مواضيع اليوم

الذاكرة تثمر في الشمال البارد

حنان بكير

2010-10-21 06:27:52

0

قبل اسبوع جاء حفيدي فابيان، في زيارته الروتينية لتمضية عطلة نهاية الأسبوع عندي.. وبعد اتمامه لكافة طقوس الوصول والاستقبال من ضم وشم وعناق.. مدّ فابيان يده بكيس صغير وقال لي: " هاي تفاحات فابيان من جدتي مريانّا! مكررا جملته باللغتين العربية والنرويجية بنفس الطلاقة!
كانت التفاحات الحمراء جميلة ومتناسقة، ورائحتها تنبىء بحداثة قطافها.. لم أستطع ضبط فوضى مشاعري.. ربما كنت قد نزفت دموعا في داخلي.. لم أشأ ان اظهر للطفل ما قد يكدر مزاجه، بأمور تستعصي على قدرة استيعابه!
حدث قبل سنتين وخمسة أشهر، ان ضمّتنا احدى صالات الانتظار الواسعة في أحد المستشفيات النرويجية.. جلسنا بانتظار انبثاق حياة جديدة.. واستعدادا للمناسبة وبدون تنسيق مسبق او اتفاق ارتدينا جميعا الملابس بألوان الربيع.. وكان الربيع على وشك الرحيل باتجاه الصيف.. عجبت من تجمع تلك العائلة النرويجية التي تجمعت بأكملها مع كاميراتها، بانتظار الحدث ! فنحن أقنعنا أو خدعنا أنفسنا بفكرة تفكك الروابط العائلية في المجتمعات الغربية!!
صرخة فابيان الأولى جاءت لنا بالفرح والضحكات، ولوّنت أحاديثنا بلون وردي يشبه صفاء الروح.. كنا نتقافز مع كاميراتنا لالتقاط الصور له ومعه.. نتناقله برفق وخوف.. ورغم عدم وضوح ملامحه كنا نتأمله و نخمّن ما يحمل من ملامح أمه الفلسطينية وملامح ابيه النرويجي!
آن للضيف الجديد أن ينعم بقيلولة بعد رحلة مرهقة فصلت بين تاريخين في حياته.. و آن لأمه ان تطبق عينيها على صورة لفرح جديد .. خرجت مع الجدة النرويجية التي هي أيضا ما زالت تعيش لحظة الدهشة الأولى. توقفت فجأة و قالت: ماذا سنفعل الآن؟ كان واضحا انها تبحث عن شكل آخر للتعبير عن الفرح..
هل عندك أي فكرة لمشروع؟ أما أنا فلديّ مشروعي... قلت لها.
أرى ان نقوم بزرع الأزهار على بلكون ولدينا! ما رأيك؟ أجابتني وبريق الفرح يشع من عينيها..
رائع جدا.. أجبتها. وفكرتي ... ايضا ان نزرع شجرة! ارتسمت في عينيها علامات الدهشة والاستغراب.. وتهدلت على عيني غلالة حزن رقيقة، كما أخبرتني هي لاحقا..
كان يا ما كان منذ قديم الزمان وحتى الزمن القريب من عام نكبة عام 1948. أن كان من ضمن طقوس ولادة طفل جديد في العائلة، ان نقوم بغرس شجرة صغيرة وحديثة الولادة في حديقة البيت، وتحمل اسم المولود أو المولودة الجديدة.. ويكبران معا.. ليس مهما نوع الشجرة.. زيتونة او شجرة تين أو برتقال، أو شجرة قشطة التي غرس أبي الكثير منها في مدخل الحديقة.. هذا ما قالته لي أمي.. فهل كانت هذه نبوءة مبكرة عند اسلافنا، لما هو آت، فأرادوا توثيق العلاقة بالأرض؟؟
اخوتي الذين سبقوني في الوجود، وعوا شجراتهم ويذكرونها وسقوها الماء بأيديهم الطريّة.. أما شجرتي فقد غرست قبل رحلة التيه القسريّ بأشهر قليلة، فقد ولدت في الزمن الصعب، الذي فصل بين تاريخين جد مختلفين.. تاريخ ينسخ تاريخا سبقه في الوجود.. فمحا لون العلم.. واستبدل أناسا بآخرين...
جارة أمي بالكاد غرست شجرة لوليدها الجديد وأٌقسرت على الرحيل بعد ساعات فقط ، وعلى أمل غيبة تدوم خمسة عشر يوما وتعود..
تأثرت الجدة النرويجية لهذه الرواية، وأعجبتها حميمية هذا الطقس.. ومن أقرب مشتل لنا، وقع خيارنا على شجرة تفاح صغيرة، كتب في بيانها الذاتي، أنها تحمل موسمين من التفاح، موسم للتفاح الأصفر وآخر للتفاح الأحمر! وفي حديقة بيتها الخلفية غرسنا معا الشجرة وغنينا لها كل بلغته.. ولأصحاب الحدائق التي تطل على حديقتها كانت تخبرهم سرّ هذه الشجرة.. فأبدوا دهشتهم واعجابهم بهذا التقليد !
قبل أسبوع حضر حفيدي مع أولى ثمرات تلك الشجرة، التي بدأت موسمها بلون الحب والدم.. توزعت أولى الثمرات على أفراد العائلة، بمن فيهم القاطنون في مناطق بعيدة.. فقد ارتحلت تفاحات فابيان الى مناطق باردة بعيدة لتحكي حكاية ذاكرة تستعصي على النسيان...
تقاسمت اول حبة تفاح مع صديق عزيز.. ومع أول قضمة منها، أحسست بطعم ورائحة وطن مشتهى، ما زال يواصل نموه في الوجدان والذاكرة...

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !