مواضيع اليوم

الذي حول سيرة العائلة الى نشيد تسامح

خلف علي الخلف

2009-03-02 22:04:04

0

ماذا فعلت بي أيها الـ"عراقي في باريس"؟


حين بدأت الكتابات في الصحف العربية عن " يوميات " صموئيل شمعون، ابتأست قليلاً، فلا أحب ‏الكتاب الذي يثير ضجيجا في الغالب، ولكني أقنعتُ نفسي أنه لابد كتب شيئا ساحراً، أو ما يدفعني ‏لقراءته على الأقل! أما يكفي شريط كيكا، الذي في كثير من المرات أفتح كيكا لأرى ما يقوله صموئيل ‏فيه، وأنطره، كي أقرأه من أوله، حينها أكون قد مسحت بصرياً مواضيع كيكا وحينما لا أجد شيئا ‏مثيراً لاهتمامي أكتفي به و... أخرج. ثم أني قرأت له مرة في كيكا "عندما أقام روبرت دي نيرو في ‏منزلي" وأعجبتني الخفة والتخفي الشديد للراوي خلف يوميات لا يدري أحد مدى واقعيتها، أو تخفي ‏صاحب اليوميات خلف مخيلة الراوي التي أضافت وعدلت على الصورة الأصلية للحدث ليخرج بهذه ‏الصيغة التي تضيع الحدود بين ماهو واقعي وما هو نتاج التخييل الروائي، فلا يفرق القارئ إن كان ‏يكتب يوميات أم أنه محض خيال! وما زال الأمر غير محسوم لدي. لابد أنه كتب شيئا يقرأ على الأقل ‏أقنع نفسي كلما قرأت عنواناً مادحاً للرواية.‏
حين تجولت في معرض الرياض كان بذهني أن أشتري كتابك "عراقي في باريس" وكتاب رفيق شامي ‏‏"التقرير السري عن الشاعر غوته" وهو ما حدث لكني اشتريت معهما كتاب نقدي لبول ريكور كي ‏أقوي نفسي في النقد رغم أني لا أطيق الكتب النقدية وأجبر نفسي على قراءتها. وقد دفعت خمسة ‏ريالات زيادة في كتابك يا صموئيل إلا أني أسامحك بها الآن وهو أمر أثار حفيظتي وقتها، إذ سألت ‏ناشرك: بكم هذه؟ فقال " إنها بـ " 15 " ريال وحين جلبتها للحساب سجلها عشرين فقلت له لكني ‏سألتك قبل قليل وقلت 15 فقال لم انتبه. استفزني الأمر لكني قلت أن صموئيل صاحبي ولا يهم خمسة ‏ريالات زائدة كي تفسد شرائي لكتابه. وخرجت ممتعضاً، ورويت الحادثة لكثير من الأصدقاء ‏فامتعضوا مثلي، رغم أن الأمر لا يعنيهم وأنا من دفع الخمسة ريالات زيادة، غير أنّا نحب الأشياء ‏غير الحميدة عمن نعرفهم كي نشهر بهم. وعلى العموم خالد المعالي ناشرٌ لكتب جيدة لكن اغلب من ‏يلتقي به في المعارض لا يحمل عنه انطباع حسن ولا ادري لماذا، ربما لأنه يكون بائع فقط حينها.‏
من أين ابدأ يا صموئيل؟ حسنا لقد ضحكتُ كثيرا على الوصف المختصر والحاد للتعذيب الذي تلقيته. ‏نعم ضحكت، وضحكت كثيراً عند اللقطة الأخيرة لمسيرة التعذيب. إنها تختصر الزمن العربي الآن ‏وأمس فكل جهاز يتفوق على الثاني ويجعل ما قام به الذي قبله مجرد مزحة. هل كان من المفترض أن ‏أتعاطف معك مثلاً! بالطبع لا، لأنك كنت خبيثاً وماكراً وأنت تنقل "تعذيبك" لنا، وأجزم انك كنت ‏تضحك وأنت تكتب هذه الفقرات، لا، بل يخيّل لي أنك بعد أن كتبتها ابتسمت بعيون تلمع كمن وجدها، ‏وقلت "نعم إنها صياغة مرضية وهذا ما أريده"! ولا أدري كم مرة عدلت وبدلت في الجمل لتخرج بهذه ‏الصيغة التي تجعلنا ونحن في أشد حالات التعاطف نضحك ونبتسم ليس على طرقهم في التعذيب، بل ‏على ردود فعلك