من خلال متابعة ما يطرح في ثنايا الخطاب الديني من فتاوى متناقضة
وردود فعل العامة تجاهها يتبين لك بجلاء الخلط الواضح بين الدين والعادات وعلماء الدين والمشائخ بمختلف مراتبهم .
فالسائد في الوعي الشعبي هو موافقة الدين للعادات من خلال تحريم ما تُحرم العادات بشكل مباشر أو غير مباشر كسد الذرائع ، وما خالفها فهو حرام قطعي حتى لو كان حلالا بنص ثابت أو مختلف في تفسيره .
ومن الأمثلة على ذلك الفصل بين النساء والرجال في ميادين العمل والدراسة من أبرز العادات ، فكان تحريم الاختلاط أمرا قطعيا ومسلم به ، والغناء لا يتفق مع العادات لدى مجتمع الجزيرة العربية فكان تحريمه أمرا قطعيا ومسلم به ، وغير ذلك مما يتعلق بالمرأة من قضايا مختلف فيها كغطاء الوجه والنقاب و العمل . أو كان غريب على المجتمع كقيادة المرأة للسيارة حيث جاء تحريم ذلك من باب سد الذرائع وما كان تحريم قيادة المرأة للسيارة – كمثال - إلا لأنه شيء غريب ودخيل على عادات المجتمع ،
وكل فتوى تتفق مع العادات والتقاليد في هذا السياق هي الحق من الله .
وهكذا وجد البعض ضالته في جذب العامة بقوة في فلك شخصه من خلال
موافقة خطابه الديني للعادات والتقاليد بغض النظر عن الآراء المخالفة وبغض النظر عن ثبوت الاختلاف في الأحكام الدينية تجاه ما يناقض خطابه الديني .
وكل فتوى تحول أي محرم متفق مع العادات إلى حلال قطعي يخالف
ما ألفه الناس واعتادوا عليه حتى لو صدرت من شخصية محسوبة
على التيار الديني فأن أول من يسقط تلك الشخصية من "أبراج الشيوخ"
هم العامة قبل أن يسقطها أو حتى يحاججها بأدب علماء الدين المعهود أي رمز من رموز التيار الديني باعتبارها شخصية خرجت بفتواها المخالفة عن صياغة دينية للعقل المتلقي تبدو متفق عليها سلفا ، وهي صياغة وجدت من توافق الفتوى مع العادات والتقاليد آلية ذات فاعلية قوية استطاعت مع ما تراكم في الوعي الثقافي أن تجعل من الشيخ جزء لا يتجزأ من المنظومة الدينية في الوعي المجتمعي الشعبي ..
وبعد فتوى الشيخ أحمد الغامدي التي تؤكد على بدعية تحريم الاختلاط كان آخر مثالا على هذا الترابط بين الدين والشيخ والعادات فتوى الشيخ
عادل الكلباني في تحليل الغناء ، وهو أمر محرم من جميع رموز التيار الديني السعودي بالإجماع ، فكان أول من تصدى له بأسلوب القذف والسب والشتم والتقريع والاستهزاء هم غوغاء المواقع الالكترونية إلى درجة أن بعضهم هاجم شخصه فقبح شكله ووصف أنفه ولونه الأسود بما ترسب في عقول العامة من ثقافة العنصرية تجاه من يسمونهم بالعبيد !!
على هذا الأساس استطيع القول : أن هذا مما يثبت قوة تأثير العادات في نفوس الناس أقوى من تأثير الدين ، وأن الشيخ الذي يحظى بمنزلة في أذهان العمامة تكاد تتخطى منزلة الأنبياء والرسل سرعان ما يسقط من تلك المنزلة بمجرد إفصاحه عن فتوى تخالف العادات تحريما أو تحليلا ، وأن ذلك مما يثبت عدم قدرة الخطاب والوعظ الديني المكثف على تشرب العقل المتلقي من العامة لمبادئ الدين الحقيقية التي تنأ بالمسلم خُلقا عن السباب والشتم والاستهزاء وتحقير ذات الآخر وشخصه مهما كان خطأه . فحتى لو كان رأي المخالف ليس فقط للشيخ المنزه عن الخطأ ما لم يخالف العادات بل للعادات نفسها صب عليه غوغاء العامة الذين يشكلون أغلب أتباع الشيخ المتوافق مع العادات .. صبوا عليه جام غضبهم ولعناتهم ! وهم لا يعلمون أو ربما هم لا يريدون ذلك أن معظم المحرمات وفقا للعادات وليس بنصوص الدين الثابتة هي من الأمور المعروفة لدي المحرمين ولها وضع خاص لعدة اعتبارات يطول المجال بشرحها .
يقول الشيخ الدكتور سلمان العودة – وذلك كما ذكر أحد المعلقين على فتوى الشيخ الكباني - : لو أفتيت بكل ما أرى سواء بالتحليل أو التحريم فلن يتقبل المجتمع . ويكمل المعلق قوله : " أن البيئة هي من يفرض على الشيخ نمط الفتوى بالحلال والحرام ".
واعتقد أن إضافة المعلق على قول الشيخ سلمان العودة إضافة صحيحة ولكن ليس من باب الفرض بل من باب واقع الامتيازات التي يضفيها فرض المجتمع على المفتى وهي امتيازات عظيمة تتحقق بمجرد التخصص الفقهي ثم الإفتاء بما يتفق مع العادات والتقاليد .
تركي سليم الأكلبي
التعليقات (0)