ظل في جحره أكثر من أربعين عاما مختفيا و مزهريته الجميلة لا تغادر غرفته و الزنبقة تتلاشى في زواياها...، اعتاد على بقْر الشويهات و هي صامتة ، يتلذذ بفجيعتها كل ليل ، كلّ مغيب ، كلّ ظلمة شديدة ...يهددها بجنونه ... ذات ليلة ، و بينما كانت الخراف نائمة ، اشتدّ البرق و الرعد ، استيقظت على وقع أقدام خشنة تتقدم نحو البيت لم تذكرذلك لأمّها ، اصطنعت النوم لصرف نظرها و هي تراقبها ، عزمت الخراف على كتم الأمر ، المطر ينهمر ...تكشف الأم- من جهتا - الغطاء لتسترق السمع في هدوء و حذر ... تتسلل إلى ثقب يشبه النافدة ...تنظر إلى العالم الخارجي ... لم يشبع ذلك فضولها ، تضع رداء على رأسها ، تتوجه إلى الباب الذي ظلّ موصدا لأعوام ...، تصفعها ريح خفيفة كمن استيقظ من نومه...تنذرها بشيء ....تلتفت ذات اليمين و ذات الشمال ...لا شيء سوى آثار كلاب ضالة و قطط عبثت و تركت المكان اعتادت على اللعب هنا و هناك تتربص بالصغار ملأ آثارها الماءُ المنهمر...أزعجها برق يلوح في الأفق...يزيد من روعها تختفي ...الأمّ مترددة في إلقاء نظرة خلف البيت بعد أن نحجت في فتح الباب ، يدفعها فضولها للنظر مرة أخرى و لكن هذه المرة كما لو أنّها تشعر بوجود شيء مختف !!! .
بخطى خفيفة جدا تتوجه إلى المكان ، تضغط بيدها على فمها و بالأخرى تتلمس الجدار الذي كثرت نتوءاته و صقعته السنون ، يؤلمها قليلا و طرف ردائها تلعب به الريح في كل اتجاه ...في المقابل وميض على سطح الماء القريب منها ...في هذه اللحظة و على أثرها تتقدم الخراف ، اجتمعت ظلالهم في هذه الظلمة الشديدة و برودة الطقس الموجعة ، لم تنتبه لخرافها ، استشعرت أمرا ما...سيحدث ، لم تجد شيئا ، و لكنّها تعتقد بوجوده ، توجهت إلى طَرق كلّ الأبواب التي حرمتها منها الكلاب و اللصوص ، تهمس : افتحوا الباب استيقظوا...كما لو أنّها أدركت ما ينتظر الجميع ...استمرت... تطرق المدينة بابا...بابا...في تلك الليلة تدفقت الشوارع بسيولها ، كان ذلك مع موعد الكلاب الضالة ، نباحها يقترب ممتزجا بعواء ، يشتدّ...
- صوت : تماسكوا تماسكوا .
يخرج الجميع ... مع اشتداد هطول الأمطار ... زحف الموكب في كلّ اتجاه... !!!
- صوت ثان : عو عو عو...
- صوت آخر : احذروا ! إنّها مكلوبة ! ، ارفعوا صوتكم ، لا تدعوها بينكم ، إنّها تحب امتصاص الدماء ، و عندما تشبع تعبث ، احذري أيتّها الخراف ...
استمر الصراخ و النّداء و العواء و الدوي في كل مكان ... اختلطت الأصوات ، اقترب الخليط من كل حدود المدينة ، ازداد عذاب الذئاب ، النعاج ولدت خرافا ، تكاثر السرب ، احترقت الخفافيش لما توهج ضياء الشمس ، اشتدّ بياض المكان و توهجت زواياه على ظلمته ، شيء ما يحرّك العصي ، تتوعد العواء و تملأ فراغاته ضربا أسطوريا ، حينها شكّل الرسام لوحته ، لم ينس رسم الشمس في أعلى الزاوية التي لاح منها الصبح ، تشرّدت الكلاب و الذئاب واللصوص و القطط عندما أعدم الرسام أشكالها بالرمادي و اختفت خلف العدم... ، تفقدت الأم خرافها التي أصبحت كباشا تناطح و ترفس ... تروي حكايتها لأبنائها كلّ ليلة بإعجاب......و تسقي المزهرية من مائها...انتشت الزنبقة...و عمّ الهدوء الزنقة...
- قالت الأمّ لخرافها لن يعود الذئب إلى زنقتنا...
باتوا جميعا مسرورين من غيرفزع .
التعليقات (0)