السيد محمود المنتصر من الشخصيات الليبية التي لعبت دورا هاما في أستقلال ليبيا ، فقد تركزت عليه الأنظار لوقوفه على الحياد بين الأحزاب والشخصيات السياسية المتصارعة ، فرغم أنه كان عضوا مع بشير السعداوي في هيئة تحرير ليبيا ألا أنه لم ينضم الى حزب المؤتمرالوطني الطرابلسي الذي ترأسه السعداوي كما أنه لم ينضم الى حزب الأستقلال الذي الي كان يرأسه عمه السيد سالم عمرالمنتصر . ووجد فيه الملك إدريس (الأمير) والأدارة العسكرية الأنجليزية والمستر أدريان بلت المندوب السامي للأمم المتحدة الشخص المناسب الذي يمكنه الحصول على ثقة الأطراف المختلفة والتي كان التوفيق بينها مستحيلا . وبالأضافة الى مكانته ونفوذ عائلته في طرابلس كان مقبولا من ساسة برقة ومن عائلاتها السياسية التقليدية وحتى من قبائل برقة التي تعرف إن عائلة المنتصر من الأخوان السنوسيين منذ أمد بعيدعندما حل السيد محمد بن علي السنوسي الكبيرضيفا على عائلة المنتصر في مصراتة وهو في طريقة من الجزائر الى برقة والأراضي المقدسة . وبعد ذلك نشر دعوته وأقام الزوايا السنوسية في جميع أنحاء ليبيا شمالها وجنوبها وفي أقليم طرابلس وحل وأستقر في برقة في مدينة البيضاء ..ألا أن السيد محمود المنتصر كان موضع تحفظ لدى برقة لأن إنحيازه لتقوية سلطات الحكومة الأتحادية وثقة الملك القوية فيه قد تساعده على تقوية الحكومة الأتحادية والحد من إختصاصات الولايات كما فعل أُثناء فترة حكومته الأولى . لم يكن السيد محمود المنتصررحمه الله موضع ثقة مصر لعلاقته الوطيدة ببريطانيا ، ألا أنه كان يحظى بثقة الدول الملكية العربية المحافظة والأوربية بوجه عام. ولم يكن موضع ثقة الأمريكيين أيضا لكونه من الساسة التقليديين لهذا ترى فيه أمريكا خطرا لأنه قد لا يستطيع السيطرة على القوى المعارضة المتربصة ويعرض البلاد لأنقلاب شيوعي ، وغير مقبول من رجال الأعمال لأنه معروف بنزاهته المتناهية ولا يقبل مساومة أو واسطة لخدمة مصالحهم . ومنذ إعلان الاستقلال وتوليه رئاسة الحكومة الأتحادية كان على خلاف مع رئيس الديوان الملكي وناظر الخاصة الملكية أنذاك لأنهما عملا على التدخل في شئون الحكومة الأتحادية وخلق مشاكل لها عن طريق التعيين في الولايات شخصيات معارضة للحكومة الأتحادية .
السيد محمود المنتصر ينتمي ألى عائلة معروفة في مصراتة وسرت منذ العهد العثماني وهو حفيد عمر باشا المنتصر الذي كان قائمقاما على سرت في العهد العثماني لمدة اكثر من عشرين عاما وصاحب النفوذ القوي في مناطق مصراتة وسرت والقبائل البدوية فيها .
وكان والده السيد أحمد ضياء الدين المنتصر قد تولى عدة مناصب هامة في العهد التركي بالأضافة ألى كونه شاعرا وأديبا ومؤرخا .
ولد السيد محمود المنتصرفي مدينة العجيلات سنة 1903 حيث كان والده قائمقاما فيها . تربي ونشأ تحت رعاية والده الأديب فدرس القرأن والعلوم الدينية واللغة العربية ودخل المدارس الأيطالية أنذاك وبعد إتمامه الدرسة الأبتدائية والثانوية في طرابلس سافر الى إيطاليا وأنتسب إلى جامعة روما ودرس الأقتصاد السياسي . وبعد رجوعه الى طرابلس وتولى عدة مناصب إدارية عالية منها رئاسة مصلحة الأوقاف وأشرف على مكتبتها ووضع فيها مكتبة والده الغنية بالكتب النادرة ، كما تولى رئاسة المدرسة الأسلامية العليا ومستشارا للشئون العربية . وقد تدرب في هذه الوظائف وأعدته للدور الهام الذي كان سيلعبة بعد هزيمة إيطاليا وإحتلال القوات البريطانية والفرنسية لليبيا وفي فترة الأعداد للأستقلال وبعده .