عليه، أو طريقتك في وصفه. أعرفك جيدا تشقلبت على الفراش، وأنت تضحك بعد أن ‏كتبت ذلك. لنترك هذا جانبا وإن كان مهما. لكن سيظل مشهد مغادرتك الصباحي لأهلك محفوراً الى ‏الأبد في ذاكرتي نعم في ذاك الصباح أحببت، "نهرين" من بين الجميع وكان موقفي متعاطفاً فقط مع ‏كيكا (الذي سأحبه لاحقاً) وأحببت "تغالظك" على أمك، التي تسخر محقة "انه مسافر الى هوليوود" كان ‏يجب أن تضيف "دي بس انقلع " لتكون شبيه بأمي. هل تعلم أني أحس بسحر غامض لـ "يام"؟ هل ‏تصدقني أنني أشم رائحة ربيع تنبعث منها؟ رغم أننا ننادي أمهاتنا: يوم. آه يا صموئيل يوما ما عندما ‏أصبح وزيراً للتربية أو الإعلام أو أي حقيبة وزارية أخرى وهو ما سيحدث على الأرجح فيما لو نجح ‏انقلاب يقوده منذر مصري! صدقني نسيت أي حقيبة كنت ستستلم لو نجح الانقلاب في تونس "هل ‏ذكرت تونس أنت بالاسم في الرواية؟ ". نعم، حينها سأجعل روايتك تدرس في المدارس لنعيد النسيج ‏الذي كان. فقد كان أبو نازار الأرمني، الذي أراه في مواسم الحصاد فقط، لان لديه حصادات ويحصد ‏لنا زرعنا، يحلف عادة " بـ صلاة محمد " وهو اليمين الأشد قدسية في قرانا قبل أن تجتاحها الوهابية، ‏ورغم أن منطقتنا لا يوجد فيها أي شيعي وفق التقسيمات التي عرفناها لاحقاً، فقد كان هناك قسم تقسمه ‏النساء خاصة هو: "وعلي والنباية (الأنبياء) " أو، و"العباس" وهو يمين الصدق النهائي. ولم نكن ‏نعرف من هو العباس هذا، سوى أنه شيء مقدس ما. كما أنني حينما ذهبت الى المدينة " في الصف ‏العاشر" اكتشفت!! أن الأكراد ليسوا عرباً، ولم تدخل الفكرة مخي إلا بصعوبة شديدة بعد أن أكدها ‏والدي. ‏
أكراد صح لكنهم عرب!! كنت أعاند صديقي الكردي في المدرسة، وأقول له أنا أعرف ذلك اكثر منك ‏أنهم أقرباؤنا!. حين رأيت والدي قلت له"يابا صحيح الأكراد مو عرب؟! " لا ياوليدي الأكراد أكراد. " ‏شلون؟!! عمي (زوج عمتي) فلان، وقرايبه تقولون لهم الأكراد. يا وليدي، عاشوا بجبل الأكراد سنين ‏وسميناهم الأكراد. طيب بس عمي متجوز كردية" كلنا أهل ي وليدي كراد ولّا عرب ماتفرق"!!..‏
نعم يجب أن ندرس هذا الكتاب، إنه الكتاب الذي لا نظير له في التسامح في العربية! ربما لن تصدق ‏يا صموئيل أن الدمعة سكنت عيني مراراً في "حنينك للزمن الانكليزي" فأنت بعد أن ورطتنا في الخفة، ‏والضحكات التي كنا نطلقها بصوت عالٍ أحيانا، وبدون صوت في أحيان أخرى، في بداية الكتاب، ‏تركت لنا المآسي حتى نوغل قليلا في كتابك ولا نتركه. ففي القسم الأول من الكتاب كنت تسربها ‏ساخراً وفي القسم الثاني تسربها بحذر أقل أما في القسم الأخير يا لمكرك، أعرفك لعبتها بخبثٍ ومكرٍ ‏شديدين، فيومياتك مشغولة بإبرة دقيقة يصعب أن تكون "هكذا جاءت" بل أنه رغم سلاسة السرد ‏وبساطته وانسيابه إلا أني كلما دققت في جملة أقول انه ماكر إنه خبيث إنه يضحك علينا بإسلوبه ‏الشيطاني الذي يبدو عفوياً ..‏
