يديه تقرير يفيد أن جدار الفصل العنصري يعزل 64 تجمعا فلسطينيا يقطنها اكثر من 107 آلاف مواطن فلسطيني وقد اقتطع الجدار ما نسبته 13 % من مساحة الضفة الغربية.
بين يديه تقرير عن نهب وسرقة مياه الفلسطينيين وسياسة التمييز التي تتبعها اسرائيل في توزيع مصادر المياه المشتركة في الضفة حيث يبلغ معدل استهلاك المياه للشخص الواحد في اسرائيل 3.5 ضعف عنه في الضفة.
بين يديه تقارير مرعبة تشير الى أن 40 % من مساحة الضفة الغربية تقوم عليها المستوطنات الإسرائيلية والمناطق العسكرية المغلقة والمحميات الطبيعية والطرقات المخصصة للإسرائيليين فقط وقد أصبحت القدس الشرقية مفصولة تماما عما تبقى من الضفة الغربية بحلقة من المستوطنات اليهودية.
بين يديه تقارير عن اكثر من 3 آلاف بناء صدرت أوامر عسكرية بهدمها في الضفة الغربية والقدس .
بين يديه وثائق صادرة عن جهاز المخابرات الإسرائيلية تشير الى اعترافات بممارسة التعذيب بحق الأسرى الفلسطينيين وتشريع المعاملة القاسية للأسرى بغطاء قانوني ورسمي .
بين يديه ما أقرته اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون التشريع بوضع تشريعات لتشديد الإجراءات على حقوق الأسرى الانسانية والمعيشية وخاصة حرمانهم من زيارة ذويهم.
أدرك الرئيس أن حكومة اسرائيل تقوده وتقود شعبه الى سجون معزولة تحاصرها دولة تسير سريعا نحو الابرتهايد والعنصرية.
أدرك الرئيس أن ما افشل كل المبادرات السلمية السابقة وكل الجهود التي بذلها مبعوثو السلام تكمن في إخفاق الأسرة الدولية في رفض الفكرة الإسرائيلية القائلة أن الاحتلال وإقامة الحقائق على الأرض يمكن أن تستمر الى ما لا نهاية ما دامت اسرائيل لا تجد اتفاقا مقبولا لديها.
أدرك الرئيس أبو مازن أن المطروح عليه ليس حلا وإنما سياسة تعايش مع الاحتلال دون حل وهو مفتاح التوسع الاستيطاني وتقليل أعباء ومخاطر الانسحاب أو الضم الرسمي، فالاحتلال لا يريد أن يدفع ثمنا سياسيا ولا اقتصاديا لاحتلاله شعبا آخر، كأن استمرار الاحتلال الى ما لا نهاية هو البديل لتنفيذ قرار مجلس الأمن 242 .
أدرك الرئيس أن قرارات الشرعية الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة لم تعد تعتمد كأطر مرجعية لعملية التسوية وتمت إزاحتها واستبعادها جميعا مما أسقط غطاء الشرعية والعدالة عن عملية التسوية وترك الأمر لانعكاسات موازين القوة الفعلية على الأرض.
لقد وصفوا الرئيس بأخطر رجل في العالم لأنه رفع شعار السلام خيار استراتيجي وأسقط مشروع الحرب والعدوان من الثقافة والوعي الاسرائيلي فوجدوها في منهجه السلمي خطرا على مشروعهم وأحلامهم التوسعية وانقلابا على ايدلوجيتهم.
وصفوه بأخطر رجل في العالم لأنه حاول أن يخترق المجتمع الاسرائيلي ويحرره من عقدة الخوف والكراهية والتطرف وإقناعهم أن هناك شعبا يسعى لبناء السلام الحقيقي معهم.
ولأنه لأول مرة تتوجه الضحية الى جلادها بيد ممدودة للسلام وجدوا فيه خطرا وجوديا بل شبحا ينسف تربيتهم ومفاهيمهم التي تمجد الحرب وتحتفل بروعتها.
ثماني مرتكزات أساسية طرحها الرئيس في خطابه لتحقيق السلام العادل أبرزها الحاجة الى مرجعية دولية للتسوية تلزم اسرائيل بالقرارات الدولية وبالاتفاقيات الموقعة وتضع حدا لانفلاتها الاستيطاني والوحشي تجاه حقوق شعبنا الفلسطيني.
التعليقات (0)