الرؤيا الشعرية وخرق أفق التوقع في ديوان "سبعة رجال" لهشامي العيدي
صدر للشاعر هشامي العيدي ديوان شعري بعنوان "سبعة رجال"عن دار النشر القرويين، الدار البيضاء، من القطع المتوسط في 95 صفحة، يتضمن الديوان أكثر من أربع عشرة قصيدة.
يلفت النظر في ديوان "سبعة رجال" تعدد الأصوات (Polyphonie)، بتعبير ميخائيل باختين، يبدو فيها الشاعر هشامي العيدي مشدوها إلى سطوة الزمن وأعادي الدهر، فهو يبدو، مثالا، في الحوار الذي يدور بينه وابنه، ذلك الأب الذي علا الشيب فوديه، حين يستفسره الابن عن ذلك، لأنه يراه أكبر من سنه، فقد شاب قبل المشيب؛ يورث الابن فواجعه التي يعجز عن سترها، ما دامت بادية على محياه، يستطيع ابنه السائل قراءتها في ناصيته.
لا يزال الطفل مع ذلك بحذوه أمل الحياة والاستمرار في الوجود، بينما الأب يرى ملاذه في الموت الذي أضحى هجيراه وديدنه أمام تكالب الدهر وصروف النوب، حتى إن الشاعر ليبدو متزينا بلباس بدر شاكر السياب، رائد الشعر الحديث، الذي كان يرى في الموت الخلاص من المرض العضال الذي لازمه طول حياته.
تبدأ الأسئلة الأبوية بالهمزة، وهي تدل وظيفيا (نسبة للنحو الوظيفي الذي اقترحه سيمون ديك 1978) على بؤرة المقابلة، أي أن السائل ليس خالي الذهن بخصوص المعرفة التي سيزوده بها المسؤول/ المخاطب، إذ لا يريد جوابا، ولكنه يبتغي طرح أسئلة أنطولوجية،( بالمعنى الذي يقصده جان بول سارتر بهذا المفهوم)، ولعل ذلك راجع إلى تخصص الشاعر الفلسفي ابتداء، ومراودته الكثيرة للشك، سواء كان شكا منهجيا أم شكا ريبيا، بالمفهوم الديكارتي للشك،(أتسخر؟، أمن أب؟، أم من طفلك؟، أمن المنية تخشى؟، أهكذا الحياة؟...).
إنها أسئلة فلسفية تخص الوجود الإنساني في كامل تمفصلاته، حيرت جميعها الشعراء والفلاسفة على حد سواء، تعد أساس الإبداع في الشعر، ومحور التفكر في الفلسفة، ولعل هذا ما جعل الشاعر، في الأخير، يتفجر حكما لقمانية جماعها ثلاث: حب الحياة، وعدم خشية الموت، وشقوة القلم. أليست الفلسفة ابتداء حبا للحكمة؟!
يملأ ذكر الشيب الديوان مثلما يملأ فودي صاحبه، هذا اللون الأبيض الذي خبل الشعراء، فكثيرهم امتعضه لنفور الناس من صاحبه، حتى إن الشاعر ليقول بلسان عمرو بن كلثوم:
حتى إذا تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبـد
ومما ورد في ذكر الشيب أقوالهم:
• عيرتني بالشيب وهو وقار ياليتها عيرت بما هو عار
• ياليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعـل المشيب
• عجوز ترجى أن تكون صغيرة وقد نتأ الحجبان واحدودب الظهر
تعود إلى العطار حلية أهلـها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهـر
يطفح الحضور المكثف للشيب في الديوان، فالشاعر يربطه أحيانا بمرض السرطان(قصيدة سرطانية) الذي كان سببا في فقد أعز الناس إليه:
يا سيدتي!
انتهى الأمر
لا حل، لا أمل
لا شفاء.. ص23
يصير الشيب بذلك البعبع الذي يقض مضجع صاحبنا، ويزيد من أسئلته الوجودية التي لا تخلو أية قصيدة في الديوان من إثارتها:
كساني الشيب
وشيبي من علل
عجبا لشيب الشباب
ولطفل
في المهد عجبا
يشيب ص20
تغدو القصيدة مرتعا خصبا لتصريف المعاناة والمناجاة الدائمتين، فهي الوحيدة التي ترد عليه بعضا من أرزائه، من خلال نزعة رومانسية، أشبه بغرفة الشاعر الوجداني علي محمود طه:
ليس غيرك
من يفهمني
من يعلمني...
حسن الإصغاء
ليس غيرك
من يشرحني
من يقولني
وينطق كل الأعضاء ص26
تبدو المعاناة في شعر العيدي مهمازا للبوح والتأسي، والنظر إلى الأشياء المألوفة بعين غير مألوفة تماما، إذ ينطق الجماد، ويتحسس المجرد، ويجرد المحسوس، في وقت أمست فيه القصيدة أحيانا بيته العاجي المألوف، الذي لا يبتعد عنه قيد أنملة، فهي مرآته التي يرى فيها أناه المكلومة:
أقرأ فيك تفاصيلي
تلاويني
أهوي بك على الصخر ص28
تندغم القصيدة في الوطن، فيصبحا معا وجهين لعملة واحدة، إذ هما معا حبه الأول والأخير، وإن كان في هذا الحب لواعج تنوء بكلكلها على وجدان الشاعر، أليس الحب في تجلياته كلها عذاب؟!
رسمت هذه الآصرة رؤيا العيدي الشعرية المخصوصة نحو الحياة والموت وصروف الدهر، وهذا مبتغى الحب الأبدي للوطن الذي أعطاه البلسم لكلمه، وزاده من الصبر ما إن أرزاءه لتنوء به:
وطني قصيدتي!
أجمل الكلمات
سر المعنى
عشق المغنى
أحلى الروابي
وطني وقصيدتي
الحب الأبدي
وإن قلته بالآهات ص29
لا تحضر المرأة في الديوان كما اعتدناها دوما في الشعر العربي بمختلف تفاصيلها المتعية( بحسب ما يقصده رولان بارت بالمتعة)، فلا ينظر إليها الشاعر في الديوان إلا من جوانبها النفعية وحسب، بل الأدهى من ذلك أنه أبدل القصيدة بها، وطفق يضفي عليها سماتها المميزة (بالتعبير الجاكوبسوني) ونشأ يراودها عن نفسها ويهصرها، معتمدا أسلوب التشخيص(Anthropomorphe)، أي إضفاء طابع إنساني على القصيدة:
لملميني يا قصيدتي
أعيدي يقظتي
سحر الجمال
نوميني ص31
....
أنا أحبك يا قصيدتي
كما تحبينني ص36
إذا كانت القصيدة منظورا إليها من قبل الشاعر العيدي في صورة امرأة حسناء، تبادله حبا بحب مناجزة، فإن الشعر بالنسبة له لحظة (لحظة شعر)، ألا يعني ذلك أن نظرته نفسها للمرأة مرتبطة بالآني، تبدأ بالاشتهاء وتنتهي بتحقيق اللذة، أي بالنزعة الليبيدية، كما يراها رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد، خصوصا إذا علمنا أن بنات أفكار هشامي الشعرية لا تأتيه إلا ليلا، حين يخلد إلى نفسه في ظلمة العشاق وتأوهات المحبين:
أتاني الشعر
أتى بالسهر
والشعر نوم الحبر على الورق
حين تسرقك الكلمات
تصحو
وبالكلمات ظلمة العشاق
تشرق ص38
وإذا كانت القصيدة مناجاة ووجد، فإن الشعر برمته كشف وتعرية للمكنون، حيث إن الشاعر الفحل في عرف المحبين، هو الذي يشعر بما لا يستطيع غيره أن يشعر به، يرى فيه صاحب الديوان سبيلا قويمة لفهم النفس البشرية، وهي تقبع وراء مشاعرها في وعيها ولاوعيها، فسيان أن يأتي من السقم أم من الفاجعة أم من أي ضرب من القول، فكلها مفاتيح الشعر إذا انغلق بابه: أمن سقم جئتني؟
أم من مهجة؟
أم بين الحلم والعلم؟
قادتك ملائكتي ص41
طرح الشاعر قضايا، أصبح أغلب الشعراء المحدثين يطرقونها استجابة لضرورات العصر، وهي مواضيع من قلب الحياة الاجتماعية الحديثة، كما تدل على رغبة هؤلاء في الانفلات من ربقة البيت العاجي الذي تدثر فيه الشعراء الرومانسيون أسلافهم، بعيدا عن الشكوى والعتاب والبكاء والانزواء.
لملمت هذه القضايا قصائد "الكبش" و"الكعكة"و"عاشوراء"و"حساء"و"زفاف"و"البركة" و"نهاية الأسبوع"؛ وهي كلها تجتمع في عنوان بارز "سبعة رجال"، عنوان الديوان نفسه، الذي قدمه الشاعر مشة لخرق أفق توقع القارئ، إذ إن دلالاته الواردة تحيلك بداهة إلى سبعة رجال مدينة مراكش، ولكنها في الأصل سبع قضايا من صميم الحياة اليومية تحددت بها رؤيا العيدي الشعرية، يستعمل هذه الأسماء ليس في ذاتها، ولكن باعتبارها رموزا تحبل بدلالات أعمق من معانيها الأصل ابتداء، كما تحدد كيفيات نظرته للأشياء والوجود، وذلك بعين غير مألوفة، مما يخلق انزياحا وخروجا عن المألوف في الإيقاع، واللغة الشعرية، فالكبش أقرن يلف الشوارع والشر باد من عينيه، ويعد بانتقام:
قرونه تلف الشوارع
والشر من عينيه
من الكلام
وبين ثنايا أذنابه
وعد بانتقام ! ص44
ولم تعد الكعكة تلكم الحلوى التي تسافر حولها الأيادي في الخوان، وترعى غالبا أرض الجيران في مختلف تجليات محافلنا، بل أضحت مثارا للسؤال الدائم، والحيرة الدائبة: واعلم ياسيدي
بعد حلاوة الحلوى
يبقى سِؤال ! ص45
تقوم باقي القصائد المذكورة سالفا على الرؤيا غير المألوفة للأشياء عينها، وهي أشبه بقصائد غيوانية مكتوبة بالدم لتقرأ بالدمع، وتجعل المتلقي يفكر كيف يقرأ هذه الأسئلة الوجودية، إن كل القضايا المطروحة يجمعها الابتذال الذي صارت إلية تنشئتنا الاجتماعية اليوم، فالفقيه يغني والعروس من الأوهام:
في الشارع الخلفي
تنتصب الخيام
فقيه يغني
وعروس من أوهام
ضجيج الموتى يدوي
وحراس الأبواب نيام ص48
جعلت العلاقة الناظمة للشاعر بالحياة التي سلبته روحه، ينظر إليها نظرة مأساوية لازمة له، حتى إنه ليدعو إلى تلافي هذه الحياة بعدم الخروج إليها ابتداء، متأثرا بالرؤيا الرومانسية المتشائمة لفيكتور هيغو، خصوصا في قصيدته ( لا أريد أن أولد) التي يحكي فيها عن طفل لا يريد الخروج حين الولادة، لما سيعرفه استقبالا من الأرزاء، فكذلك الشأن بالنسبة لابنة الشاعر: أخشى عليك بابنتي
ما أحزنني !
أخشى النار
خشى عليك
من المولد
والموقد ص 52
تطفح القصائد جميعها بالفواجع، فيغدو الديوان على إثرها مرتعا خصبا لتصريف عبق المواجع، مرد ذلك إلى الحياة نفسها التي يعيشها الشاعر، وهذه البنت ليست سوى القصيدة والكلمة والفكرة.
وتحضر المدينة الحديثة في الديوان من خلال مدينتين جارتين (الدار البيضاء ومازغان/الجديدة)، تتجلى الأولى في صورة امرأة ناصعة البياض، فاتنة تشارك الشاعر آهاته، وتستعيد ذكرى السياب في قصيدة ( أنشودة المطر)، فهما معا يتصوران المكان بوساطة التشخيص، وتتبدى الثانية في ثوب قشيب تفاخر أترابها به؛ تغدو المدينة كما هي في الشعر الحديث لغزا: عيناك بريق
يسرقني
بين الذاكرة
والنسيان ص60 يمتح العيدي منابع الشعر من روافد متعددة: ينهل من الفلسفة وعلم النفس والأساطير والرموز، وكذلك التصوف(خصوصا مفهوم الحلول عند ابن عربي والحلاج والجنيد)، هذه المنابع الثرة وسمت رؤياه الشعرية، مكيفا إياها بحياته ومعاناته الدائمة.
التعليقات (0)