ولكن قل لي هل شاهدت فيلم "نورمان ويزدوم في قوات المظليين" لأني حزنت جداً على عدم مشاهدتك ‏له بل انتقلت الغصة إلي رغم أنك سامحت نصرت شاه وهو السبب في عدم حضورك الفيلم. تعاطفتُ ‏معك بشدة حتى أحسست بخسارة شخصية لأنك لم تشاهد الفيلم رغم أن علاقتي بالسينما لا تتجاوز ‏علاقتك بالملف النووي الإيراني.‏
لو كنت ناقداً يا صموئيل لشرّحت التسامح في كتابك "لما لا أقول رواية لا ادري" ولكتبتُ كتاباً كاملاً ‏عن التسامح قبل الأنظمة القومية كما وردت في "عراقي في باريس". أو التسامح قبل العهد الوطني في ‏الدول العربية سرديات صموئيل شمعون مثالاً
وعندما أضع فصلا عن التسامح بين الإثنيات سأقتبس مثالا عليه "اسمع يا جوي أنا أخبرتك بالمجازر ‏التي ارتكبها الأكراد بحق الآشوريين فقط كي تعلم كيف أصبحتُ يتيماً. انه الماضي، لا تنتبه إليه على ‏الإطلاق. واستطيع القول الآن لو أن الآشوريين كانوا أقوياء لقاموا بذبح الأكراد، مثلما فعل العرب ‏بالأكراد، لأننا في النهاية كلنا ضحايا التخلف "‏
أما التسامح مع الأعداء فسأختار له مثالاً سكينة وعدوتها زهرة أم البسطار العسكري التي لدغتها ‏العقرب ومصت لها سكينة السم من إصبع قدمها. أو " الكلب عامل السينما" وتسامحك معه، أو محمد ‏في مدرسة الرمادي الذي أصبحتم أنت وإياه أصدقاء ليقتنع نصرت شاه "أن أبناء العشائر لا يعتدون ‏على الناس دون سبب". أو الرجل الذي يرتدي الدشداشة البيضاء والعقال الأسود ويجلد ابنه الذي ‏‏"عفسك" بالبسكليت والتي تسميها متفاصحاً الدراجة الهوائية، لان حماس القومية العربية أخذك يومها ‏و"عماك عمي" فصدمته! والحق كما تعلم لم يكن عليه، ويمكن أن نطلق على الحادثة "أولى مآسي ‏القومية العربية وتباشيرها". كان يجب أن تعرف أنها نحس وأن الهتافات "عكا فين.. عكا بلدي" لم ‏تجلب إلا المصائب. ورغم أن الحق لم يكن عليه فقد جاء والده وجلده أمامكم وقال لأمك كرجية: يا ‏حاجة افعلي به ما تشائين " قم قبل يدي الحاجة (الآشورية المسيحية) علها تغفر لك "‏
أما الفصل الخاص بالتسامح الديني فيمكنني أن أعثر عليه مبثوثا في كامل الكتاب لكني سآخذ مثالا ‏عليه مقتبسا صغيرا : "أمي، منذ متى نعرف عائلة نصرت شاه؟"‏
‏"لا أعرف. كنا دوماً معاً. أرضعت لهم فاطمة وإبراهيم، وأرضعت سكينة تيدي وجوي" وهكذا يصبح ‏الآشوري العراقي أخاً بالرضاعة للعراقي الشيعي من أصل فارسي كما تذكر في كتابك. ولكن قل لي ‏كيف استطاعت هذه الأنظمة أن تبدد كل هذا بسرعة خاطفة ؟‏
لقد كان تعاطفي الأبلغ مع كيكا حينما كان يفرح بشدة على سينما قرياقوس، وكان رأيي مثله تماماً أن: ‏طز بالأزبري (حتى أني أقلد عفطته)، أمام المتعة التي تقدمها سينما قرياقوس. لكن من ناحية ثانية ‏كرجية معها حق، كيف ستعيشون، يا صموئيل، لو التهى كيكا عن عمله بالمخبز، وأنت تركت بيع ‏الأزبري (الذي لم أعرف ماهو)؟ كنتُ مشدوداً طوال الوقت الى هذا الخيط الشفاف المنسوج من الروح ‏والذي يربطك بكيكا، لقد جعلتنا نشعر بكل هذا الحب الذي يبقيك معلقاً بكيكا والى الأبد، وكنت أقرأ ‏الإشارات وأطابقها مع ذاكرتي البعيدة حيث كان هناك أخرس من عمرنا يلعب معنا، وكنا نتحدث معه ‏دون صعوبة في التواصل عبر هذه الإشارات. ‏
أنظر يا صموئيل الى جملة كيكا هذه "إننا وافقنا أن يخرج جوي الى العمل، لان شمشون وتيدي ‏وإبراهيم كانوا يذهبون الى المدرسة..." هل مررتها على لسانه أم قالها بحق السماء؟ من قرأ الكتاب ‏سيعرف أن إبراهيم هو ابن نصرت وسكينة وأخيكم بالرضاعة. كيف يذهب كل هذا؟
‏"عمو موسى أرسلتنا أمي وقالت خذ لنا صور" نعم كنا نتسوق البيض... وأشياء كثيرة بعملة "أمي ‏أرسلتنا" لقد بطلت هذه العملة يا صموئيل أليس هذا محزناً؟
أتعبتني يا صموئيل "والحنين الى الزمن الانكليزي" يفتك بكل من عايش ذاك الزمن، بل نحن الذين لم ‏نعش لا زمناً انكليزياً ولا فرنسياً نحِنُّ الى زمن غامض غير هذا الزمن. لقد قلت الكثير في هذه ‏الرواية دون رطانات تذكر عن عصر القومية العربية، الذي لخصته بالقليل القليل من الإشارات العابرة ‏والتي لا يلزمنا أكثر منها لنعرف كم فتكت بنا الأنظمة الوطنية وكم أعادتنا الى بدائيتنا وكم أصبحنا ‏‏"خرفان" متخلفة. نعم هذه هي. وإلا كيف يُبدد نسيج مدينة مثل الحبانية بهذه الروح الفاجرة؟ لا أخفيك ‏أنني واجماً منذ أن أنهيت هذه اليوميات، كل من اتصل بي من الأصدقاء أسأله ألم تقرأ "عراقي في ‏باريس" ؟ في الغالب يقولون لأ، أقول لهم انها رواية مذهلة وأنا نادرا ما أطلق هكذا تسميات بهذا ‏الحماس الشديد. اعتقد أن زمنها سيتلبسني طويلاً، وربما سأهيم بالملكة إليزابيث بدلاً عن ... ( من ‏كانت الملكة التي أحبها كيكا؟ )‏
هل قرأت "عراقي في باريس"؟ إنه الكتاب الذي نحتاجه في هذا الزمن، أنه نشيد موغل في عذوبة ‏التسامح... ‏
حزين أنا جدا بعد خروجي من روايتك. لقد ضحكت علينا ياصموئيل، دسست لنا طُعم السخرية المرير ‏في البداية وجعلتنا نضحك على "لماذا لا يحب العرب الأحذية؟ " و "ابتعد عن العرب في باريس" تلك ‏الوصية التي يوصي بها الجميع ولا يلتزم بها احد. لكنك كـ "محتال "، تلبستنا حتى النهاية لتقول لنا ‏هذا ما حصل في النصف الأخير من القرن الماضي. ولكن أين شميران الآن وكيف أولادها وماالذي ‏حصل لشمشون هل ذهب الى سيدني؟ وتيدي في اي بلاد هو الآن؟ هل هو في ديترويت ؟ أما روبن ‏فلا أستطيع أن احبس دمعي لمصيره. لقد أحببتهم يا صموئيل ولا تستخف بهذا، أريد أن اعرف ماذا ‏حدث للبقية فأنت لم تذكر جون الصغير ولا ماري ولم تذكر نهرين فيما بعد أبداً، لماذا؟ تلك الطفلة ‏الباهرة التي لم تذكر على لسانها سوى جملة واحدة، في صباحك الذي بدأت به طريقك الى هوليوود، ‏لكن هذه الجملة كانت كافية لأحبها وتسكن ذاكرتي. ‏
يا الله كم هي الطرق دائرية وملتوية مثل المصير، لم يوصلك البحر الى هوليوود ياصموئيل ولا البر ‏كذلك، لكنك حولت العائلة الآشورية الفقيرة التي "جاءت منذ ثلاث سنوات من الحبانية" الى نشيد ‏للتسامح. ثق يا صموئيل أن كل من سيقرأ روايتك سيحب عائلتك سيتعلق بأفرادها ومصائرهم، لن ‏ينمحوا من الذاكرة، انها رواية "زمننا المفقود". نشيد عذب يختلط فيه الضحك والدمع وفيض الحب ‏بالتسامح. إنك تكتبنا يا صديقي.‏

خلف علي الخلف‏
كاتب سوري
khalaf88@hotmail.com

خاص كيكا


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات