من كان يتصور في ربيع العرب أن تتجه الأنظار كلها إلى اليمن حيث تقود حركة الاحتجاجات ضد الطــاغية علي عبد اللــه صالح امرأةٌ تسبق ابتسامتُها ثقتها بنفسها وبشعبها؟
توكل عبد السلام كرمان لا تمثل نساء اليمن فقط، لكنها تتسلم جائزة نوبل باسم المرأة المصرية والسورية والليبية والتونسية، وتشد من أزر نساء عربيات سيـُحلن حياة الطــغاة في عالمنا العربي إلى كوابيس.
معركتها ضد ديكتاتور يمضغ الكذب معجوناً بالقات، ويخلف العهد مع اشراقة كل صباح، ويخدع شعبه بوقاحة لا مثيل لها.
توكل كرمان أعطت المرأة اليمنية قيمة لم تعرفها من قبل، لا في عهد الإمامة، ولا في عهد الكاذب الجلاد .. علي عبد اللــه صالح.
في كلمتها بقاعة مبنى البلدية الجميلة بقلب العاصمة النرويجية كان اليمن الجديد يطل على العالم، وكانت أرواح الشهداء تــُحلق مبتهجة ببلقيس القادمة من تعز، ولأول مرة في تاريخ جائزة نوبل للسلام منذ عام 1901 تقف امرأة عربية في الثالثة والثلاثين من عمرها أمام الأسرة المالكة ولجنة جائزة نوبل للسلام وكبار رجال ونساء الدولة في النرويج، ويشاهدها مئات الملايين في العالم كله فتعرض بلغة أدبية سليمة وجميلة، ومنطق عقلاني وإنساني قضايا وطنها، ونضال شعبها، والعيد الأول للثورة اليمنية التي سيـُخـّلدها التاريخ، وتخرج في خطبتها من الحديث عن الحروب والعنف والاحتلال والظلم إلى أهم قضايا العصر. أي العلاقة بين المستبد وشعبه، بين
سارق اللقمة من أفواه المحتاجين.. والصمت الذي ران على ألسنتهم سنوات طويلة.
في كلمتها التي قاطــعها الحضور مرات كثيرة بالتصفيق، وأغرورقت عيون، وسرت قشعريرة فرح في أجساد أكثر الحاضرين، وأزعم أن أكثرهم سيبدأ بعد العودة إلى البيت بالبحث عن معلومات عن تاريخ وجغرافيا وحضارة اليمن.
جاءت توكل كرمان دون أن يبلغها هدهد، فليس لها عرش إنما خيمة، وليس لها رجال يطيعونها إنما شباب يحبونها، وأعترف أن الطير لم يقف على رأسي من قبل وأنا استمع إلى خطبة عربية، فكيف وهي على مبعدة عشرة كيلومترات من بيتي؟
كانت توكل مـَدْرَسة ينصت فيها العالم لصوت يمني عربي مبين، تتحدث عن الديمقراطية، وتنتقل إلى إدانة الاستبداد، وتُفزع الطــغاة بالحديث عن أن اللــه خلقنا أحراراً، ويصغر علي عبد اللـه صالح، ثم يتقزم، ثم يصبح أصغر من حزمة قات لفظتها أسنان صفراء فاقع لونها.
هل هناك في يمن الثورة من يستحق أن يصبح حاكم هذا البلد أكثر من توكل عبد السلام كرمان؟
فيها كل مواصفات القيادة الحكيمة، شابة، ثورية، أديبة، مناضلة، شجاعة، مؤمنة بالقيم الإنسانية والحضارية والدينية، لا تفرق بين مذهب وآخر، ولا تميز بين عقيدة وأخرى رغم تمسكها وقناعتها ويقينها بدينها.
إذا استمعت إليها فكأنك تريد أن تختطف كل القيادات اليمنية الحكومية والمعارضة المستأنسة، وتلقي بها في سد مأرب، أو من فوق أعلى جبل يمني لأعمق واد سحيق.
لو كنت مسؤولا سعوديا ينسجم الضمير في صدري مع الإيمان الديني والتسامح الإنساني لأمرت بالوقوف بجانب الثورة اليمينة، وعدم استقبال علي عبد اللــه صالح ليتسامر مع نظيره التونسي في اجترار الذكريات عمن كان الأبرع في اهراق أرواح شباب بلده.
لو وقف أكثر قادتنا العرب بجانب توكل كرمان بعد كلمتها في حفل نوبل للسلام لما لفت أي منهم نظر واحد فقط، فالسلطــة والجاه والمال والقصور والنسب والحسب واليونيفورم والتاج كلها لا تساوي لحظــة شجاعة من هذه الثائرة اليمنية العظيمة.
النضال ليس كلمة يكتبها مستشار الطــاغية ليلقيها على مسامع شعب يعرف أنه كاذب، لكنها مسيرة تنتهي دائما بالنصر أو الشهادة أو .. زنزانة تحت الأرض تصنعها الكلاب بأوامر المستبد ليتلذذ في قصره عندما تتناهى إليه أخبار التعذيب واغتصاب الرجال و .. صمت مواطنيهم خارج الأسوار.
كانت المناضلة الرائعة ذكية في عرض قضية الوطن العربي كله، وأحسب أن الأرق سيطارد أسياد قصورنا منذ هذه اللحظــة، فالمشير ستزوره كوابيس قادمة من ميدان التحرير قبل 25 يناير القادم، والارهابي عمر حسن البشير لن يتمكن من تقسيم ما بقي من السودان الأسمر الحبيب، وعسكر الجزائر ومتطرفوها سيفهمون أن المرأة قادمة لا محالة، وأن ليلى شرف ربما تتولى رئاسة الجمهورية الأردنية بعد زوال الحُكم الهاشمي، وأن المستشارة نهى الزيني ستزيح المجلس العسكري عن المشهد المصري، وأن مناضلات عربيات سيأخذن مكان الرجل الفاشل فالمرأة ليست مربية في البيت فقط، لكنها مربية في مسيرة النضال.
من يقولون بأن لا لولاية للمرأة على الرجل عليهم أن يضربوا رؤوسهم في الحائط حتى تدمى، فذكور قومنا أثبتوا أنهم سبب البلاء.
الكرة الآن في الملعب السعودي، وإذا أصرت المملكة على دعم الطـاغية واخراجه آمنا بعدما تلوثت يداه، فلن يمر وقت طويل حتى تهب رياح عاتية تزيل أوتاداً ظننا أنها مثـَبَّتة بالدنيا والدين فإذا هي هشة بالقصر والصولجان.
توكل كرمان هي بلقيس الجديدة، واليمن وطن قادر على العطــاء الأنثوي الجميل أكثر من انتاج طــغاة متوحشين ومتخلفين وقساة.
الثورة اليمينة مطالــَبة بالاستمرار، فعرش الطــاغية وكلابه سيتهاوى الآن أسرع من ذي قبل، وتوكل كرمان هي الرئيسة القادمة بدون أي شك، وعليها أن تستعد من اليوم في وضع خطط إدارية سليمة تقفز باليمن عشرات السنوات التي فقدها في حسابات المستبدين، وتحت أحذية العسكر، وبدعم جيران ما كان لهم أن يقفوا ضد الشعب اليمني لئلا يحاسبهم التاريخ حسابا عسيرا.
مهمة الرئيسة اليمنية توكل كرمان ليست هينة، ولكن بعد النضال الرائع لمئات الآلاف من النساء والفتيات اليمنيات جنبا إلى جنب، تتراجع الفتاوى الفجة التي تحتقر المرأة، وتدس أنفها في التراب أو تقوم بوأدها في بيت زوج أصغر قليلا من جدها، أو تبيعها في فندق رخيص على مشارف صنعاء، فيتمتع بجسدها عجوز ثري ليومين أو ثلاثة، ثم يترك لها مبلغاً صغيرا على الفراش، ويعود إلى زوجاته الأربع.
مهمة الرئيسة اليمنية تبدأ من إعادة اليمن إلى خارطــة العالم، وتتلقي الدعم المالي والمؤسساتي غير المشروط، ثم عليها بالمستشفيات والعلاج والتعليم ومحو الأمية وتجريم تخزين القات وإنشاء دولة عصرية.
مهمة الرئيسة اليمنية أغلاق تام لكل المعتقلات، واعتبار وجود سجين ضمير واحد هو جريمة في حق شعب وضع ثقته فيها، والغاء كل مظاهر التطرف والتشدد والمذهبية، ومساواة اليمنيين على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وفرقهم فالسني والشيعي والاباضي والحوثي وغيرهم لا تفرق بين أحد منهم.
الرسالة التوكلية وصلت إلى العالم، واخترقت نوافذ قصور الطــغاة، وأعادت للثورة العظيمة روحها رغم أنها لم تفقدها، وشجعت المصريين على استعادة ثورة مسروقة، وأعطت للخليجيين درسا في أن دعم علي عبد الـله صالح سيثير متاعب لديهم أكثر من متاعب في اليمن ذاته.
اليمنيون والأحرار والشرفاء وعشاق هذا البلد الصابر المناضل ينتظرون بصبر نافد يوم تسلم الرئيسة توكل كرمان زمام الحــُكم، ليعود اليمن إلى سطــح الأرض بعد أن دفنته أسرة حميد الدين وجنرالات الجيش ومشترو ذمم القبائل في باطنها.
سيدتي الرئيسة الشابة الرائعة،
مبروك الجائزة، ومبروك مقدماً رئاسة اليمن .. السعيد.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 11 ديسمبر 2011
التعليقات (0)