مواضيع اليوم

الذات الإلهية واليمين الدستورية!

ممدوح الشيخ

2009-02-09 21:20:53

0

 

بقلم/ ممدوح الشيخ

حدثان يفصل بينهما (زمانا) أيام، ويفصل بينهما (مكانا) محيط، ويفصل بين معنى كل منهما اختلاف ثقافي يزداد تعمقا بين شرق الأطلنطي وغربه، بين ارتفاع ملحوظ لتأثير الدين في الشأن العام: السياسي والثقافي والاجتماعي في أمريكا، ورغبة مخططة في تقليص هذا التأثير في القارة الأوروبية. فبدءا من السجال حول دور الدين في الدستور الأوروبي (2003)، وصدور القانون الفرنسي لحظر الرموز الدينية المعروف بـ "قانون الحجاب" (2004)، مرورا بأزمة "الرسوم المسيئة" (2005)، التي كشفت الدرجة الكبيرة من التطرف في استخدام حرية التعبير إزاء المقدسات الدينية في أوروبا، والقضية مطروحة وتتجه على كل جانب من جانبي الأطلنطي في اتجاه معاكس للآخر تماما!

فقبل قليل من تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما قام مايكل نيوداو، أحد أبرز الشخصيات الملحدة والمدافعة على الإلحاد في أمريكا مع 10 منظمات ملحدة و18 شخصية أخرى برفع دعوى قضائية مطالبين بحذف الإيحاءات الدينية من قسم تنصيب الرئيس، ويعنون بذلك حذف جملة "ساعدني أيها الرب" من نهاية القسم الدستوري. كما تعارض المجموعة قيام رجال الدين بإلقاء الكلمات الافتتاحية ومباركة المراسم والفترة الرئاسية المقبلة لأنها، غالبا تتسم بالإشارات الدينية وذكر الله. وتقول المجموعة في الدعوى إن ذكر الرب في القسم الرئاسي ليس له ضرورة سوى تأكيد قضية واحدة هي الاعتراف بوجود الرب، وهو أمر لا يؤمن به الملحدون.

وهم يعتبرون الإشارة للرب في القسم الرئاسي خرقا للدستور الأميركي الذي يفرض حظرا على إدخال الدين في السياسة. وقد رفض القضاء الفيدرالي الأمريكي المطالبة، حيث ينص الدستور الأمريكي أن القسم الرئاسي يجب أن يكون:

"أقسم (على الكتاب المقدس) وأقر بأنني سوف أقوم بتنفيذ متطلبات منصب رئيس الولايات المتحدة بكل أمانة وسأبذل كل جهدي للحفاظ على دستور الولايات المتحدة وحمايته والدفاع عنه".

وهذه ثالث محاولة من مايكل نيوداو لحذف تلك العبارة من القسم منذ عام 2001 وكل محاولاته فشلت.

           الكاتبة ريتشيل وايزمن، المتخصصة في قضايا الإعلام والدين، كشفت أنه جرى العرف في الولايات المتحدة أن يقدّم كل رئيس أمريكي منتخب طلبا لرئيس المحكمة العليا قبل حفل تنصيبه يطلب فيه الموافقة على تضمين عبارة "ساعدني يا رب" في القسم، مشيرة إلى أوباما تقدم فعلا بهذا الطلب. وهي لا تعتبر قرار القضاء برفض دعوى الملحدين مستغربا في بلد ينقش عبارة (نثق بالرب) على الدولار لتصبح هذه العبارة جزءا من الثقافة الوطنية.

        وبينما يكتسب البعد الديني في السياسة الأمريكية المزيد من الرصيد ويتحول بالتدريج إلى سمة من سمات الهوية الأمريكية، يثير البعد الديني في السياسة في أوروبا العديد من السجالات بوصفه ضيفا "غير مرغوب فيه"!

        وتشهد هولندا هذه الأيام فصلا من فصول هذا السجال حول مشروعية حضور الدين وبخاصة في حال تعارض حضوره مع حريات فردية في مقدمتها "حرية التعبير"، فقد أعلن قبل أيام في هولندا أنها تتجه إلى التخلي عن "تجريم الإساءة للذات الإلهية، فقد أصبح متوجبا علي الحكومة إلغاء المادة 47 من قانون العقوبات التي تمنع الإساءة للذات الإلهية. وتساند الأغلبية في البرلمان الهولندي مقترحا لإلغائها، لكن الائتلاف الحاكم منقسم حول المسألة، فالحزب المسيحي الديموقراطي، أكبر أحزاب الائتلاف الحاكم وحزب الاتحاد المسيحي الصغير، يعتقدان أن المادة ذات قيمة رمزية، لكن حزب العمل الهولندي الشريك الثاني في الائتلاف الحاكم، يساند أحزاب المعارضة ويري أن هذه المادة تجاوزها الزمن.

        المشهدان يعكسان هوة قيمية وثقافية تتسع بين شاطئي الأطلنطي، وتعكس كذلك توجها أوروبيا في التفكير والممارسة والتوجهات التشريعية يمكن فعلا أن يكون من أخطر ما يتهدد العلاقات بيننا وبين الأوروبيين على كل الأصعدة. ففي ظل الميراث المرير من الإساءة للإسلام في الثقافة الأوروبية من الخطاب الاستشراقي إلى الصورة الإعلامية، وعلى خلفية الصدامات التي شهدتها السنوات القليلة الماضية من "الأيات الشيطانية" لسلمان رشدي إلى الرسوم الدانماركية المسيئة، فإن المعايير السائدة في الثقافة الأوروبية إزاء الدين يمكن عند تطبيقها على الإسلام أن تسبب مشكلات كبيرة.

        وإذا وسعنا دائرة النظر مستعيدين النقاشات التي أثارتها محاولة دول إسلامية سن تشريع دولي يجرم الإساءة للأديان، فسيكون بإمكاننا تخيل المشكلات التي يرجح أن تكون بانتظارنا.

وفي الحد الأدنى هذا ملمح من ملامح الاختلاف بين ما هو شرق الأطلنطي وما هو غربه بإزاء القضية الأهم في التاريخ الإنساني، ومن ثم في الاجتماع الإنساني، والتباين في الموقف منها يعكسه بوضوح تام الحكم القضائي الصادر مؤخرا في أمريكا ومشروع القانون المعروض للتعديل في هولندا، والمراد رفع صفة التجريم عنه ليس الإساءة لاختيار فقهي (متشدد أو معتدل)، ولا الانحياز لتفسير معين (راجحا كان أو مرجوحا)، بل المطلوب رفع صفة التجريم عنه "الإساءة للذات الإلهية"!

ولا تعليق!!!

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !