حين بدأت الكتابات في الصحف العربية عن " يوميات " صموئيل شمعون، ابتأست قليلاً، فلا أحب الكتاب الذي يثير ضجيجا في الغالب، ولكني أقنعتُ نفسي أنه لابد كتب شيئا ساحراً، أو ما يدفعني لقراءته على الأقل! أما يكفي شريط كيكا، الذي في كثير من المرات أفتح كيكا لأرى ما يقوله صموئيل فيه، وأنطره، كي أقرأه من أوله، حينها أكون قد مسحت بصرياً مواضيع كيكا وحينما لا أجد شيئا مثيراً لاهتمامي أكتفي به و... أخرج. ثم أني قرأت له مرة في كيكا "عندما أقام روبرت دي نيرو في منزلي" وأعجبتني الخفة والتخفي الشديد للراوي خلف يوميات لا يدري أحد مدى واقعيتها، أو تخفي صاحب اليوميات خلف مخيلة الراوي التي أضافت وعدلت على الصورة الأصلية للحدث ليخرج بهذه الصيغة التي تضيع الحدود بين ماهو واقعي وما هو نتاج التخييل الروائي، فلا يفرق القارئ إن كان يكتب يوميات أم أنه محض خيال! وما زال الأمر غير محسوم لدي. لابد أنه كتب شيئا يقرأ على الأقل أقنع نفسي كلما قرأت عنواناً مادحاً للرواية. حين تجولت في معرض الرياض كان بذهني أن أشتري كتابك "عراقي في باريس" وكتاب رفيق شامي "التقرير السري عن الشاعر غوته" وهو ما حدث لكني اشتريت معهما كتاب نقدي لبول ريكور كي أقوي نفسي في النقد رغم أني لا أطيق الكتب النقدية وأجبر نفسي على قراءتها. وقد دفعت خمسة ريالات زيادة في كتابك يا صموئيل إلا أني أسامحك بها الآن وهو أمر أثار حفيظتي وقتها، إذ سألت ناشرك: بكم هذه؟ فقال " إنها بـ " 15 " ريال وحين جلبتها للحساب سجلها عشرين فقلت له لكني سألتك قبل قليل وقلت 15 فقال لم انتبه. استفزني الأمر لكني قلت أن صموئيل صاحبي ولا يهم خمسة ريالات زائدة كي تفسد شرائي لكتابه. وخرجت ممتعضاً، ورويت الحادثة لكثير من الأصدقاء فامتعضوا مثلي، رغم أن الأمر لا يعنيهم وأنا من دفع الخمسة ريالات زيادة، غير أنّا نحب الأشياء غير الحميدة عمن نعرفهم كي نشهر بهم. وعلى العموم خالد المعالي ناشرٌ لكتب جيدة لكن اغلب من يلتقي به في المعارض لا يحمل عنه انطباع حسن ولا ادري لماذا، ربما لأنه يكون بائع فقط حينها. من أين ابدأ يا صموئيل؟ حسنا لقد ضحكتُ كثيرا على الوصف المختصر والحاد للتعذيب الذي تلقيته. نعم ضحكت، وضحكت كثيراً عند اللقطة الأخيرة لمسيرة التعذيب. إنها تختصر الزمن العربي الآن وأمس فكل جهاز يتفوق على الثاني ويجعل ما قام به الذي قبله مجرد مزحة. هل كان من المفترض أن أتعاطف معك مثلاً! بالطبع لا، لأنك كنت خبيثاً وماكراً وأنت تنقل "تعذيبك" لنا، وأجزم انك كنت تضحك وأنت تكتب هذه الفقرات، لا، بل يخيّل لي أنك بعد أن كتبتها ابتسمت بعيون تلمع كمن وجدها، وقلت "نعم إنها صياغة مرضية وهذا ما أريده"! ولا أدري كم مرة عدلت وبدلت في الجمل لتخرج بهذه الصيغة التي تجعلنا ونحن في أشد حالات التعاطف نضحك ونبتسم ليس على طرقهم في التعذيب، بل على ردود فعلك عليه، أو طريقتك في وصفه. أعرفك جيدا تشقلبت على الفراش، وأنت تضحك بعد أن كتبت ذلك. لنترك هذا جانبا وإن كان مهما. لكن سيظل مشهد مغادرتك الصباحي لأهلك محفوراً الى الأبد في ذاكرتي نعم في ذاك الصباح أحببت، "نهرين" من بين الجميع وكان موقفي متعاطفاً فقط مع كيكا (الذي سأحبه لاحقاً) وأحببت "تغالظك" على أمك، التي تسخر محقة "انه مسافر الى هوليوود" كان يجب أن تضيف "دي بس انقلع " لتكون شبيه بأمي. هل تعلم أني أحس بسحر غامض لـ "يام"؟ هل تصدقني أنني أشم رائحة ربيع تنبعث منها؟ رغم أننا ننادي أمهاتنا: يوم. آه يا صموئيل يوما ما عندما أصبح وزيراً للتربية أو الإعلام أو أي حقيبة وزارية أخرى وهو ما سيحدث على الأرجح فيما لو نجح انقلاب يقوده منذر مصري! صدقني نسيت أي حقيبة كنت ستستلم لو نجح الانقلاب في تونس "هل ذكرت تونس أنت بالاسم في الرواية؟ ". نعم، حينها سأجعل روايتك تدرس في المدارس لنعيد النسيج الذي كان. فقد كان أبو نازار الأرمني، الذي أراه في مواسم الحصاد فقط، لان لديه حصادات ويحصد لنا زرعنا، يحلف عادة " بـ صلاة محمد " وهو اليمين الأشد قدسية في قرانا قبل أن تجتاحها الوهابية، ورغم أن منطقتنا لا يوجد فيها أي شيعي وفق التقسيمات التي عرفناها لاحقاً، فقد كان هناك قسم تقسمه النساء خاصة هو: "وعلي والنباية (الأنبياء) " أو، و"العباس" وهو يمين الصدق النهائي. ولم نكن نعرف من هو العباس هذا، سوى أنه شيء مقدس ما. كما أنني حينما ذهبت الى المدينة " في الصف العاشر" اكتشفت!! أن الأكراد ليسوا عرباً، ولم تدخل الفكرة مخي إلا بصعوبة شديدة بعد أن أكدها والدي. أكراد صح لكنهم عرب!! كنت أعاند صديقي الكردي في المدرسة، وأقول له أنا أعرف ذلك اكثر منك أنهم أقرباؤنا!. حين رأيت والدي قلت له"يابا صحيح الأكراد مو عرب؟! " لا ياوليدي الأكراد أكراد. " شلون؟!! عمي (زوج عمتي) فلان، وقرايبه تقولون لهم الأكراد. يا وليدي، عاشوا بجبل الأكراد سنين وسميناهم الأكراد. طيب بس عمي متجوز كردية" كلنا أهل ي وليدي كراد ولّا عرب ماتفرق"!!.. نعم يجب أن ندرس هذا الكتاب، إنه الكتاب الذي لا نظير له في التسامح في العربية! ربما لن تصدق يا صموئيل أن الدمعة سكنت عيني مراراً في "حنينك للزمن الانكليزي" فأنت بعد أن ورطتنا في الخفة، والضحكات التي كنا نطلقها بصوت عالٍ أحيانا، وبدون صوت في أحيان أخرى، في بداية الكتاب، تركت لنا المآسي حتى نوغل قليلا في كتابك ولا نتركه. ففي القسم الأول من الكتاب كنت تسربها ساخراً وفي القسم الثاني تسربها بحذر أقل أما في القسم الأخير يا لمكرك، أعرفك لعبتها بخبثٍ ومكرٍ شديدين، فيومياتك مشغولة بإبرة دقيقة يصعب أن تكون "هكذا جاءت" بل أنه رغم سلاسة السرد وبساطته وانسيابه إلا أني كلما دققت في جملة أقول انه ماكر إنه خبيث إنه يضحك علينا بإسلوبه الشيطاني الذي يبدو عفوياً .. ولكن قل لي هل شاهدت فيلم "نورمان ويزدوم في قوات المظليين" لأني حزنت جداً على عدم مشاهدتك له بل انتقلت الغصة إلي رغم أنك سامحت نصرت شاه وهو السبب في عدم حضورك الفيلم. تعاطفتُ معك بشدة حتى أحسست بخسارة شخصية لأنك لم تشاهد الفيلم رغم أن علاقتي بالسينما لا تتجاوز علاقتك بالملف النووي الإيراني. لو كنت ناقداً يا صموئيل لشرّحت التسامح في كتابك "لما لا أقول رواية لا ادري" ولكتبتُ كتاباً كاملاً عن التسامح قبل الأنظمة القومية كما وردت في "عراقي في باريس". أو التسامح قبل العهد الوطني في الدول العربية سرديات صموئيل شمعون مثالاً وعندما أضع فصلا عن التسامح بين الإثنيات سأقتبس مثالا عليه "اسمع يا جوي أنا أخبرتك بالمجازر التي ارتكبها الأكراد بحق الآشوريين فقط كي تعلم كيف أصبحتُ يتيماً. انه الماضي، لا تنتبه إليه على الإطلاق. واستطيع القول الآن لو أن الآشوريين كانوا أقوياء لقاموا بذبح الأكراد، مثلما فعل العرب بالأكراد، لأننا في النهاية كلنا ضحايا التخلف " أما التسامح مع الأعداء فسأختار له مثالاً سكينة وعدوتها زهرة أم البسطار العسكري التي لدغتها العقرب ومصت لها سكينة السم من إصبع قدمها. أو " الكلب عامل السينما" وتسامحك معه، أو محمد في مدرسة الرمادي الذي أصبحتم أنت وإياه أصدقاء ليقتنع نصرت شاه "أن أبناء العشائر لا يعتدون على الناس دون سبب". أو الرجل الذي يرتدي الدشداشة البيضاء والعقال الأسود ويجلد ابنه الذي "عفسك" بالبسكليت والتي تسميها متفاصحاً الدراجة الهوائية، لان حماس القومية العربية أخذك يومها و"عماك عمي" فصدمته! والحق كما تعلم لم يكن عليه، ويمكن أن نطلق على الحادثة "أولى مآسي القومية العربية وتباشيرها". كان يجب أن تعرف أنها نحس وأن الهتافات "عكا فين.. عكا بلدي" لم تجلب إلا المصائب. ورغم أن الحق لم يكن عليه فقد جاء والده وجلده أمامكم وقال لأمك كرجية: يا حاجة افعلي به ما تشائين " قم قبل يدي الحاجة (الآشورية المسيحية) علها تغفر لك " أما الفصل الخاص بالتسامح الديني فيمكنني أن أعثر عليه مبثوثا في كامل الكتاب لكني سآخذ مثالا عليه مقتبسا صغيرا : "أمي، منذ متى نعرف عائلة نصرت شاه؟" "لا أعرف. كنا دوماً معاً. أرضعت لهم فاطمة وإبراهيم، وأرضعت سكينة تيدي وجوي" وهكذا يصبح الآشوري العراقي أخاً بالرضاعة للعراقي الشيعي من أصل فارسي كما تذكر في كتابك. ولكن قل لي كيف استطاعت هذه الأنظمة أن تبدد كل هذا بسرعة خاطفة ؟ لقد كان تعاطفي الأبلغ مع كيكا حينما كان يفرح بشدة على سينما قرياقوس، وكان رأيي مثله تماماً أن: طز بالأزبري (حتى أني أقلد عفطته)، أمام المتعة التي تقدمها سينما قرياقوس. لكن من ناحية ثانية كرجية معها حق، كيف ستعيشون، يا صموئيل، لو التهى كيكا عن عمله بالمخبز، وأنت تركت بيع الأزبري (الذي لم أعرف ماهو)؟ كنتُ مشدوداً طوال الوقت الى هذا الخيط الشفاف المنسوج من الروح والذي يربطك بكيكا، لقد جعلتنا نشعر بكل هذا الحب الذي يبقيك معلقاً بكيكا والى الأبد، وكنت أقرأ الإشارات وأطابقها مع ذاكرتي البعيدة حيث كان هناك أخرس من عمرنا يلعب معنا، وكنا نتحدث معه دون صعوبة في التواصل عبر هذه الإشارات. أنظر يا صموئيل الى جملة كيكا هذه "إننا وافقنا أن يخرج جوي الى العمل، لان شمشون وتيدي وإبراهيم كانوا يذهبون الى المدرسة..." هل مررتها على لسانه أم قالها بحق السماء؟ من قرأ الكتاب سيعرف أن إبراهيم هو ابن نصرت وسكينة وأخيكم بالرضاعة. كيف يذهب كل هذا؟ "عمو موسى أرسلتنا أمي وقالت خذ لنا صور" نعم كنا نتسوق البيض... وأشياء كثيرة بعملة "أمي أرسلتنا" لقد بطلت هذه العملة يا صموئيل أليس هذا محزناً؟ أتعبتني يا صموئيل "والحنين الى الزمن الانكليزي" يفتك بكل من عايش ذاك الزمن، بل نحن الذين لم نعش لا زمناً انكليزياً ولا فرنسياً نحِنُّ الى زمن غامض غير هذا الزمن. لقد قلت الكثير في هذه الرواية دون رطانات تذكر عن عصر القومية العربية، الذي لخصته بالقليل القليل من الإشارات العابرة والتي لا يلزمنا أكثر منها لنعرف كم فتكت بنا الأنظمة الوطنية وكم أعادتنا الى بدائيتنا وكم أصبحنا "خرفان" متخلفة. نعم هذه هي. وإلا كيف يُبدد نسيج مدينة مثل الحبانية بهذه الروح الفاجرة؟ لا أخفيك أنني واجماً منذ أن أنهيت هذه اليوميات، كل من اتصل بي من الأصدقاء أسأله ألم تقرأ "عراقي في باريس" ؟ في الغالب يقولون لأ، أقول لهم انها رواية مذهلة وأنا نادرا ما أطلق هكذا تسميات بهذا الحماس الشديد. اعتقد أن زمنها سيتلبسني طويلاً، وربما سأهيم بالملكة إليزابيث بدلاً عن ... ( من كانت الملكة التي أحبها كيكا؟ ) هل قرأت "عراقي في باريس"؟ إنه الكتاب الذي نحتاجه في هذا الزمن، أنه نشيد موغل في عذوبة التسامح... حزين أنا جدا بعد خروجي من روايتك. لقد ضحكت علينا ياصموئيل، دسست لنا طُعم السخرية المرير في البداية وجعلتنا نضحك على "لماذا لا يحب العرب الأحذية؟ " و "ابتعد عن العرب في باريس" تلك الوصية التي يوصي بها الجميع ولا يلتزم بها احد. لكنك كـ "محتال "، تلبستنا حتى النهاية لتقول لنا هذا ما حصل في النصف الأخير من القرن الماضي. ولكن أين شميران الآن وكيف أولادها وماالذي حصل لشمشون هل ذهب الى سيدني؟ وتيدي في اي بلاد هو الآن؟ هل هو في ديترويت ؟ أما روبن فلا أستطيع أن احبس دمعي لمصيره. لقد أحببتهم يا صموئيل ولا تستخف بهذا، أريد أن اعرف ماذا حدث للبقية فأنت لم تذكر جون الصغير ولا ماري ولم تذكر نهرين فيما بعد أبداً، لماذا؟ تلك الطفلة الباهرة التي لم تذكر على لسانها سوى جملة واحدة، في صباحك الذي بدأت به طريقك الى هوليوود، لكن هذه الجملة كانت كافية لأحبها وتسكن ذاكرتي. يا الله كم هي الطرق دائرية وملتوية مثل المصير، لم يوصلك البحر الى هوليوود ياصموئيل ولا البر كذلك، لكنك حولت العائلة الآشورية الفقيرة التي "جاءت منذ ثلاث سنوات من الحبانية" الى نشيد للتسامح. ثق يا صموئيل أن كل من سيقرأ روايتك سيحب عائلتك سيتعلق بأفرادها ومصائرهم، لن ينمحوا من الذاكرة، انها رواية "زمننا المفقود". نشيد عذب يختلط فيه الضحك والدمع وفيض الحب بالتسامح. إنك تكتبنا يا صديقي.
التعليقات (0)