لقد لعب السيد محمود المنتصر دورا هاما في فترة الأعداد للأستقال ، وكان عضوا فعالا في الجبهة الوطنية المتحدة وعضوا في وفدها ألى بنغازي للأجتماع بأعضاء الجبهة الوطنية البرقاوية لأقرار وحدة ليبيا وإستقلالها ، والأتفاق على نظام الحكم بما في ذلك إمارة السيد محمد إدريس السنوسي التي يعتبروها البرقاويون شرطا أساسيا للوحدة الليبية . ولم تنجح المباحثات بين زعماء برقة وطرابلس ، فقد أصر ممتلوا طربلس على المطالبة بالأستقلال ووحدة ليبيا تحت إمارة الأمير محمد إدريس السنوسي المشروطة بنظام ديمقراطي برلماني السلطة فية للشعب ، ورفض أي قرار بتقسيم ليبيا أو إستقلال قسم واحد منها في عزلة عن باقي أجزاء ليبيا . ولكن ممتلي برقة أصروا على مبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي بلا قيد أو شرط وإنقاذ ما يمكن إنقاده إي إذا تعدرث الموافقة على إستقلال كل ليبيا والوحدة يتم إستقلال برقة التي قامت بريطانيا بمنحها الحكم الذاتي تحت إمارة الأمير محمد المهدي السنوسي تنفيذا لوعد وزير خارجية بريطانيا المستر إيدن أثناء الحرب العالمية الثانية بعدم عودة برقة إلى الحكم الأيطالي تقديرا للدور الهام الذي لعبه الجيش السنوسي في مساعدة الحلفاء في حربهم ضد المحور المانيا وإيطاليا ، ثم العمل على إستقلال طرابلس وفزان وتحقيق الوحدة بعد ذلك . قامت الأدارات العسكرية التي إحتلت ليبيا بعد الحرب بتقسيم ليبيا إلى ثلاتة ولايات منفصلة تحت أدارات عسكرية مستقلة وطبقت فيها ثلاتة مناهج تعليمية فطبق المنهج التعليمي المصري في برقة والمنهج التعليمي الفلسطيني في طرابلس وطبق المنهج الفرنسي في فزان . وإتخاذ سياسات تجارية وصحية وأقتصادية مختلفة ، ووجهت تجارة برقة إلى مصر واليونان ، وفي طرابلس طورت العلاقات التجارية مع إيطاليا ، ولم يعد بوجد أي إتصال بين الولايات والطريق الساحلي أصبح غير صالح لربط البلاد ، وأنعدمت حتى التجارة بينها ، حتى بين الطلاب في الخارج فرغم أختيار مصر للتعليم الجامعي لطلاب برقة وطرابلس نظرا لعدم وجود تعليم عربي في تونس وأيطاليا لطلاب طرابلس فقد كلن وجود طلاب برقة وطرابلس في مصر فرصة للاتصال وتبادل الأفكارحول مستقبل ليبيا لأن الأتصال في ليبيا بين الطلاب والشباب الرياضي كان معدوما ، لكن الأدارات العسكرية فصلتا طلاب طرابلس وبرقة عن بعض فاسكن طلاب برقة في حلوان وطلاب طرابلس في المعادي وأدخلوا مدارس ثانوية مختلفة وجعلوا فرقا في مخصاصاتهم المالية ، ولم يكن في المستطاع للطلاب من برقة وطرابلس الاتصال بعضهم البعض وتنظيم نشاط سياسي أو ثقافي مشترك أما طلاب فزان فلم يعد أي منهم يعرف أين طراباس وبرقة
في هذه الفترة كانت المستعمرات الأيطالية السابقة ومنها ليبيا موضع مباحثات بين الدول الكبرى لتقرير مصيرها . ولما كانت بريطانيا قد منحت برقة الحكم الذاتي لبرقة مع الوصاية البريطانية عليها أما فزان فقد إستقرت تحت الحكم الفرنسي وضمت ألى أفريقيا الفرنسية ، وطلبت روسيا الوصاية على طرابلس وعارضت أمريكا ذلك لأنها لا ترغب في النفوذ الشيوعي أن ينتشر في جنوب البحر الأبيض المتوسط بعد توسعه في أوربا الشرقية وأصبح يهدد إيطاليا . وعملت أمريكا على ضم ولاية طرابلس إلى أيطاليا لتستطيع إقامة قاعدتها في طرابلس تحت مظلة إيطالية ، ودعما للحزب الديمقراطي المسيحي الأيطالي الذي أصبح مهددا بأنتصار الحزب الشيوعي وضم إيطاليا إلى الكتلة الشيوعية الأوربية ، ولم تكن روسيا تعارض هذا الحل دعما للحزب الشيوعي الأيطالي . ونظرا للخلاف بين الدول الكبرى أحيل موضوع تقرير مصيرالمستعمرات الأيطالية السابقة ألى الجمعية العامة اللامم المتحدة .
وبعد تقديم مشروع بيفن –سفورزا الى الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي كان يعبر عن الوضع القائم أنذاك في ليبيا وتقسيم البلاد إلى ثلات مناطق ووضعها تحت وصاية بريطانيا وإبطاليا وفرنسا ، قامت المظاهرات ضده في كل أرجاء ليبيا وخاصة في طرابلس . وبعد فشل مشروع بيفن سفورزا في الحصول على الأغلبية بصوت واحد هو صوت هايتي الذي صوت سفيرها صان لو ضد تعليمات حكومته . وبعد سقوط مشروع بيفن سفورزا قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إستقلال ليبيا الموحدة تحت التاج السنوسي ، وطلبت من الدول المحتلة فرنسا وبريطانيا بمساعدة مندوب الأمم المتحدة المستر أدريات بلت ومجلسه الاستشاري تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بأستقلال ليبيا قبل أول يناير 1952. وكانت الجامعة العربية قبل هذا قد قامت بأرسال هيئة تحرير ليبيا برأسة السيد بشير السعداوي وعضوية السادة محمود المنتصر ومنصور بن قدارة والطاهر المريض . وبعد خلافات بين زعماء طرابلس حول الأمارة أسس المؤتمر الوطني الطرابلس بدلا من الجبهة الوطنية التي إستقال رئيسها السيد سالم المنتصر وأسس حزب الأستقلال المعارض للسياسة البريطانية . وقرر المؤتمر الطرابلسي مبايعة السيد إدريس السنوسي بلا قيد ولا شرط . ورغم أن المستر بيلت مندوب الأمم المتحدة الذي بدأ مهمته سنة 1950 بمساعدة مجلس إستشاري كلف السيد بشير السعداوي بتعيين مندوبي طرابلس في لجنة الواحد والعشرين التي قررت تأليف الجمعية الوطنية بالتعيين والمساواة بين الأقاليم والتي وافقت بدورها على النظام الفدرالي ، إلا أن السيد بشير السعداوي والمؤتمر الوطني الطرابلسي الذي كان يضم معظم أطياف الشعب الطرابلسي وتأييد جمعية عمر المختار في برقة أعلنوا معارضتهم لتعيين لجنة الستين بالتساوي وإختيار النظام الفدرالي .ادى هذا إلى إنشقاق بعض أعضاء المؤتمرالطرابلسي المهمين وكبار التجار وعمداء البلديات والمشايخ وكبار موظفي الأدارة البريطانية الليبيين عن المؤتمر الوطني برئاسة سماحة مفتي ليبيا السيد محمد أبو الأسعاد العالم الذي أوكلت له مهمة تعيين أعضاء طرابلس في الجمعية الـتأسيسية بالتشاور مع الأحزاب . وهكذا تمت الموافقة على النظام الفدرالي ويرى المستر بلت مندوب الامم المتحدة ان الأتفاق بين زعماء برقة وطرابلس كان متعذرا فأصرار الطرابلسيون على الوحدة وإصرار البرقاوين على الفدرالية سيؤدي ألى فشل إعداد ليبيا للأستقلال ويعيد القضية الليبية ألى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتنظر من جديد في مشروع الوصاية التي قدم في مشروع بيفن سفورزا وهذا ليس من صالح الليبيين ، ولهذا فقد كان الحل الفدرالي كخطوة أولى لوحدة ليبيا هو الحل ، والوحدة قد تتحق في فترة الأستقلال والأستقرار .
في هذه الأثناء ألفت الأدارة العسكرية البريطانية مجلسا إداريا لولاية طرابلس برئاسة السيد محمود المنتصر الذي أصبح بعد ذلك يعرف بحكومة طرابلس وعين السيد محمود المنتصر رئيسا لها وذلك أسوة بحكومة برقة . وبذلك أصبح في ليبيا ثلات حكومات لولايات مستقلة ذات سيادة برقة وطرابلس وفزان لا تربطها رابطة . وبعد موافقة الجمعية التأسيسية على الدستورالفدرالي عينت السيد محمود المنتصر رئيسا لحكومة ليبيا المؤقتة . وبعد إعلان إستقلال ليبيا يوم 24 ديسمبر 1951 عين الملك أدريس السيد محمود المنتصر رئيسا للوزراء للحكومة الأتحادية الأولى ، .وبعد إجراء أول إنتخابات لمجلس النواب كلفه الملك بتاليف الحكومة الاتحادية الدستورية التي وقعت المعاهدة البريطانية بموافقة البرلمان . ورغم أن الدستور الليبي كان من أحدث الدساتير الحديثة إلا أن تطبيق النظام الفدرالي أظهروجود ثغرات فيه وواجه صعوبات في الأيام الأولى للأستقلال . فقد حاول رئيس الديوان الملكي وناظر الخاصة الملكية أنذاك أثارة مشاكل أمام رئيس الوزراءالأتحادي بأصدار مراسيم ملكية لتعيين الولاة والمجالس التنفيذية دون موافقة رئيس الوزراء مما جعل ليبيا رسميا ثلات دول برئيسها وحكومتها وبرلمانها تحت تاج الملك أدريس وحكومة لدولة إتحادية هلامية تحت التاج السنوسي. وأثار هذا التفسير للدستور الليبي النزاعات بين الولايات والحكومة الأتحادية . وإضطر بعدها السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء ألى رفع الأمر للمحكمة العليا التي حكمت ببطلان مراسيم التعينات الولائية دون توقيع رئيس الوزراء . وكانت هذه الخطولة الأولي في طريق الوحدة الليبية وضمنت تبعية الولايا ت للحكومة الأتحادية دستوريا وسياسيا . ورغم ذلك تعذر تنفيد حكم المحكمة مما إضطر السيد محمود المنتصر ألى الأستقالة رغم العلاقات التي تربطه بالملك والأخلاص لعرشه . وعين بعد ذلك سفيرا لدى بريطانيا ثم سفيرا في روما وتقاعد بعد ذلك . ولما قامت مشكلة المظاهرات ضد عدم حضور الملك لمؤتمر القمة العربي الاول في القاهرة سنة 1963 التي بدات في بنغازي ولاحقت القوات المتحركة الطلاب في مدارسهم وقتلوا بعص الطلاب فتجاوبت طرابلس وباقي مدن البلاد وعمت المظاهرات البلاد ، وثم إيقاف كبار ضباط قوة دفاع برقة . وأعقب ذلك إستقالة الدكتور محي الدين فكيني من رئاسة الحكومة لخلافه مع الفريق محمود أبو قويطين حول أحداث المظاهرات ، كلف الملك السيد محمود المنتصر بتأليف حكومته الثانية . والسيد محمود المنتصر الذي قدم خدماته الكثيرة لليبيا إلا أن صفاته الأصيلة لا يعرفها الأ من يعايشه عن قرب ، كنزاهته الى حد المبالغة وحكمته النادرة وحنكته السياسية الثاقبة وخبرته الطويلة في الشئون العامة واخلاصه الأصيل للوطن والملك وحبه اللا محدود للشعب وصراحته الصادقة ، وقد أستقبل تعيينه رئيسا للوزراء للمرة الثانية بعدم الرضا من معظم طبقات الشعب . واعتبرت الجماهيرتعيينه تحديا لأرادتها من طرف الملك خاصة أنه جاء بعد حكومة الدكتورمحي الدين فكيني الشعبية الذي وقف في صف الشعب ضد الشرطة وسياسة العنف . كان الأعتقاد أن السيد محمود المنتصر جاء لتجديد المعاهدة البريطانية وأنهاء الأنتفاضة الشعبية ، بل حتى الأنجليز والأمريكان لم يلاقي هذا التعيين ترحيبا لديهم ، لأنهم كانوا يتخوفون بأن يتهموا من طرف الشعب الليبي بأنهم أتوا به خدمة لمصالحهم وللقضاء على الجو الوطني الذي نشره الدكتورمحي الدين فكيني مما يزيد من نقمة الشعب عليهم ويعرض مصالحهم للخطر.
في هذه الظروف قبل السيد محمود المنتصر تاليف حكومته الثانية على مضض فالظروف لم تكن في حال حسن ، والشعب في أنتفاضة يتفاعل مع الأحداث العربية ، والرئيس عبد الناصر أتخذ من مهاجمة الأستعماروالقواعد العسكرية الاجنبية والصهيونية سلاحا للسيطرة على المنطقة العربية . كما أن صحة السيد محمود المنتصر لم تكن على ما يرام فقد كان يشكو من مرض ضغط الدم وأمراض الشيخوخة العديدة الأخرى .
السيد محمود المنتصر من الساسة القدامي الذين يؤمنون بالتعاون مع الدول الغربية خاصة بريطانيا والمحافظة على علاقة ليبيا الوثيقة بالدول العربية والجامعة العربية، لكنه غير مؤمن بقدرة العرب على مساعدة ليبيا فالعرب جميعا يعانون من التخلف والفقر والجهل والمرض وهم في حاجة للمساعدة وليس لديهم ما يقدمونه لليبيا ، ألا أنه كان يثوق ألى فرصة كسب ثقة فئات الشعب الليبي التي فقدها بتوقيعه المعاهدة البريطانية الليبية . وكانت فرصة توليه الحكم من جديد قد تمكنه من ألغاء المعاهدتين البريطانية والأمريكية أو تعديلهما وأنهاء وجود القواعد العسكرية في ليبيا خاصة أن وضع ليبيا المالي قد تحسن ولم تعد ليبيا في حاجة الى مساعة مالية لتغطية مصروفاتها الأدارية وكان يرى في قرارة نفسه أن قرارإلغاء المعاهدة البريطانيةغير سليم وليس في مصلحة أمن ليبيا ولكنه سينفذه تلبية للرغبة الشعبية العارمة رغم المخاطر المحتملة من مصرأوالجزائرعلى ليبيا طمعا في ثرواتها النفطية . والشئ الذي كان يخشاه هو الا يستطيع أقناع الملك بأتخاذ مثل هذا الأجراء الخطير، فهو يعرف رأي الملك في العلاقات البريطانية الليبية وحرصه على التحالف الليبي البريطاني وخوفه من نفوذ مصر. ومن حسن حظ السيد محمودالمنتصر فأن خطاب الرئيس جمال عبد الناصر الذي هاجم القواعد العسكرية في ليبيا وطالب لبيبيا بألغائها قد أعطاه الفرصةلأعلان ما كان مصمما عليه . سارع السيد محمود المنتصر حال توليه الحكم الى أعادة الأمن ألى نصابه في البلاد وتلطيف الجو الشعبي الملتهب في بنغازي ضد قوات الأمن وقد ساعدته على ذلك علاقاته الوطيدة مع زعماء بنغازي وصداقته لمدير عام الأمن الفريق محمود أبو قويطين الذي يعتبر السيد محمود المنتصر الشخص الأمثل والمخلص لحماية عرش أدريس ، رغم الأختلاف في الرأي بين المنتصر وبوقويطين حول نقل الحكومة الاتحادية من البيضاء الى طرابلس .
فاجأ الرئيس جمال عبدالناصر الحكومة الليبية بخطاب قوي هاجم فيه القواعد الأجنبية في ليبيا مطالبًا بجلاء القوات الأجنبية عن التراب الليبي. وخوفًا من تجدد المظاهرات وأعمال العنف إضطرت حكومة السيد محمود المنتصر إلى إصدار بيان أعلنت فيه عدم رغبتها في تجديد المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية بعد إنتهاء مدتهما التي كانت تقارب النهاية. ورغم رغبة السيد محمود المنتصر في المضي إلى أكثر من هذا وقراره مع نفسه بإلغاء المعاهدة والاتفاقية وجلاء القوات الأجنبية كما بينت، إلا أنه كان غير واثق من رد فعل الملك إذا أشار إلى موضوع الإلغاء. وقد فوجئ الملك بتصريح الحكومة، إلا إنه لم يأخذه بمحمل الجد وأعتبره للاستهلاك المحلي لتجنب رد فعل الشعبي لخطاب الرئيس عبدالناصر وهو يثق في رئيس حكومته .
بعد ذلك أثير الموضوع إلغاء القواعد العسكرية في البرلمان الذي طلب من الحكومة إلغاء المعاهدات والاتفاقيات العسكرية وجلاء القوات الأجنبية وإعطاء الحكومة فرصة لأبلاغ ذلك إلى بريطانيا وأمريكا. وبذلك طلبت الحكومة الليبية من الحكومتين الأمريكية والبريطانية الدخول في مفاوضات للنظر في إنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية. وفي مارس 1964 أعلن السيد محمود المنتصر بدء المفاوضات في البرلمان، ثم أعقبه بتصريح يوضح فيه بأن الهدف من المفاوضات هو إنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية وتصفية القواعد العسكرية وتحديد موعد لجلاء كل القوات الأجنبية عن ليبيا.
بعد تصريحات رئيس الوزراء وموقف البرلمان المتشدد شعر الملك بأن الموقف أخذ يخرج من سيطرته وأصبح قرار الإلغاء وتحقيق الجلاء واردًا لا محالة، بعد أن سارع رئيس حكومته الأمين والمخلص والمفضل عنده إلى الأستجابة لجميع مطالب مجلس الأمة وتصريحاته الصريحة بإنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقيات العسكرية وجلاء جميع القوات الأجنبية، وأنه أي رئيس الوزراء الوفي، قد قرر السير مع التيار لتحسين سمعته لدى الرئيس عبدالناصر ومجاراة التيار القومي..
وقد فوجئ رئيس الوزراء ورئيسا مجلس الشيوخ والنواب بأستدعاء الملك لهم في بيته
بمدينة مسة قرب مدينة البيضاء وإبلاغهم بأنه قرر الاستقالة، وطبعًا رفض الحاضرون حتى مجرد التفكير في ما قاله الملك لهم، وبينوا له بأن البلاد لن تستقر بدونه وإنها أحوج إلى زعامته في هذه الظروف، ولكنه في نهاية المقابلة سلم إلى رئيس الوزراء الاستقالة مكتوبة وموقعة منه ليؤكد إصراره وسافر ألى طبرق وطلب من رئيس الوزراء تنفيذ الاستقالة ..
.
وفي صباح اليوم التالي تجمعت في طبرق جماهير القبائل وضباط وأفراد الجيش والشرطة يتقدمهم رئيس الوزراء ورئيسا الشيوخ والنواب ورئيس المحكمة العليا ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن العام والوزراء والنواب وكبار رجال الدولة، وساروا في مظاهرة إلى القصر الذي يوجد فيه الملك . وبعد ساعات من الوقوف والهتاف في حر الظهيرة الذي كان صعبًا على كبار المسئولين من كبار السن والمرضى، سمح الملك لرئيس الوزراء ورؤساء مجلسي الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والوزراء وبعض كبار المسئولين بالدخول إلى القصر، وتحدث معهم عن ظروفه الصحية التي دفعته إلى الاستقالة. وبعد سماع وجهة نظرهم وحاجة البلاد إليه في هذه الظروف وافق على سحب إستقالته وأمر حرسه برفع علمه على القصر في الشرفة المطلة على الجماهير.
تعالت هتافات الجماهير المحتشدة في طبرق بالتأييد والدعاء له بطول العمر بعد أن عرفت أن الملك تراجع عن إستقالته. وخرج الملك إلى شرفة القصر محاطًا بكبار رجال الدولة وأعلن أنه إستقال لأسباب صحية وليس لأي سبب آخر وأن الحكومة تقوم بمهمتها على ما يرام، ونزولًا عند رغباتهم قرر الرجوع عن الأستقالة رغم ما يعانيه من مرض وضعف، ووعدهم بأنه لن يموت إلا بينهم. وفي هذه الأثناء سلمه رئيس الوزراء ورقة إستقالته فأخذها منه وقطعها إربًا إربًا صغيرة .
وقد قرر الملك حضور المؤتمر الثاني للقمة العربية سنة 1964وبوفد كبير يشمل رئيس الوزراء. وقد سافر الملك برًا مرورًا بمنطقة الحمامات شرقي الإسكندرية حيث كان يقيم في المهجر. وسافر رئيس الوزراء بالطائرة ونزل بفندق فلسطين في الإسكندرية الذي أعد لإقامة الملوك والأمراء ورؤساء الدول، وكان الملك قد أعد له قصر خاص في الإسكندرية وقصر الطاهرة بالقاهرة للإقامة فيهما أثناء المؤتمر.
وحال وصول السيد محمود المنتصر الأسكندرية إستلم مكالمة هاتفية من قصر رئيس الجمهورية ليبلغ بأن الرئيس عبدالناصر سيستقبله الساعة الثالثة بعد الظهر في قصر التين بالإسكندرية. وكان عبدالناصر مشغولًا بأستقبال الرؤساء والملوك الذين كانوا يصلون تباعًا، وكانت تلك لفتة كريمة منه، فالسيد محمود المنتصر لم يكن رئيس الوفد الليبي وكان الملك قد وصل فعلًا برا منذ أيام واستُقبل رسميًا. في تفس الوقت كان السيد محمود المنتصر يتوق إلى مقابلة الرئيس عبدالناصر، فقد قاسى من خطابه حال تأليفه للحكومة الثانية وإنتقاد عبد الناصر للقواعد العسكرية في ليبيا وما خلفته من جو قاتم ورد فعل من الشعب الليبي والمظاهرات التي تبعته، كما أن موقف الثورة المصرية من حكومته الأولى لم يكن على أحسن حال.وأستقبله الرئيس عبدالناصر منفردًا بترحيب خاص مستفسرًا عن صحته، وقال له لقد حرصت على مقابلتك حال وصولك لأني أريد توضيح بعض الأمور، لقد سمعت أن البعض أساء تفسير الخطبة التي ألقيتها بعد تأليفك لحكومتك الثانية ومهاجمتي للقواعد العسكرية البريطانية بأنها موجهة ضدك شخصيًا وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق، فأنا لم أتمكن بالاجتماع بك في الماضي ولا أحمل أي شئ ضدك، بل أقدر جهودك وعملك في بناء الدولة الليبية والظروف الصعبة التي واجهتها . وأضاف الرئيس عبدالناصر بأنه كان في تلك الخطبة يرد على تصريحات ضده في مجلس العموم البريطاني في الليلة السابقة للخطاب وأتهم بأنه يعمل ضد بريطانيا ويثير القلاقل في الدول العربية، وكانت القواعد العسكرية البريطانية في ليبيا وقبرص إحدى النقاط التي أثارها لأنتقاد السياسة البريطانية في المنطقة، ولم يخطر بباله بأنه يتعرض لمسألة قد تثير المشاكل للحكومة الليبية في ظرف صعب كما سمع بعد ذلك، فهو يعرف الظروف التي وقعت فيها المعاهدة البريطانية الليبية ووضع ليبيا المالي الضعيف آنذاك.
وقد سر الرئيس عبدالناصر بأن الحكومة الليبية بدأت أخيرًا المفاوضات مع البريطانيين لتصفية القواعد العسكرية، وقال إن بريطانيا لا تستحق عطف العرب، فهي مصدر المشاكل في المنطقة العربية، ولهذا فجلاؤها عن ليبيا خطوة لتحرير المنطقة من تدخلاتها المستمرة في شئونها وإستغلالها لمواردها ونشر الفتنة بين دولها. أما بخصوص القواعد الأمريكية فإن تصفيتها يجب أن تتم كذلك، ولكني لا أريد من الحكومة الليبية أن تضغط على الحكومة الأمريكية للجلاء حالًا، بل أعطوها الوقت اللازم الذي تطلبه لإيجاد مكان آخر لقاعدتها، فأمريكا دولة عظمى، والكل في حاجة إلى مساعداتها في صراعنا مع إسرائيل وحل المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ولا نريد إجبارها على نقل قاعدتها الكبيرة في طرابلس إلى إسرائيل مثلًا، وهي تستطيع خلق مصاعب لنا كلما زاد ضغطنا عليها، ثم تناول بعد ذلك المشاكل العربية وجدول أعمال مؤتمر القمة. وكان خلال المقابلة بشوشًا ومرحبًا، كما رحب بحضور الملك للمؤتمر الذي خصص له قصرًا خاصًا لإقامته، لأنه أكثر راحة من الفندق المزدحم مع جميع الرؤساء .
زيارات السيد محمود المنتصر الرسمية أثناء فترة حكومته الثانية.
قام السيد محمود المنتصر بزيارة السعودية لتهنئة الملك فيصل باسم الملك إدريس باعتلائه العرش على رأس وفد كبير ضم رئيسا مجلس الشيوخ والنواب ورئيس أركان الجيش وبعض الوزراء، وقد استُقبل الوفد استقبالًا عظيمًا، وأستقبل الملك فيصل الوفد في مكتبه الخاص بمفرده.
وفي أول ديسمبر 1964 قام السيد محمود المنتصر بزيارة رسمية إلى تونس والمغرب والجزائر على رأس وفد كبير ضم عددًا كبيرًا من الوزراء في أول زيارة رسمية لوفد ليبي على هذا المستوى. ففي تونس كان في استقبال الوفد في المطار رئيس الوزراء السيد الباهي الأدغم
وأستقبل الرئيس أبو رقيبة السيد محمود المنتصر والوفد المرافق له وأعطاه الوشاح الأكبر وأقام مأدبة غذاء فخمة على شرف الوفد، حضرها رئيس وزراء تونس ووزير خارجيتها ورئيس البرلمان التونسي. انتهت الزيارة بعقد اتفاقيات ثقافية وتجارية كالعادة وإصدار بيان مشترك.
ومن تونس سافر الوفد الليبي إلى المغرب، وكان في استقباله رئيس الوزراء المغربي السيد أحمد بحنيني والوزراء. أقام ولي العهد الأمير عبدالله مأدبة عشاء صغيرة على شرف رئيس الوزراء الليبي، كما أقام رئيس الوزراء المغربي مأدبة غذاء على شرف الوفد الليبي. وأستقبل الملك الحسن الوفد في قصره بالرباط ورغم أن العلاقات الليبية المغربية بعد الاستقلال لم تكن على ما يرام ، إلا أن العلاقات تحسنت بعد الزيارة. وقد استُقبل الملك الحسن أثناء زيارته لليبيا إستقبالًا رسميًا وشعبيًا لم يكن يتوقعه، وفي خضم جماهير طرابلس ترك سيارته وترجل في شارع عمر المختار بطرابلس وسار مع عشرات الألوف من الليبيين المتحمسين له،
وانتهت زيارة الوفد للمغرب بأصدار ببان مشترك يشيد بالعلاقات بين البلدين وتأكيد رغبتهما في عقد اتفاقيات تتناول المجالات التجارية والاقتصادية والثقافية وتبادل الزيارات وتنسيق مواقفهما السياسية، وحاجة ليبيا إلى الاستعانة بالعمال المغاربة في مشاريعها التنموية.
وبعدها قام السيد محمود المنتصر والوفد المرافق بزيارة الجزائروكان الاستقبال الجزائري منقطع النظير. وكان على رأس المستقبلين الرئيس أحمد بن بلة ونائباه هواري بومدين ومحمد السعيد، وكانت الجماهير على طول الطريق من المطار إلى قصر الشعب تستقبل الوفد الليبي بالزهور والزغاريد. كانت الزيارة أول زيارة يقوم بها وفد ليبي على هذا المستوى والحجم بعد استقلال الجزائر وصدر بيان بعد إنتهاء الزيارة يرسم الخطوط العريضة للتعاون بين البلدين، كما وقعت معاهدة صداقة بين البلدين .
وقد تولت حكومة السيد محمود المنتصر إجراء الأنتخابات النيابية سنة 1964 إلا أن ظروف رئيس الوزراء الصحية أجبرته على السفر إلى لندن للعلاج ثم توالت أخبار الحملة الأنتخابية والأعتقالات والتجاوزات أثناء الحملة الأنتخابية ، وأضطر رئيس الحكومة إلى الأتصال بالملك ذاكرًا له عما يسمعه من تدخلات، راجيًا منه أن يصدر تعليماته إلى رئيس الوزراء بالوكالة لوقف مثل هذه التدخلات، كما طلب منه أن يقبل إستقالته نظرًا لعدم سماح الأطباء له بالسفر للعودة إلى الوطن للأشراف على الأنتخابات بنفسه نظرًا لظروفه الصحية السيئة. كان رد الملك عليه صدمة لرئيس الوزراء فقد طلب منه في برقية مشفرة، بأن لا يستمع إلى ما يصله من إشاعات كاذبة أو شكاوى فردية غير صحيحة، وأن الانتخابات تجري بصورة جيدة ومرضية، وأن على رئيس الوزراء الاهتمام بصحته وعدم التفكير في أمور أخرى، وهوأي الملك يتابع مجرى الانتخابات عن كثب طوال فترة غيابه، وطلب منه عدم التفكير في الاستقالة الآن، فهذا موضوع يجب أن يبحث بعد عودته.
عاد رئيس الحكومة إلى ليبيا بعد إنتهاء علاجه بعد الانتخابات وسمع أخبارًا كثيرة عن التدخلات أثناء الأنتخابات والأعتقالات، والكل كان يلوم رئيس الوزراء فهو المسئول الأول. وكان رئيس الوزراء مصممًا على حل مجلس النواب المنتخب الذي ضم مجموعة من أصحاب النفوذ ومجموعة سياسية قوية من اصحاب المصالح على رأسها السيد محمد عثمان الصيد رئيس الوزراء السابق، ، ولما طلب رئيس الوزراء من الملك حل مجلس النواب تغاضى الملك عن طلبه ووافقه على تعديل الوزارة..
بعد التعديل الوزراي واجه السيد محمود المنتصر معارضة قوية في المجلس الجديد، لأن النواب الجدد إتهموا رئيس الوزراء بالتهرب من المسئولية ووضعها على غيره، وتعريض سمعة المجلس الجديد للتشويه أمام الشعب. وهكذا أخرجت المعارضة الوطنية من مجلس النواب لتحل محلها معارضة مصلحية. وقد أدى ذلك إلى سوء الحالة الصحية لرئيس الوزراء حتى أصبح لا يأتي إلى مكتبه إلا نادرًا، تاركًا العمل لنائبه السيد حسين مازق، الذي كانت ترشحه الإشاعات لرئاسة الحكومة بعده.
وسافر السيد محمود المنتصر بعد تعديل الوزارة للعلاج ونزل في فندق الجراند هوتيل في روما، واستقبل المستر أدريان بيلت مع فريق من الخبراء القانونيين المعروفين، وقد إجتمع بهم رئيس الوزراء ودرس معهم تعديلات دستورية بأمر الملك. وكان الموضوع سريًا.
بعد رجوع رئيس الوزراء إلى طرابلس من العلاج وجد مجلس النواب في حالة تحدي لحكومته وله شخصيًا. وأشاع النواب أن رئيس الوزراء استدعى شركة إيطالية لدراسة مشروع الطريق الساحلي وشككوا في الهدف من وراء ذلك، ، وكانت الإشاعات قوية على مختلف المستويات الرسمية والشعبية. وقد تصدى لها السيد السنوسي الأطيوش ودحض الاكاذيب التي كان تشاع وبراءة السيد محمود المنتصرمنها . وكانت برقية النواب الموجهة للملك ضد رئيس الوزراء التي وقعها معظم النواب هي القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، إذ اعتبرها رئيس الوزراء مقدمة لسحب الثقة من حكومته،
وحتى النواب المعتدلين كانوا يؤيدون المعارضة من وراء ستار لعدم حصولهم على مناصب وزارية أو مزايا مالية، ولهذا قدموا إقتراحات بتعديل لائحة العطاءات المركزية بحيث يسمح لأعضاء مجلس الأمة الاشتراك في العطاءات والمناقصات العامة الحكومية ، الأمر الذي تحرمة اللائحة المعمول بها.
ولكن حكومة محمود المنتصر رفضت هذا الأمر، ولما لم تفد هذه الضغوط على الحكومة حول الشئون المالية لجأ النواب إلى موضوع أنهاء القواعد العسكرية وجلاء القوات الأجنبية، الموضوع الذي تتحاشاه الحكومة تجنبًا لإثارة الجماهير الشعبية. ولكن النواب أخطأوا في حكمهم هذا لأن تعرضهم لموضوع أنهاء القواعد العسكرية الحساس للملك أضعف ثقة الملك فيهم وأصبح في صف رئيس الوزراء ضدهم. وهكذا صدر مرسوم بحل مجلس النواب وإجراء إنتخابات جديدة جرت في فترة رئيس الوزراء السيد حسين مازق نظرا لأستقالة السيد محمود المنتصر.
.
تـعديـل الدسـتور
طلب الملك من المستر أدريان بيلت عن طريق السيد محمود المنتصر عندما كان رئيسًا للحكومة في سنة 1964 إعداد دراسة قانونية عن تعديل الدستور الليبي. وقد سافر فعلًا رئيس الوزراء إلى روما واجتمع في الجراند هوتيل بالمستر بيلت والمستر زولفيجر وبآخرين لدراسة الموضوع. كما أن المستر بيلت جاء إلى طبرق ومعه بعض المستشاريين للتشاور مع الملك والحصول على محاضر الجمعية الوطنية التأسيسية (لجنة الستين) التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية بواسطة اثنين من أساتذة اللغة العربية بجامعة كمبريدج البريطانية هما فرانك ستيوارت وديفيد جاكسون. وفي سنة 1965 كلفني السيد محمود المنتصر بموافقة رئيس الوزراء السيد حسين مازق بالسفر الى جنيف وإحضار مظروف منه والعودة به إلى طرابلس دون أن أتكلم عن هذه المهمة . وبعد عودتي سلمت المظروف ألى السيد محمود المننصررئيس الديوان الملكي . وبعد أيام طلب مني ترجمة ترجمة محتويات هذا المظروف من اللغة الأنجليزية ألى اللغة العربية بامر الملك . وكانت هذه المحتويات تتضمن مشروع دستور جمهوري لليبيا أعد من طرف الفريق القانوني برئاسة المستر أدريان بلت بأمر الملك . وكان مشروع هذا الدستور المقترح يضم معظم ما كان في الدستور الملكي القائم أنذلك من حقوق وواجبات مع تعديلات طفيفية لتحويل نظام الحكم في ليبيا ألى حكم جمهوري برلماني ، ينتخب فيه رئيس الجمهورية ونائبه مباشرة من الشعب كل أربع سنولت ، وهو الذي يعين رئيس الحكومة بأقتراح من مجلس النواب وتقسيم البلاد إلى محافظات ، وتركيز كل السلطات والتعيينات في المناصب الحكومية الرئيسية في يد مجلس النواب وأنتخاب مجلس للشيوخ . وقد قمت بترجمة مشروع الدستور بخط يدي في مكتب رئيس الديوان في بيته ولم يسمح لي الأحتفاظ بورقة واحدة . وسلمت المشروع وترجمته الى رئيس الديوان الذي أرسله بدوره ألى الملك ولم أعرف شيئا عما تم فيه , وبعد أسابيع قامت موجة من الأحتجاجات ضد تغيير الحكم من القبائل في برقة وكل محافظات ليبيا . وقيل أن رئيس الحكومة حسين مازق أوعز إلى مستشاري القبائل والمحافظين بذلك ، وأن الملك كان غاضبا على من تسبب في تسريب هذه المعلومات .
إستقالة السيد محمود المنتصر
إستدعى الملك رئيس وزرائه السيد محمود المنتصر لتأليف حكومتة الثانية بعد مواجهته لأصعب أزمة داخلية في عهد الدكتور محي الدين فكيني إعتقادًا منه أنه الشخص الوحيد الذي يمكن أن يرجع الأمور إلى نصابها، ولكن سياسة محمود المنتصر القديمة وصداقته وعلاقاته مع البريطانيين أصبحت موضع شك وأصبح ميالًا إلى مجاراة الموجة الوطنية العربية التي يتزعمها الرئيس عبدالناصر وما في ذلك من خطورة على إستقلال ليبيا. كما أن البريطانيين والأمريكيين توقعوا ذلك حال قدومه إلى الحكم في سنة 1964م،
لقد أوضح السفير البريطاني السير رودريك ساريل في تقاريره العديدة حول هذا الموضوع شكه في حكمة الملك إدريس وراء إختياره للسيد محمود المنتصر رئيسًا للحكومة في تلك الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد. ، وقد نصح السفير البريطاني حكومته قائلا: "إن الصديق القديم السيد محمود المنتصر الذي تعرفه بريطانيا سنة 1952م ليس هو السيد محمود المنتصر اليوم سنة 1964م، ولهذا يجب أن تكون الحكومة البريطانية حذرة ومدعوة إلى تفكير جديد حول سياسة بريطانيا نحو ليبيا وعلاقاتها معها في المستقبل،
ورغم أن الملك لم يكن منزعجًا مما يفكر فيه السيد محمود المنتصر، بل كان يرى سياسته هذه نهجًا لتهدئة الرأي العام الليبي، وأنها لن تمس التحالف الليبي البريطاني الليبي وستقتصر المحادثات المعلن عنها على إعادة توزيع القوات الأجنبية وإبعادها عن المدن الكبيرة المزدحمة بالسكان كطرابلس وبنغازي. إلا أن السفير البريطاني واصل إنتقاده لسياسة السيد محمود المنتصر في نهاية سنة 1964م في تقاريره العديدة قائلًا: "إذا استعرضت أحداث سنة 1964م فيمكن الجزم بأن تصرفات السيدين محمود المنتصر وحسين مازق لم تكن سليمة أو مخلصة". كما وردت في تقارير السفيرالبريطاني العديدة السابقة عن مقابلاته مع السيد محمود المنتصر بالذات بأنه لم يتخذ أي إجراء لكبح القدر الهائل من الحملة الأعلامية و الصحفية ضد القواعد والمعاهدات العسكرية، ولم يقتصر عمله بعدم إتخاذ قرار بوقفها بل سعى سرًا إلى تشجيع الحملة الإعلامية لإضعاف أية معارضة من الملك لتغيير سياسته المعروفة نحو القواعد العسكرية .
وفي آخر مقابلة للسيد محمود المنتصر مع الملك في 20 مارس 1965م ذكره هذا الأخير بأستقالته التي قدمها له عند ما كان في لندن للعلاج أثناء الانتخابات ونظرا لظروفه الصحية وكثرة المشاكل التي سيواجهها خاصة إن البلاد مقبلة على إنتخابات جديدة ستواجها نفس المشاكل وحاجته إلى الراحة، رأى تكليف السيد حسين مازق بتأليف الحكومة الجديدة بدون تغيير في أعضائها، وتعيينه هو رئيسًا للديوان الملكي بدلا من السيد على الساحلي الذي سيعين سفيرا في لندن .
من المواضيع التى أنجزتها حكومة محمود المنتصر هي تعديل قانون الخدمة المدنية ويرجع الفضل فيه إلى السيد عبدالله سكتة الذي عين وزيرًا للخدمة المدنية.
كما أثار موضوع جعل توقيت العمل صباحًا ومساءًا فغضب كل الموظفين الذين تعودوا العمل في الصباح وحتى الثانية ظهرًا ليتفرغوا لشراء حاجياتهم وقضاء مصالحهم بعد الظهر، خاصة وأن المرأة في ليبيا لا تخرج لشراء حاجيات البيت وتنتظر من الرجل ليقوم بذلك، كما أن صغار الموظفين كانوا يزاولون أعمالًا أخرى مسائية لتحسين دخلهم لمواجهة غلاء المعيشة، وقد أدى تذمر الموظفين هذا في عهد حكومة السيد حسين مازق إلى إلغاء نظام الفترتين والرجوع إلى نظام الفترة الواحدة.
من نقاط الضعف التي تؤخد على السيد محمود المنتصر إلغاؤه لرخص إصدار بعض الصحف التي تحاملت على الحكومة خلال مفاوضات الجلاء، إلا أن تعيينه للسيد خليفة التليسي وزيرًا للأنباء والإرشاد أحدث تحسنًا في علاقات الحكومة مع الصحافة نظرًا لعلاقة السيد التليسي برجال الصحف ورجال الفكر وفتح قنوات تعاون وتفاهم معهم للمصلحة العامة وعدم إستخدام الإثارة الصحفية للجماهير. أدخل السيد محمود المنتصر عددًا كبيرًا من الشباب في حكومته مثل السادة خليفة التليسي وعبدالحميد البكوش ومنصور كعبار ومصطفى بن زكري وعبدالمولى لنقي ومحمد المنصوري وفؤاد الكعبازي وغيرهم، كما أقنع الدكتور علي عتيقة بقبول منصب وكيل وزارة التخطيط، وعين عددًا كبيرًا من الشباب في منصب وكيل وزارة وأسند لغيرهم مسئوليات هامة، وأبعد عددًا من الموظفين التقليديين من كبار السن والموظفين المعينين سياسيًا غير الأكفاء وغير المؤهلين. وأذكر أنه إقترح على الملك تعيين السيد منصور الكيخيا وزيرًا للاقتصاد فاعترض عليه الملك واستبدله رئيس الوزراء بعد ذلك بالسيد منصور كعبار.
وكان السيد محمود المنتصر يقول في فترة حكومته الثانية إن شئون الحكم تغيرت عما كانت عليه في السنوات الأولى للأستقلال ، ومهام الوزارات أصبحت فنية تحتاج إلى متعلمين وخبراء لتسييرها، وقد أغضبت هذه السياسة الموظفين القدامى، وكان معظمهم قد عينوا سياسيًا، وكذلك الوجهاء وأعضاء مجلس الأمة الذين كانوا يعتقدون أنهم أولى وأحق بمناصب الوزراء والسفراء والوظائف العليا والسياسية العليا من الشباب المتعلم قليل لخبرة .كما حاول السيد محمود المنتصر الوقوف في وجه تدخل كبار رجال الأعمال وعلى رأسهم السيد عبدالله عابد والحاشية .
ورغم تعيين السيد محمود المنتصر رئيسا للديوان الملكي إلا أن دوره السياسي إنتهى باستقالته من حكومته الثانية وأستمر في منصبه حتى إنقلاب ستمبر سنة 1969 وإدخاله السجن رغم شيخوخته ومرضه العضال فقد كان يعاني من إرتفاع دم غير عادي وأمراض السكر والشيخوخة ، ولم يكن وضعه الصحي يسمح بالبقاء في سجن قديم لا تتوفر فيه وسائل الحياة وبالوقوف امام المحكمة . وقد توفي رحمه الله في يوم 30 ستمبر 1970 في مستشفي السجن يوم جنازة الرئيس جمال عبد الناصر
التعليقات (0)